طبقًا للمنطق السائد في الشرق الأوسط، يقول المحللون إن تطوير إيران لأسلحة نووية يستتبع أن تتجه البلدان الأخرى إلى محاولات الحصول على أسلحة نووية هي الأخرى، لاسيما السعودية وتركيا، واللتين ستجدا وجودهما في منطقة بها دولتين نوويَّتين حينئذ (إيران وإسرائيل) دافعًا كافيًا للدخول إلى النادي النووي، بل وربما تتبعهما مصر أيضًا، بيد أن هذا المنطق لا يبدو سليمًا بالنظر للحالة التركية التي لن تفيدها أي محاولات، ناجحة أو فاشلة، للحصول على السلاح النووي.
تاريخ البرنامج النووي التركي
بدأ البرنامج النووي التركي عام 1953 أثناء حكومة عدنان مندرس، وبعد عام واحد من الدخول إلى حلف الناتو، حيث بدأ عملية نمو اقتصادي تحت الحكومة الديمقراطية الجديدة، بالتزامن مع البحث عن مصادر جديدة للطاقة، والتي شكل استيرادها أكثر من 50% من عجز الميزانية، لتتجه البلاد إلى التفاوض مع الولايات المتحدة لبناء مفاعل في إطار برنامج أيزنهاور المعروف بـ “ذرات من أجل السلام” Atoms for Peace.
بالفعل، وقع الطرفان عام 1955 اتفاقًا مبدأيًا لبناء مفاعل تركي تبلغ سعته 1 ميجاواط في مركز تشكمجه للبحوث النووية والتدريب على أطراف إسطنبول، في حين أسست تركيا هيئة الطاقة الذرية التركية تحت إدارة رئيس الوزراء للإشراف على المشروع، والذي اختيرت له شركة أمريكان ماشين فاوندري American Machine Foundry، لتبني المفاعل عام 1959، والذي وصل للـ “مرحلة الحرجة”عام 1962، أي المرحلة العادية لتوليد الطاقة.
رُغم تلك البداية، تأثر البرنامج النووي التركي باضطراب الأحوال السياسية في البلاد إثر قيام الجيش بانقلاب عسكري عام 1960، وتعاقب مجموعة من الحكومات بين عامي 1961 و1965، وهو ما أثر بالطبع على عمل هيئة الطاقة الذرية التي احتاجت إلى حكومة مستقرة وتفرّغ من رئيس الوزراء، حتى ظهر حزب العدالة بقيادة سليمان دميرل، خليفة مندرس على الساحة السياسية، لتنجح تركيا في تأسيس مركزٍ ثانٍ للبحوث النووية على أطراف العاصمة أنقرة انصبت مهمته على استغلال اليورانيوم الموجود في تركيا وقابلية استخدامه في بناء مفاعل للمياه الثقيلة بحلول عام 1977.
مرة أخرى حالت الظروف السياسية دون استمرار خارطة الطريق النووية التركية، حيث قام الجيش بتدخل عسكري ناعم عام 1971، ليشهد عقد السبعينيات واحدة من أكثر الفترات اضطرابًا في تاريخ الأتراك بحروب بين اليمين واليسار في الشوارع أدت لمقتل حوالي ثلاثة آلاف تركي، وهو ما أدى بالتبعية لهبوط الأداء الاقتصادي وزيادة عجز الميزانية، مما حال دون القدرة على الإنفاق اللازم لبناء المفاعل الجديد.
انتهت تلك المرحلة كما هو معروف بالانقلاب العسكري الأعنف في تاريخ تركيا عام 1980، ليهيمن العسكر على البلاد لفترة طويلة قبل أن يظهر توركوت أوزال في منتصف الثمانينيات، والذي انصب اهتمامه على إعادة البناء والانفتاح الاقتصاديَّين، ثم يبدأ صعود الإسلاميين المضطرب في التسعينيات بقيادة أربكان، والذي أزيح عن المشهد عن طريق المعسكر العلماني التقليدي بمؤسسات الدولة، حتى عاد تلامذته، أردوغان وگول، لقيادة تركيا منذ عام 2002، ليعود الحديث مرة أخرى عن برنامج تركيا النووي.
المشروع النووي التركي اليوم
أردوغان مع رئيس الوزراء الياباني شينزو أبِه بعد الاتفاق المبدأي على بناء مفاعل ثانٍ لتركيا
تسعى تركيا بقوة منذ سنوات للحصول على التكنولوجيا السلمية لتوليد الطاقة، نظرًا لاستيرادها لأكثر من 90% من احتياجاتها من الغاز والنفط من الخارج، لاسيما من روسيا وإيران، وهي احتياجات تتزايد سنويًا نظرًا للنمو الاقتصادي، ولاتزال تشكل نصف العجز في الموازنة التركية إلى اليوم، مما دفعها لتوقيع اتفاق مع روسيا لبناء مفاعل نووي في أقويو بمدينة مرسين على شواطئ البحر المتوسط عام 2010، وهو الآن قيد البناء ومن المتوقع أن يبدأ عمله عام 2020.
بالنظر للمنافسة الإستراتيجية التقليدية بين روسيا وتركيا، كان الاعتماد الصِرف على روسيا ليكون اختيارًا خاطئًا من قِبل الإدارة التركية، وهو ما دفعها إلى فتح الباب أمام مفاعل ثانٍ بالاتفاق مع مجموعة يابانية فرنسية بقيادة شركة ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة وشركة أرِفا الفرنسية، لتستفيد من الشروط السخية الروسية دون التقيّد بها في مشروعها النووي بشكل مُطلق، حيث قام أردوغان، بصفته رئيس للوزراء آنذاك، بالإعلان عن المفاعل الثاني على شواطئ البحر الأسود في مدينة سينوب في مايو الماضي، والذي سيبدأ العمل عام 2023.
في هذا السياق، انتشرت أنباء عن وجود برنامج سري لتركيا تحاول به الحصول على سلاح نووي، لتحقيق التوازن مع إسرائيل تارة، أو مجاراة إيران تارة أخرى، بيد أن تلك الأنباء لم تتأكد، وظلت محصورة في بضعة منابر إعلامية معادية لتركيا بشكل رئيسي، إذ يصعب على تركيا بالطبع أن تمضي بسهولة هكذا في برنامج عسكري نظرًا لكونها من الموقعين على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، كما أنها في الحقيقة ليست في حاجة ملحة إلى التسلّح النووي في هذه اللحظة للأسباب الآتية.
مظلة الناتو ومحيط تركيا الإقليمي
قاعدة إنجيرلك الجوية في تركيا، والتي تضم أسلحة نووية أمريكية
تُعَد تركيا واحدة من بلدان حلف الناتو الأكثر أهمية لواشنطن، نظرًا لمتاخمتها لروسيا، والمنافسة التاريخية بينها وبين الروس، وهو ما يضمن دومًا أن تكون تركيا جزءًا من الإستراتيجية الغربية في البحر الأسود مهما توترت علاقاتها السياسية الآنية مع الغرب واقتربت من موسكو، كما هو حادث مؤخرًا، وهو ما يضمن في نفس الوقت للأتراك التزامًا غربيًا على المستوى الإستراتيجي بأمنها كبلد ينتمي لدائرة شرق أوروبا وأوراسيا بشكل عام.
يتجلّى هذا بوضوح في الرؤوس النووية الأمريكية التي تضعها واشنطن على الأراضي التركية منذ الحرب الباردة وحتى الآن، وهو تواجد لم ولن تعترض عليه تركيا في المستقبل القريب، أضف لذلك القنابل النووية والطائرات القادرة على حملها المتواجدة في قواعد الناتو الجوية بتركيا منذ عام 1957، وهي كافية لردع أي عدوان من قبل الروس، أو حتى الإيرانيين، ولا يُمكن أن تُقارَن قدراتها بالطبع بأي محاولات تركية للحصول على سلاح نووي مصنوع في الداخل.
قد يقول قائل بأن أي إستراتيجية تركية بعيدة المدى يجب أن تتضمن في كافة الأحوال خطة لامتلاك القدرة على إنتاج السلاح النووي، بالتوازي مع وجود مظلة الناتو ومميزاتها، بيد أن هذه الدعاوي تغفل بالطبع التوتر الذي سيحدث في العلاقات بين الطرفين إذا ما ثبت أن أنقرة تسعى بذاتها إلى الحصول على سلاحها الخاص، وهو ما قد يضع مظلة الناتو في خطر، مما يعرّض أمن تركيا للخطر أكثر من عدم امتلاكها لسلاحها النووي الخاص.
علاوة على كل ذلك، لا يبدو أن المخاطر المحيطة بتركيا تستوجب الحصول على سلاح نووي، فالخطر الإقليمي الرئيسي يتمثل في قوى موازية، مثل المجموعات الكردية والجهادية التي قد تناصب تركيا العداء في أي لحظة، أو تعاديها بالفعل الآن، وهي قوى لا جدوى لامتلاك ترسانة نووية في مواجهتها، كما أن أي توتر في العلاقات مع إسرائيل لا يمكن أن يتطور لاستخدام إسرائيل لسلاحها النووي ضد تركيا، فالبلدان في النهاية ليسا غريمين إستراتيجيَّين، كما أن تل أبيب لا يمكنها أبدًا أن تشن حربًا على بلد عضو بحلف الناتو.
***
لكل هذه الأسباب، وبالنظر لتاريخ البرنامج النووي التركي، يبدو أن كافة جهود تركيا النووية منصبة بالأساس على مسألة توليد الطاقة لأسباب إستراتيجية تتعلق بفك الاعتماد على الروس والإيرانيين أكثر من اللازم، وأسباب اقتصادية تتعلق بتخفيف عجز الموازنة، أما تحويل وجهة البرنامج نحو التسلّح النووي فهو أمر لا يقع على أجندة الإدارة التركية في الوقت الراهن، ولن يكون كذلك إلا إذا تحوّلت الموازين الدولية بشكل يجعل من القوة العسكرية الأمريكية غير كافية لتغطية تركيا، وهو أمر غير متوقع حدوثه حتى عام 2050 على أقل تقدير، أو اضطرب تحالف الناتو، وهي مسألة مستبعدة أيضًا بالنظر لحاجة الأوروبيين له على المدى البعيد نتيجة افتقادهم لقوتهم الخاصة في وجه الروس.