بينما ذهبت أنظار الجميع إلى دول أوروبا وتركيا، بعد الإعلان عن الاتفاق النووي مع إيران، باعتبارها أكبر الدول المستفيدة، خاصة على المستوى الطاقة، حيث تحاول أوروبا الهروب من قبضة الغاز الروسي بالحصول على غاز إيران، وعلى المستوى التجاري، بالنظر لرغبة الشركات الأوروبية والتركية في الحصول على نصيب لا بأس به من كعكة الاقتصاد الإيراني الكبير، فات على البعض أن ينظر إلى منطقة أخرى تترقب بشغف رفع العقوبات عن إيران: أسيا الوسطى.
أسيا الوسطى والنافذة الإيرانية
ما لبثت أنباء الاتفاق النووي أن انتشرت حتى وصل الرئيس التركي إلى طهران لزيارة نظيره الإيراني، ثم تلى ذلك استقبال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من قِبَل نظيره القازاقي يرلان إدريسوف ورئيس كازاخستان نورسلطان نزارباييف في العاصمة القازاقية أستانة، والتي أعلن فيها ظريف أن “لا سقف لتوسيع علاقة إيران مع القوقاز وأسيا الوسطى”، بينما صرّح نزارباييف أن بلاده مهتمة بشدة بتوطيد الشراكة بين البلدين كجزء من إعادة إحياء طريق الحرير التجاري، مشيرًا إلى خط سكة حديد كازاخستان – تركمنستان – إيران الذي افتُتِح العام الماضي، والتعاون الجاري الآن بين الدول المطلة على بحر قزوين الغني بالغاز، والتي لاتزال ترسّم الحدود فيما يخص نطاق السيادة البحرية لكل منها.
تعبّر تلك الكلمات بوضوح عن حماس بلدان أسيا الوسطى لانفتاح السوق الإيراني على أوروبا وتركيا، أولًا لأنها تعاني من مخاطر الارتباط الوثيق بروسيا نتيجة تراجع الأخيرة اقتصاديًا في الأشهر الماضية بعد أزمة أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو، وثانيًا لأنها تبحث عن تنويع الاستثمارات فيها قدر الإمكان لكيلا تصبح فريسة للهيمنة الصينية بالكامل، وثالثًا لأن إيران المتصلة جغرافيًا بباكستان، والمتصلة بالهند عن طريق البحر العربي، جسر لبلدان المنطقة إلى الاقتصاد الهندي الذي لا يسعها أن تصل له بسهولة نتيجة الاضطراب الأفغاني والصراع الباكستاني الهندي في كشمير.
بالإضافة لذلك، سيكون فتح باب التعاون بين تركيا تحديدًا وإيران مهمًا لأسيا الوسطى، إذ تتمتع بلدانها بالفعل بعلاقات وطيدة مع تركيا، مما سيجعل انضمام إيران الواصلة جغرافيًا بينهما لهذه الدائرة ذي أهمية جيوإستراتيجية وتجارية كبيرة، علاوة على قدرة تلك البلدان معًا على التنسيق بينهما فيما يخص الطاقة وتصديرها إلى الغرب، حيث تُعَد إيران الطريق الأقصر للوصول إلى أوروبا، كما أنها ليست هي معقل الغاز الوحيد بالمنطقة، فتركمنستان وأذربيجان أيضًا تمتلكان النفط والغاز، وقد تستطيع تلك البلدان معًا تشكيل “تحالف طاقة” في السوق العالمي، لاسيما بموقعها الإستراتيجي بين الاقتصادات الأوروبية والهندية والصينية المتعطشة للطاقة.
من ناحية أخرى، تعتبر زيارة أردوغان ذات أهمية نظرًا لتعاون البلدين لوقت طويل، رُغم المنافسة التاريخية بينهما في أسيا الوسطى، لخلق كُتلة اقتصادية وتجارية بقيادتهما معًا تجذب المنطقة، وتخلق توازنًا مع الدورين الصيني والروسي، وهو توازن بوسع التنسيق الإيراني التركي المشترك أن يحققه، وهو الذي يتجسّد منذ سنوات في منظمة التعاون الاقتصادي Economic Cooperation Organization، والتي يقع مقرها في طهران، وتحاول خلق “حزام” تركي إيراني تجاري بشكل واسع يحقق الأهداف المشتركة للبلدين.
الحزام التركي الإيراني
تأسست منظمة التعاون الاقتصادي عام 1985 عن طريق إيران وتركيا وباكستان لتعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين الدول الأعضاء، والتي تضم منذ عام 1992 بلدان أسيا الوسطى الخمسة منذ استقلالها؛ كازاخستان وأوزبكستان وتركمنستان وطاجيكستان وقرغزستان، بالإضافة إلى أفغانستان، وهي المنظمة التي خلفت تجمّع التعاون الإقليمي للتنمية الذي ظل قائمًا بين عامي 1964 و1979، وهي تغطى مساحة حوالي 8 مليون كيلومتر مربع، وتعداد سكاني يبلغ حوالي نصف مليار، وناتج قومي يفوق 2.5 تريليون دولار.
تعمل المنظمة على تسهيل التعاون التجاري بين الدول الأعضاء، بما في ذلك مذكرات لتسهيل إجراءات الحصول على التأشيرات لرجال الأعمال التابعين لأي منها، والعمل على تنسيق النقل التجاري باستخدام البنى التحتية في تلك البلدان، والسعى نحو تخفيف الجمارك بين تلك الدول وبعضها، وصولًا إلى الهدف الرئيسي، وإن كان لايزال بعيد المنال حاليًا، بخلق اتحاد جمركي بينها، علاوة على تعزيز تبادل الخبرات في المجالات الزراعية والصناعية.
بطبيعة الحال، ومع انتماء تركيا للتحالف الغربي، وعُزلة إيران الدولية، في مقابل انجذاب أسيا الوسطى للشمال الروسي والشرق الصيني، كان تعزيز التعاون بين بلدان المنظمة عملية شديدة الصعوبة، وهو ما بدأ في التغيّر تدريجيًا مع صعود الدور التركي في السنوات الأخيرة، والمهتم بأسيا الوسطى والشرق الأوسط على حساب أولوياته التقليدية في أوروبا، ثم بتفعيل إيران لعلاقاتها مع جيرانها في الشرق منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان، وهو الملف الذي تلتقي فيه السياسات الإيرانية مع نظيرتها التركمنية والطاجيكية والأوزبكية في مواجهة طالبان.
بالطبع، وعلاوة على كل تلك الأسباب الاقتصادية والسياسية، تفضّل دول أسيا الوسطى الاتجاه جنوبًا وغربًا نحو إيران وتركيا نظرًا للروابط اللغوية والدينية، والتي ستتيح للدورين التركي والإيراني خلق متنفسٍ للثقافات المحلية، لاسيما الإسلامية، التي تعاني تهميشًا كبيرًا منذ أيام الاحتلال السوفيتي، وتُعَد واحدة من عوامل جذب الكثيرين من شباب المنطقة إلى التنظيمات الجهادية التي تعاديها كافة الأنظمة بأسيا الوسطى.
***
افتتاح خط السكة الحديد الإيراني التركمني القازاقي
في ديسمبر الماضي، وبعد تدشين خط السكة الحديد الجديد بين إيران وكازاخستان وتركمستان، البالغ طوله 930 كيلومتر، وصلت أول شحنة من القمح القازافي إلى موانئ إيران الجنوبية لتنطلق بعد ذلك بلدان المحيط الهندي بسهولة، وهي لن تكون الشحنة الأخيرة بطبيعة الحال بالنظر لما يمكن أن تجود به موارد أسيا الوسطى الطبيعية على بلدان الخليج الثرية، وشرق أفريقيا وجنوب شرق أسيا النامية، والعملاق الهندي، والتي تُعَد إيران دون غيرها النافذة الرئيسية لها.
من ناحية أخرى، وبينما يظل مشروع خط الغاز العابر للقزوين معلقًا نظرًا لتكاليفه، وهو المفترض مروره من تركمنستان ومن ثم إلى أذربيجان وتركيا بعد العبور من تحت بحر قزوين، يبدو وأن الاقتراحات الآن ستتجه إلى خط أرخص وأقصر يمر عبر إيران وتركيا، كما أشار لذلك الرئيس الإيراني مؤخرًا، لتتمكن كل من إيران وتركيا من تعزيز التوجه الغربي والجنوبي لدى بلدان أسيا الوسطى، بينما ترسّخ تركيا سلطانها على خطوط الغاز المارة من أراضيها، وتوسّع إيران من أسواق الغاز الخاصة بها.
كل ذلك وغيره يشي بمرحلة جديدة في أسيا الوسطى قد تصبح معها العلاقات مع أوروبا عبر تركيا وإيران، ومع الجنوب الهندي عبر إيران، ذات أهمية لا تقل عن الصين وروسيا، وبل وربما تتجاوزهما في المستقبل إذا ما استمر تراجع الأخيرة الاقتصادي، بالنظر لكون القبلة الثقافية في أسيا الوسطى أقرب لإيران وتركيا بشكل واضح، عنها إلى الصين.