بعد مفاوضات شاقة استمرت 18 شهرًا والتي هي ربما أطول مفاوضات في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية وأطول مفاوضات شهدها العالم منذ مفاوضات فرساي عقب الحرب العالمية الأولى، أعلن المجتمعون في لوزان السويسرية عن تفاهمات من شأنها التمهيد إلى اتفاق نهائي وشامل للملف النووي الإيراني والذي يؤرق الساسة الغربيين.
وفي وقت يبدو فيه المشهد في الشرق الأوسط أكثر ضبابية وغموضًا من ذي قبل، وهو الذي ربما دفع الأطراف إلى مزيد من التنازلات من أجل إنجاز اتفاق حول المعايير الرئيسية التي سيعتمد عليها الشكل النهائي للاتفاق الذي يرتقب الإعلان عنه في نهاية يونيو.
التنازل الإيراني والجذور التاريخية للأزمة
بالرغم من تقليل العديد من المراقبين من تداعيات الثورة الخضراء وأحداثها على طبيعة نظام الحكم في إيران وقتها، إلا أن آثار تلك الحركة باتت واضحة جدًا في يومنا هذا، في الوقت الذي كان فوز أحمدي نجاد بانتخابات 2005 أمرًا متوقعًا بحكم وعوده التي قطعها للفقراء وأهالي القرى محدودي الدخل خصوصًا بعد الانهيار الاقتصادي الذي رافق الأيام الأخيرة للإصلاحي محمد خاتمي، إلا أن فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009 بدورة رئاسية ثانية فجر ثورة عارمة شهدتها كبرى المدن الإيرانية كاحتجاج على إعادة انتخابه مرة أخرى بسبب إخلافه بوعوده الإصلاحية إضافة إلى العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران بسبب البرنامج النووي، احتشد الناس في الشوارع بالملايين متسائلين وكالعادة أجابت الديكتاتورية بالنار والحديد قتلى وجرحى وقبضة أمنية مشددة اضطرت المرشد الأعلى للتدخل والطلب من الناس بالاصطفاف وراء نجاد، هدأت الأزمة لكن لم تتنته عند هذا الحد استمر الكابوس طوال فترة حكم نجاد؛ اعتقالات طالت العديد من الحقوقيين وإقامة جبرية فرضت على كل من موسوي وكروبي منافسي الأمس في الانتخابات، بل حتى إن الاعتقالات طالت العديد من الطلبة الجامعيين.
بعد هذه الحقبة المريرة التي فُرِضت على الإيرانيين وتعمُق الهوة التي تفصلهم عن المجتمع العالمي انتهاءً بخلافات حادة بين الرئيس نجاد والمرشد الأعلى للدولة، وتجمع عدد من السياسيين المناهضين لرجال الدين حول نجاد؛ مما أدى إلى تفجر صراع مفتوح على السلطة بين أنصار الدولة الدينية والطامحين بإنشاء دولة إسلامية بأفق أيدولوجي قومي.
الأمر الذي استدعى إفراز قيادة جديدة متوازنة تقوم بتهدئة الشعب الإيراني وإحداث توازن منطقي سياسيًا يحافظ على وحدة الشعب الإيراني من التفرق والتشرذم وتقوم بإيجاد توافق بين الهوية الإيرانية للدولة وتقاليدها الدينية في أسلوب حياة ربما يكون أقرب للتصور الحداثي، وهو ما مهد الطريق أمام التيار الإصلاحي لكي يطفو مرة أخرى للسطح.
يواجه الحكام الجدد لإيران اليوم كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط وأكبر مصدر للأزمات العابرة للحدود شرقًا وغربًا، الكثير من التحديات الداخلية والخارجية؛ مما دفعها لإبداء مرونة أكبر أمام الخيارات القليلة المطروحة أمامها؛ فعلى الصعيد الداخلي تواجه الإدارة الإصلاحية الإيرانية الجديدة أزمات اقتصادية خلفتها العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي والتي ورثتها الحكومة الحالية من سياسات أسلافها التي اتسمت بالجمود والعناد والتي كانت في ظروف إقليمية مختلفة عن التي تشهدها الحكومة الحالية وتسببت بعزلة إيرانية كلية عن العالم خصوصًا في سوق النفط؛ وهو الأمر الذي كانت تركيا والسعودية أكبر المستفيدين منه وجعل الطرف الإيراني يركز مطالباته حول ضرورة الرفع الفوري للعقوبات حال توقيع اتفاق، أما خارجيًا يشهد الحلفاء الإيرانيون في بلدان الأزمات تراجعات عسكرية بعد خسارة النظام السوري الحليف الأبرز لإيران بصرى الشام ثم إدلب كأول محافظة محررة تسقط بيد الثوار بشكل كامل، وفي العراق لا يقل الأمر سوءًا فقد تكبدت قوات الحشد الشعبي الشيعي الكثير من الخسائر البشرية أمام داعش في تكريت قبل سيطرة القوات العراقية عليها بمساعدة طيران التحالف، وفي اليمن حيث شن تحالف عاصفة الحزم الإقليمي الجديد غارات مدوية على أماكن سيطرة الحوثيين النافذة الإيرانية في اليمن، بدا أن المحور الإيراني يتراجع وأمام تهديدات أمريكية بخيار الحرب في حال فشل المفاوضات كان لزامًا على إيران أن تبحث خيار آخر يتيح لها التقاط أنفاسها وإعادة ترتيب أوراقها خصوصًا على المستوى الخارجي، حيث تشهد المنطقة تحالفات جديدة وسياسات خارجية جديدة.
الإنجاز الأخير
يمكن القول بأن هذا الاتفاق هو أهم إنجاز دبلوماسي تحققه إدارة الرئيس في أوباما في دورته الرئاسية الثانية، ويأتي الاتفاق بعد تيقن الطرف الأمريكي بأن تفكيك المنظومة النووية الإيرانية بشكل كامل ونهائي هو حل غير ممكن في ظل السرية والغموض الذي يكتنف الأبعاد العسكرية المحتملة للبرنامج النووي الإيراني؛ لذا كان التوجه السياسي الأمريكي الجديد ينحو باتجاه احتوائه وحصره في الأغراض السلمية مثل التجارب العلمية وإيجاد النظائر الطبية وإنتاج الكهرباء وهو الذي تمثل بإصرار الطرف الأمريكي على تقليل أجهزة الطرد المركزي وإتاحة المجال أمام المراقبين والمفتشين للكشف عن المنشآت وتقليل فترة التخصيب بما يضمن في آخر الأمر عدم امتلاك إيران سلاحًا نوويًا، أما عن المعسكر المعارض المتمثل بجمهوريي الكونغرس ومن خلفهم نتنياهو فقد صرح أوباما بأنهم عجزوا حتى عن تقديم أي بديل عن الاتفاق قابل للتطبيق في ظل الظروف الحالية، كما أن التمدد غير المسبوق لداعش وأخواتها في المنطقة قد دفع الطرف الأمريكي للبحث عن شريك إسترتيجي لمحاربة الإرهاب الجديد المتمثل بالخطر الناجم عن الجماعات السنية المتطرفة.
من يربح أخيرًا
إذًا ظريف يكسر الحصار الاقتصادي المفروض على شعبه بعد سنوات من عزلة ربما بدت أقسى من سنين عزلة ماركيز المئة وبالرغم من بقائها وحيدة غريبة عن العالم تمكّنت إيران من فرض نفسها كند وخصم عنيد يرغم الغرب على استخدام لغة أخرى غير الصواريخ العابرة للقارات والطائرات الموجهة عن بعد، وكيري يحقق إنجازًا دبلوماسيًا أخيرًا ويبعد شبح السلاح النووي الإيراني عن الغرب.
لكن على أمريكا أن تدرك أن الرابح يبقى وحيدًا، وأن الاتفاق ربما يفرض عليها ضريبة البحث عن حلفاء جدد في المنطقة، وأن الطريق نحو إصلاح العلاقات الإيرانية بالغرب لايزال طويلاً وشاقًا، وأن إيران لاتزال بالرغم من كل شيء أقل من صديق وأكثر من عدو والذي يعني أن الاتفاق لا يقدم ضمانات قطعية بأن خرق إيران للاتفاق مستقبلاً هو أمر مستحيل، بل إن التحدي المطروح بقوة أمام الغرب هو معرفة متى ستتملص إيران من التزاماتها وكيف سيتصرفون حيال ذلك؟