ترجمة وتحرير نون بوست
فقدت بريطانيا الإيمان بالدين بشكل أسرع وأكبر من فقدانها للإيمان بالله، وهذه الحقيقة أثبتتها دراسة حديثة أطلقتها مؤسسة وين/ غالوب، تبين فيها أن بريطانيا هي أحد أكبر الدول غير المتدينة في العالم؛ فنسبة الذين يطلقون على أنفسهم صفة “المتدينين” هي فقط 30% من عموم الشعب، وعلى الجهة الأخرى 13% فقط قالوا عن أنفسهم إنهم ملحدون – هذا الرقم يعد متدنيًا مقارنة بالرقم الصيني الذي وصل إلى 60% -، وقد يبدو أن هذه النسبة نتجت عن اعتبار البريطانيين أن الإلحاد هو أحد أشكال الدين، أو أنه – على الأقل – مظهر من مظاهر الاهتمام غير الصحي بالمسائل الدينية، ولكنني أعتقد أن تفسير ما يحدث هو أشد تعقيدًا، فالمسيحية البريطانية تعاني من ورطة لأن بريطانيا نفسها تختفي وتضمحل.
دين المهاجرين مازال يزدهر هنا في بريطانيا، وسواء أكان هذا الدين مسيحيًا أم مسلمًا، فإنه ينتشر كونه قائم على علاقة مختلفة تمامًا مع الثقافة المحيطة به؛ فالدين من هذا المنطلق ينقسم إلى نوعين: دين موالٍ لثقافة المجتمع، ودين معادٍ لهذه الثقافة، والنوع الأخير مرتكز على المنطق الإيماني، والأشخاص المتدينين بطريقة معادية لثقافة المجتمع يدركون تمامًا ماهية إيمانهم، ويمكنهم مجادلة ومناقشة الأشخاص الذين يختلفون معهم بالرأي، هذا النوع من الإيمان الديني يمكن أن يكون قويًا للغاية، كما أنه يزدهر وتزداد قوته عندما ينتشر في مجتمعات الأقلية، فالشخص الذي يعادي بمعتقداته – وملابسه أو عاداته – المجتمع الأوسع، سيجد نفسه نتيجة لذلك – في كثير من الأحيان – يتشدد في هويته ويتحمس في عقيدته، ومثال ذلك، الحماسة التي يعمل بها شهود يهوه أو اليهود الأرثوذكس المتشددين أو الهاري كريشنا في المجتمع البريطاني، وصمود الأقليات تحت اضطهاد الأكثرية مثل الطائفة الأحمدية في باكستان وإيران.
أما النوع الثاني من المتدينين الموالين لثقافة المجتمع، فإن تدينهم غير نابع من الوعي والإدراك الإيماني بتاتًا، بل إنه قائم على الافتراضات، فهؤلاء يؤمنون بالأشياء لمجرد أن المجتمع يراها صحيحة دون الحاجة في أي وقت للتفكير بصحتها أصلًا، ومثال ذلك هو التقديس الأمريكي لدستور الولايات المتحدة الأمريكية، فالمجتمع الأمريكي ينبذ وينظر بغرابة للشخص الذي يشكك بأن الدستور هو أهم وثيقة في التاريخ السياسي وأفضل طريقة ممكنة لتوجيه حياة الإنسان والمجتمع، وحقيقة أن هذا الإيمان من الصعب جدًا تبريره بشكل عقلاني، لا يُضعف من قوته على الإطلاق.
خلال المئتين أو الثلاثمائة سنة الماضية، أو على الأقل منذ الحرب الأهلية، ارتكزت المسيحية البريطانية على التدين الموالي للمجتمع، وفي السنوات الـ 50 الماضية بدأت الهوية المسيحية بالانحدار والسقوط نحو الهاوية؛ ففي السنوات الـ 30 الماضية انخفض الحضور في الكنائس الرئيسية في بريطانيا إلى حوالي النصف، ومن المهم التركيز على الآلية التي أدت إلى هذه النتيجة، فالبالغون لم يتوقفوا عن مواظبة الذهاب إلى الكنيسة، لكنهم فشلوا في نقل هذه العادة لأطفالهم، وهؤلاء البالغون يقل عددهم الآن سنة بعد أخرى، والثقافة الاجتماعية تغيرت، والمسيحية التي كانت متجذرة عميقًا ضمن الثقافة المجتمعية البريطانية القديمة، تمزقت جذورها في السنوات الأخيرة.
قبل سبعين عامًا كان الناس في إنجلترا يدركون أن البلد مسيحي، وكانوا يؤمنون أن الأشخاص السيئيين يذهبون إلى جهنم والصالحين إلى الجنة، أما الآن فقد اتجه الوعي المجتمعي للقول بأن المسيحية شيء عفا عليه الزمن، تمامًا كالإمبراطورية البريطانية العظمى، وأن الدين هو مصدر زائف للسلطة، وهذا التحول غير ناجم عن التحاج والجدال الفكري، كون التحدي الفكري للاعتقاد المسيحي لم يتقدم قيد أنملة منذ عام 1900، ولكن الذي تغيّر – على الأقل في أوروبا – هو الشعور بأن كل شيء يجب أن يبدو منطقيًا.
الدول المزدهرة ولكن العاجزة في أوروبا الغربية أصبحت ضعيفة بشكل ملحوظ أمام هذا النوع من التفكير العلماني، كون الكنائس لم تعد توفر الخدمات الاجتماعية التي كانت ترسخ من وجودها المجتمعي – الاستثناء الجزئي من هذه الكليّة هو المدارس الدينية في إنجلترا -، وفي ذات الوقت، كانت مسيحية الأمم الأوروبية يتم تعزيزها من قِبل الشعور بالتفوق الوطني والقاري، ولكن بعد حربين عالميتين، وإثر زوال الإمبراطورية، واحتلال القارة من قِبل الولايات المتحدة وروسيا، لم تعد المسيحية الأوربية تبدو منسجمة مع التفكير المنطقي السليم.
السؤال الأهم حاليًا يتمثل فيما إذا كان الدين سيعود للانتشار في المجتمع، ومهما كانت الإجابة على هذا السؤال، فإن الأمر المؤكد هو أن الأديان المعادية لثقافة المجتمع ستزدهر بلا شك، ويبدو من الصعب لدرجة الاستحالة الانتقال ما بين نوعي الدين الموالي والمعادي للثقافة المجتمعية.
مؤسساتيًا، الكنيسة في إنجلترا معدة لتكون مندمجة بشكل لا يتجزأ مع الأمة التي من حولها، ابتداءً بنظام رعاية الرعية ووصولًا إلى خدمات التتويج الملكية، والفكرة التي تتضمن قيام الكنيسة بإعادة تقديم نفسها بطريقة أو بأخرى كدين للغرباء أو المهمشين وعلى الرغم من كونها مبدأ مسيحي عميق، بيد أنها غير واقعية وغير قابلة للتطبيق اجتماعيًا، فالله الذي يؤمن به الكثير أو القليل من الأشخاص في إنجلترا لم يعد موجودًا في الكنائس، أو على الأقل في خدمات الكنائس الاجتماعية.
المصدر: الجارديان