تسببت وسائل النقل، في عام 2013، في انبعاث نصف كمية أول أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين، وحوالي ربع الهيدروكاربونات التي تملأ هواء الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت هذه هي المعلومة، وما يلي هو معناها:
أول أكسيد الكربون: وهو غاز سام عديم اللون والرائحة، ويتكون من احتراق الوقود الأحفوري مثل البنزين وينبعث بشكل أساسي من السيارات والشاحنات، وعند استنشاق هذا الغاز فإنه يؤدي إلى منع الأوكسوجين من الوصول إلى الدماغ والقلب والأعضاء الحيوية الأخرى.
الهيدروكربونات: هي ملوثات تتفاعل مع أكاسيد النيتروجين في وجود ضوء الشمس لتكون طبقة من الأوزون قريبة من سطح الأرض، وهو العنصر الأساسي فى تكوين الضباب الدخاني، هذا وعلى الرغم من كونه عنصرًا مفيدًا في الطبقات العليا من الغلاف الجوي، إلا أنه عندما يتكون بالقرب من سطح الأرض فإنه يتسبب فى تهيج الجهاز التنفسي، مما يؤدي إلى السعال والاختناق وانخفاض القدرة الاستيعابية للرئتين.
أكاسيد النيتروجين: هي ملوثات تسبب تهيج الرئتين وتضعف مناعة الجسم ضد التهابات الجهاز التنفسي، كالالتهاب الرئوي والإنفلونزا، بالإضافة لكونها عامل مساعد على تكوين الأوزون كما ذكرنا.
هكذا ومع الوضع في الاعتبار أن الولايات متحدة تقع في الترتيب الثامن عالميًا من حيث جودة الهواء بينما تقع مصر في الترتيب السابع عالميًا من حيث تلوث الهواء، فقد أصبح التوجه نحو التخلي عن السيارات بالتزامن مع خلق بيئات صديقة لممارسة المشي أمرًا عمرانيًا حتميًا تسعى إليه الكثير من الدول عن طريق إنشاء مدن جديدة تتميز بصغر الحجم ومحدودية تعداد السكان ومدى محدود من مجالات العمل، مما يتيح فراغًا حضريًا مناسبًا للاعتماد على المشي في أغلب النشاطات اليومية للمجتمع، هكذا ظهرت مصطلحات كـ “مدن صديقة للمشي” walkable cities و”الملائمة للمشي” walkability.
يعتمد تصميم هذه المجتمعات الملائمة للمشي على توفر عدة عناصر بعينها:
المركز: فالأحياء القابلة للمشي يجب أن تحوي مركزًا إما في هيئة فراغ عام أو في هيئة شارع رئيسي.
الكثافة السكانية: بمعنى أن تكون كثافة كافية لازدهار الأعمال وحركة رأس المال.
اختلاط الاستخدامات: وهو ما يتحقق بتوفير وحدات سكنية غير مرتفعة الثمن قريبة من أماكن العمل.
فراغات عامة: وجود الكثير من الحدائق والفراغات العامة للتجمع.
تصميم ملائم للمشاه: وهي مجموعة الإجراءات التصميمية التي تعطي الأولوية للمشاه على حساب السيارات، مثل وضع المنازل بالقرب من الشوارع مع وضع أماكن انتظار السيارات في الخلف.
اقتراب المدارس وأماكن العمل: وهو عنصر رئيسي، حيث يجب أن تكون أماكن العمل والمدارس قريبة بما يسمح لجميع السكان بالذهاب إليها مشيًا.
طرق مكتملة: بما يعني أن تكون شبكة الطرق المخصصة للمشاه أو راكبي الدراجات متصلة ببعضها ومكتملة كشبكة واحدة.
ويتم قياس مدى كفاءة التصميم من خلال وحدة walkability أي الملائمة للمشي، وهو أسلوب للقياس يتضمن مجموعة كبيرة من العوامل مثل العوامل الاقتصادية والبيئية والصحية، وتقاس مدى ملاءمة مكان ما للمشي عن طريق قيام مدقق بالسير في المدينة جامعًا مجموعة كيبرة من المعلومات النوعية والكمية عن وصلات الطرق والتقاطعات وأماكن انتظار المواصلات العامة والفراغات العامة والأماكن البينية بين مناطق مختلفة في أسلوب التنقل الذي تدعمه.
إلا أن التحدي الرئيسي يوجد في العواصم والمدن الكبيرة فهي التي تحتوي على الكثافة السكانية الأكبر، بالإضافة إلى اتساع مسطحاتها مما يجعل الاعتماد على المشي أمرًا غير منطقيًا إلا من قبيل ممارسته كرياضة شخصية إذا كان الفراغ العمراني مناسبًا لذلك، مع صعوبة تكوين شبكات طرق مكتملة للمشاه أو راكبي الدراجات، وسيظهر لك مدى القصور في هذه الشبكات إذا نظرت إلى إحدى الخرائط لشبكات الطرق المخصصة لراكبي الدراجات فى أمريكا في العاصمة واشنطن أو ميامي علي سبيل المثال.
إحدى الخرائط لشبكات الطرق المخصصة لراكبي الدراجات بواشنطن
إحدى الخرائط لشبكات الطرق المخصصة لراكبي الدراجات بميامي
إلا أن هذا لم يمنع مجموعة كبيرة من المدن الكبيرة الرئيسية إلى محاولة حل المشكلة من خلال اللجوء إلى مبدأ آخر وهو الـمدن التي تخلو من السيارات car free cities، والفارق الرئيسي بين الحالتين هو أن حالة المدن الملائمة للمشي لا تمنع السيارات إلا أنها تقدم تصميمًا حضريًا أكثر ملاءمة للمشاه على حساب راكبي السيارات، أما الحالة الأخرى فهي محاولة لتقليل نسبة التلوث التي تسببها وسائل النقل في مدن غير ملائمة للمشي أصلًا، ويتم ذلك من خلال فكرة رئيسية هي التخلي عن السيارات الخاصة بعد أن اعتمدت عليها الحياة الحضرية لأكثر من أربعمائة عام، والاعتماد الكامل على المواصلات العامة مع تنفيذ القدر المستطاع من السياسات العمرانية التي تسهل الحركة مشيًا أو باستخدام الدراجات.
وقد بدأت عدة مدن وعواصم كبرى بالفعل في هذه الإجراءات مثل مدريد وباريس وهامبورج وهيلسنكي وميلان وغيرهم من المدن الكبيرة الهامة.
مدريد
منعت مدريد بالفعل معظم حركات المرور من شوارع بعينها، ومنذ أشهر قليلة، اتسع النطاق الخالي من السيارات ليصبح أكبر من ميل مربع، وفي هذا النطاق يسمح لأهله بقيادة سياراتهم إلا أن أي شخص من خارج المنطقة سيحصل على غرامة تبدأ بـ 100 دولار، وهي خطوة تجاه خطة كبيرة تهدف إلى تحويل مركز مدريد بالكامل إلى منطقة للمشاه فقط خلال الخمس سنوات المقبلة، ومن المفترض تبعًا لهذه الخطة أن يتم تحويل 24 شارعًا من أكثر شوارع مدريد ازدحمًا إلى شوارع مخصصة للمشاة فقط، بالإضافة إلى سياسات أخرى تتضمن إجبار أنواع معينة من السيارات والتي تتميز بأنها الأكثر تسببًا للتلوث على دفع تكاليف أكثر من أجل الإنتظار أو الوقوف في أي مكان.
باريس
عندما ازدادت نسبة الضباب الدخاني فى باريس العام الماضي، منعت المدينة السيارات ذات اللوحات التي تحوي أرقامًا زوجية لفترة بسيطة، مما تسبب فى هبوط نسبة التلوث بمعدل 30% في بعض المناطق، لهذا تقوم المدينة الآن بوضع مخططات لإلغاء السيارات تمامًا من خلال مجموعة من السياسات المختلفة مثل منع السكان الذين لا يسكنون أحياءً داخل المدينة من قيادة السيارات في عطلات نهاية الأسبوع تمهيدًا لتعميم القرار بحيث يشمل الأسبوع كاملًا.
ويخطط محافظ باريس إلى مضاعفة عدد الطرق المخصصة لركوب الدراجات في المدينة بحلول عام 2020، ومنع السيارات التي تعمل بالديزل، مع قصر الحركة فى بعض الطرق التي تتميز بكثافة المرور على السيارات الكهربية والأنواع الأخرى التي تتميز بانبعاثات ملوثة قليلة للغاية، وقد بدأ عدد قائدي السيارات فى المدينة بالتناقص بالفعل، ففي عام 2001 لم يملك 40% من البارسيين سيارات، إلا أن هذه النسبة زادت إلى 60% الآن.
هامبورج
على عكس ما أشيع عن هامبورج، فإن المدينة لا تسعى إلى منع السيارات، إلا أنها تسعى بجدية إلى جعل خيار عدم القيادة أكثر سهولة بكثير، حيث تقوم بإنشاء شبكة خضراء، أى شبكة من الحدائق، تربط بين جميع الحدائق في المدينة في خلال 15 إلى 20 عامًا، وهو ما يسهل الحركة إلى أي جزء في المدينة عن طريق المشي أو ركوب الدراجات، وستغطي هذه الشبكة 40% من مسطح المدينة.
هيلسنكي
تتوقع هيلسنكي قدوم مجموعة كبيرة من السكان الجدد في خلال العقود القليلة المقبلة، إلا أنه كلما ازداد عدد السكان الوافدين كلما نقص عدد السيارات المسموح بها في شوارع المدينة، ففي مخطط جديد تسعى المدينة إلى تنفيذ تصميم يحول الضواحي التي تعتمد على السيارات إلى مجتمعات كثيفة ملائمة للمشي وومتصلة بمركز المدينة بمواصلات عامة سريعة، وتنشئ المدينة أيضًا خدمة “النقل بالطلب” لكي تشجع على أسلوب الحياة بدون تملك سيارة، حيث يمكن للمواطنين طلب سيارة أو دراجة أو تاكسي لنقلهم أو إيجاد أقرب محطة حافلات عن طريق تطبيق يساعد على مشاركة السكان هذه الخدمة، حيث تسعي المدينة في خلال عقد واحد إلى تحويل أسلوب الحياة بحيث يصبح امتلاك سيارة غير ضروري نهائيًا.
في ظل هذه الخطط الطموحة من هذه المدن والعواصم الكبري التي تتميز بالازدحام الشديد، هل يمكننا أن نفكر في حلول وسياسات عمرانية تكون أكثر ملاءمة وقابلية للتنفيذ للحد من الاعتماد على السيارات الخاصة وتحسين شبكة المواصلات العامة وتهيئة البيئة الحضرية لتقبل نمط المشي وركوب الدراجات كنمط أكثر صحية للتنقل فى مدن مثل القاهرة والإسكندرية، إلا أن هذا السؤال يتطلب قبلًا وجود إرادة سياسية تسعى إلى حل مشاكل القاهرة وليس الهروب منها.