أعلن عبد الرزاق مقري، زعيم الحزب الإسلامي الرئيس في الجزائر، حركة مجتمع السلم الجزائرية، في يناير 2015، أن حزبه سيباشر جولة جديدة من المشاورات مع كل من النظام الحاكم والمعارضة.
في حينها، اعتُبِر هذا القرار الهادف إلى إجراء محادثات جديدة مع الحكومة وأحزاب المعارضة حول عملية الانتقال السياسي، والإصلاحات الاقتصادية، وإعادة ترسيخ حكم القانون، بمثابة تحول دراماتيكي لهذا الحزب الذي كان قبل سنة واحدة فقط قد قاطع الانتخابات الرئاسية وطالب بعدم السماح للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بتسنم ولاية رابعة غير مسبوقة.
والحال أن هذا الإعلان فاجأ المحللين وكذلك التنسيقية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي، وهي مظلة لمجموعات معارضة ترفض أي نوع من الحوار مع النظام، وكانت حركة مجتمع السلم جزءًا منها منذ تأسيس هذا الائتلاف في أبريل 2014، حاول مقري، الذي جوبِه باعتراضات وشكاوى من أن حركة مجتمع السلم تقوض بذلك صفوف المعارضة من خلال عملها من النظام، أن يبرر القرار بالزعم أن المشاورات الجديدة ستُعزز أهداف التنسيقية، فيما هي تسمح في الوقت نفسه لحركة مجتمع السلم بطرح تصوراتها.
بيد أن خطوة مجتمع السلم هذه لم تكن غير متوقعة، إذ لطالما كانت هذه الحركة براغماتية وتفضل الحوار والتسويات مع النظام، لكن، في حين أن مثل هذه المقاربة حفظت للحركة موقعها كلاعب سياسي رئيس في الجزائر لعقود عدة، إلا أنها قد لا تكون فعالة بعد الآن، فبعد سنوات من العمل مع السلطة التي يُطلَق عليها في الجزائر اسم le pouvoir، والتي تتجسد في جبهة التحرير الوطني، وهي الحزب الوطني الرئيس في البلاد، جنبًا إلى جنب مع بيروقراطية الدولة والجيش، باتت هذه الحركة مُستلحَقة بالنظام. وهذا ما أضعف ادعاءاتها بأنها قوة معارضة وأفقدها بعض الدعم من الجمهور، ما دفعها إلى طريق سياسي مسدود.
مقاربة المشاركة
منذ تأسيسها في العام 1989، كانت حركة مجتمع السلم (سابقًا حماس) تغازل النظام الحاكم وتنخرط معه في حوارات، وفي حين كان يُفترَض أنها تعمل كفرع لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن هذا الحزب فضل التقارب الودي على التموضع الثوري، حتى في خضم تمسكه بهدف إقامة دولة إسلامية.
فقد حبذ مؤسسه محفوظ نحناح إستراتيجية من ثلاثة شُعَب تستند إلى الاعتدال، المشاركة، والمرحلية، وبالنسبة إلى نحناح البراغماتي، المُكنى بالمرشد، لا يمكن إقامة دولة إسلامية إلا مع الدولة القائمة، وليس ضدها، وبالتالي، نددت حركة مجتمع السلم بالعنف الذي مارسته الحركة الإسلامية المسلحة (بقيادة مصطفى بويعلي الذي يُعتبَر أبَ الجهادية في الجزائر) في فترة الثمانينيات، وفي التسعينيات، سعى الحزب إلى تمييز نفسه عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي فضلت السيطرة على السلطة من فوق، حتى ولو تطلب الأمر استخدام العنف المسلح.
واصلت حركة مجتمع السلم سياسة التقارب حتى حين عُطلت العملية الانتخابية في العام 1992 غداة الانتصار الكاسح للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية في ديسمبر 1991، وهكذا، لم تجرِ البتة الجولة الثانية من عملية الاقتراع في العام 1992، وتم حظر الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأُودِع أنصارها وكوادرها السجون، وأصدر الجناح المتطرف في الجبهة نداء الجهاد، وبعدها انبثقت مجموعات جهادية عدة لقتال ما أسمته “دولة الطاغوت”، وشهدت الجزائر حربًا أهلية دموية دامت نيفًا وعشر سنوات.
في العام 1994، دعمت حركة مجتمع السلم إقامة المجلس الوطني الانتقالي، الذي مارس وظائف تشريعية في غياب برلمان منتخب، بيد أن هذا الموقف كلفها أرواح العديد من كوادرها، أبرزهم أحد مؤسسيها الشيخ محمد بوسلماني الذي اغتيل في العام 1994 على يد الجماعة الإسلامية المسلحة، وهي أهم تنظيم جهادي في الجزائر كان يعارض أي حوار مع النظام.
في العام 1995، تجاوبت حركة مجتمع السلم مع دعوة الحكومة إلى إعادة إطلاق العملية الديمقراطية، وشاركت في الانتخابات الرئاسية، وقد حل مرشحها في المرتبة الثانية مباشرة بعد مرشح الجيش اليمين زروال، وسعى نحناح إلى المنافسة على الرئاسة في العام 1999، لكنه حُرِمَ من أهلية الترشح بعد أن فشل في الالتزام بالموعد النهائي كي يثبت أنه قاتل ضد الفرنسيين إبان حرب الاستقلال الجزائرية؛ وهو شرط يُطلَب من مرشحي الرئاسة الذين يكونون متقدمين في السن بما يكفي كي يشاركوا آنذاك في تلك الحرب، ورغم ذلك دعم نحناح مرشح الإجماع بوتفليقة، ورفض التزحزح عن موقفه على الرغم من الانتقادات التي صدرت من معسكره، ومن العديد من نشطاء الحزب.
علاوة على ذلك، دعمت حركة مجتمع السلم السياسات التصالحية التي أطلقتها الدولة، والتي هدفت إلى وضع حد للحرب الأهلية الجزائرية، ففي العام 1995، وقفت الحركة وراء النظام ورفضت الانضمام إلى عملية “سانت إيجيديو” التي جمعت شمل أحزاب المعارضة، في محاولة لإنهاء القتال، بدلًا من ذلك، دعمت الحركة عملية “قانون الوفاق المدني”، التي أعلنها زروال العام 1995 للسماح للجهاديين الذين لم يُدانوا بارتكاب جرائم قتل أو اغتصابات بتسليم أنفسهم، كما دعمت الحركة استفتاءً يدعم هذه العملية نظمه بوتفليقة في سبتمبر 2005.
مع مرور الوقت، ونتيجة لسياسة التقارب وإستراتيجية المشاركة، انضمت حركة مجتمع السلم إلى حكومات ائتلافية عدة، وحصدت عددًا من المقاعد البرلمانية والوزارية، بما في ذلك وزارة الصناعة، ويُعتبَر أحد أعضائها السابقين، عمار غول، شخصيةً رئيسةً في المشهد السياسي الجزائري، وعمل كوزير للأشغال العمومية.
إضافة إلى كل ذلك، يتأقلم حزب حركة مجتمع السلم، انطلاقًا من نزعته البراغماتية، مع الحقائق السياسية الجديدة التي تبرز على مسرح الأحداث، ففي العام 2012، وبأمل ركوب الموجة الإسلامية التي اكتسحت المغرب وتونس المجاورتين، وكذلك مصر، حرص الحزب على الاحتفاظ بمسافة عن النظام، وفي الفترة التمهيدية للانتخابات التشريعية، انسحب الحزب من الائتلاف مع جبهة التحرير وحزب آخر كان شُكل قبيل الانتخابات الرئاسية في العام 2009، وانضم إلى ائتلاف الأحزاب الإسلامية (النهضة والإصلاح) الذي لم يُبلِ بلاءً حسنًا في أقلام الاقتراع، وعلى الرغم من ذلك، أبقى الحزب وزارءه الأربعة في الحكومة.
لا شك أن مشاركة حزب حركة مجتمع السلم في النظام السياسي الجزائري، أسفرت عن إكسابه خبرة مهنية أكبر، فنشطاؤه أصبحوا سياسيين ومسؤولين حكوميين تعلموا كيفية إدارة أمور الدولة وإسباغ التوجه الوطني على خطابهم وأيديولوجيتهم، وفي الوقت نفسه، بدأت كوادر الحزب في الانخراط الاجتماعي مع أعضاء أحزاب أخرى، وسعوا إلى إبرام شراكات سياسية جديدة.
لقد شق الحزب لنفسه نافذة أطل منها كحزب إسلامي يشارك في صنع القرار، وبات الآن لاعبًا رئيسًا في المشهد السياسي الجزائري، ومع ذلك، يبدو أنه وصل إلى طريق مسدود سياسيًا، كما أشرنا، فالمشاركة أصبحت تعني الاستلحاق مع النظام، وهذا الاستلحاق يجد جذوره في العام 1992، حين تم حظر الأجنحة المتطرفة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولأن الإسلام عنصر مهم في المجتمع الجزائري، يحتاج النظام إلى أن يُظهِر للجزائريين أن الأحزاب الإسلامية لايزال لها مكان في الحياة السياسية، وحركة مجتمع السلم الأداة النموذجية لتبيان ذلك، وهكذا، وافقت الحركة على المشاركة في العملية السياسية في البلاد، على عكس الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي فضلت العمل ضد النظام، وفي المقابل، أعطى النظام الحركة مناصب وزارية، ومقاعد برلمانية، ومنحها فرصة الانخراط في إعادة توزيع عائدات النفط التي حصدت من ورائها منافع وامتيازات ثمينة، بما في ذلك مرتبات شهرية سخية للبرلمانيين، ويعود جزء من هذه المرتبات إلى صندوق الحركة.
بيد أن حركة مجتمع السلم دفعت أيضًا ثمنًا باهظًا لمقاربتها، في البداية، اعتقد البعض أن الحزب يمكن أن يشكل بديلًا عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لكن بعد الاطلاع على التسوية التي توصل إليها مع النظام، أُصيب ناخبو الجبهة الإسلامية للإنقاذ وغيرهم من المؤيدين المحتملين بخيبة أمل إزاء الحزب، واليوم، يُنظَر إلى حركة مجتمع السلم بوصفها أداة في يد الدولة وليس قوة معارضة حقيقية أو حزبًا إسلاميًا حقيقيًا، وقد فقدت قدرتها على تعبئة الناخبين.
فضلًا عن ذلك، أُعيق الحزب بفعل عوامل أخرى هي محصلةٌ ثانويةٌ لسياسات المشاركة البراغماتية التي انتهجها، بما في ذلك النزاعات الداخلية وغيرها من الخلافات الأيديولوجية والشخصية، وقد سدد قرار رئيس الحزب آنذاك، أبو جرة سلطاني، بدعم ترشيح بوتفليقة في العام 2004، ضربةً موجعةً إلى حركة مجتمع السلم، إذ انشق عن الحزب أولئك الذين عارضوا هذه الخطوة.
في العام 2008، وضع خلافٌ حاد سلطاني في مواجهة الرجل الثاني في الحزب، عبد المجيد مناصرة. إذ اتهم هذا الأخير سلطاني بتهميش كوادر الحزب الذين لايتفقون معه، وبتقديم تنازلات كبيرة إلى الحكومة من دون استشارة نشطاء الحزب. وبالفعل، أُخرِج من الحزب، في العام نفسه، 40 من كوادره الداعمين لمناصرة، وذلك خلال مؤتمر الحزب الرابع الذي انتُخِب فيه سلطاني لولاية ثانية، كذلك وافق سلطاني على تمديد ولاية بوتفليقة الرئاسية، وعلى المراجعة التي طالت الدستور وأُزيل بموجبها البند الذي يحد عدد ولايات الرئيس باثنتين فقط.
بلغ هذا الخلاف ذروته في أبريل من العام 2009، حين انشق مناصرة عن حركة مجتمع السلم ليشكل حزبه الخاص، حركة الدعوة والتغيير، التي جذبت العديد من أعضاء حركة مجتمع السلم، إضافة إلى رؤساء مجالس محلية، ورؤساء بلديات مفوضين، وأعضاء في البرلمان والمجالس المحلية، وهكذا، أضعفت الانشقاقات حركة مجتمع السلم، وجعلتها تنافس حركة الدعوة والتغيير على كسب الدعم الشعبي.
كما أن التحول الأيديولوجي لحركة مجتمع السلم هو سبب آخر لتراجع شعبيتها، إذ يبدو أن الحزب تخلى عن المشروع الذي لطالما تمسك به، والذي يرمي إلى إقامة دولة إسلامية، محاججًا أن الجزائر نفسها تحترم مبادئ الإسلام، فالجملة الأولى في ديباجة البرنامج السياسي للحزب تقول: “الجزائر أرض الإسلام، وبلد من بلدان المغرب العربي الكبير، ينتمي إلى العالم العربي والإسلامي”.
إضفاء هذا الطابع الجزائري على الحزب عرضه إلى وابل من الانتقادات، فبعض أعضائه وكوادره نظروا إلى إضفاء الوطنية على الحزب الذي كان من المفترض أن يكون ممثل الإخوان المسلمين في الجزائر، على أنه تخل عن الأفكار الجوهرية التي وضعها نحناح.
في غضون ذلك، أبدى إسلاميو حركة مجتمع السلم، نظرًا إلى براغماتيتهم، اهتمامًا متزايدًا بشؤون الحوكمة، مثل الإصلاح الدستوري، والتحرير الاقتصادي، ومكافحة الفساد، وقد دفع ذلك الحزب إلى أن يتجاهل إلى حد كبير القضايا التي تؤثر على الحياة اليومية للناخبين؛ ما أضعف أكثر الصلات التي تربط الحزب بقواعده الشعبية المحايدة.
هذه العناصر كلها كانت عوامل أدت دورًا في الانتكاسات التي عانى منها الحزب في الانتخابات التشريعية في مايو 2012، والتي حصد فيها 48 مقعدًا من أصل 462، وفي الانتخابات المحلية في نوفمبر، التي فاز فيها الحزب بـ 10 بلديات فقط من أصل 1541 بلدية.
سعى مقري، الذي استلم رئاسة حركة مجتمع السلم في مايو 2013، إلى تغيير مسار الحزب، طارحًا نفسه على أنه القائد الذي سينفصل عن السلطة (le pouvoir)، ويحول الحزب إلى قوة معارضة حقيقية، وقد تجلى ذلك في القرار الذي اتخذه الحزب بالمشاركة في التنسيقية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي، حينما انضمت حركة مجتمع السلم إلى آخرين في معارضة ولايةٍ رابعةٍ للرئيس بوتفليقة، والدعوة إلى انتقال ديمقراطي يشمل استقالة الرئيس وتنظيم انتخابات مبكرة.
بيد أن سلطاني، الذي لايزال يشكل قوة في الحزب، انتقد الخطوة مهددًا بإزاحة مقري ومطالبًا إياه بإعادة حركة مجتمع السلم إلى تقليدها المتمثل في الحوار والتسوية، وقد ذهب سلطاني أبعد من ذلك، إذ أعلن على الملأ أنه يرغب مجددًا في المشاركة في حكومة وحدة وطنية.
عودة إلى الاعتدال
فقدان حركة مجتمع السلم دعمَ القواعد الشعبية يعني أن الحزب قد يستمر في البقاء فقط كأدة في يد النظام، الذي يرغب في تقديم نفسه على أنه ديمقراطي ومتعاون مع الأحزاب الإسلامية عقب حظر الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
أما الآن، فعلى حركة مجتمع السلم أن تختار ما بين الخروج من موقع النفوذ – وهو ليس بالخيار الجذاب بعد عشرين عامًا أمضتها في أروقة السلطة – أو التعبير عن ولائها للنظام الحاكم، بعبارة أخرى، يجب أن يختار الحزب ما بين التحول إلى حزب معارضة حقيقة أو الإبقاء على علاقته المميزة مع السلطة (le pouvoir).
ونظرًا إلى طبيعة هذه الخيارات، لاعجب أن حركة مجتمع السلم قررت العودة إلى الاعتدال وإعادة إطلاق المشاورات مع النظام، صحيح أنها تبقى جزءًا من المعارضة، إلا أنها ليست متشددة أو عدائية، أما انتقاداتها وحملاتها اللفظية أحيانًا ضد الحكومة، فهي ليست سوى محاولة للحفاظ على قدرتها (إن وُجِدَت) على تعبئة قاعدتها ضد النظام.
بعد عقدَين من العمل مع السلطة (le pouvoir)، شهد الحزب الإسلامي الرئيس في الجزائر نوعًا من “البرجزة” (من بورجوازية)، إذ أصبح مسؤولوه معتادين على منافع السلطة وامتيازاتها، وقد يكون من الصعب عليهم التخلي عن مصالحهم، لقد أصبحت حركة مجتمع السلم بالفعل مرتبطةً بالنظام ومروضةً ومسلتحقةً، إلى حد أنها لا تستطيع أن تتحدى السلطة الحاكمة في الجزائر بشكل فعلي أو أن تشكل ثقلًا موازيًا لها.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط