ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
تثير كلمة “داعش” وحدها رعبًا كبيرًا في صفوف الرأي العام العالمي، بسبب الممارسات الوحشية التي ارتكبها التنظيم ونشر تسجيلاتها في وسائل الإعلام، ولكن في الأراضي الخاضعة لسيطرته يحاول هذا التنظيم كسب قلوب الناس وثقتهم والظهور كدولة بأتم معنى الكلمة.
وتمثل هذه المساحة التي يسيطر عليها التنظيم أرض المتناقضات؛ فهي أرض الحلم الموعود بالنسبة لآلاف الشباب القادم من كل أنحاء العالم، والذي يفعل المستحيل للوصول لها والمشاركة في المعارك، وتمثل في المقابل أرض المعاناة بالنسبة لأهلها الذين فروا من موطن أجدادهم هربًا من جحيم الحرب.
ويرى البعض صعود هذا التنظيم على أنه نبوءة دينية تتحقق، فيما يراه الآخر مجموعة بربرية استغلت الظرف الإقليمي لتحقق توسعًا لن يدوم طويلاً، وبينما يُصاب الكثيرون بالرعب من التسجيلات التي ينشرها التنظيم على الإنترنت، فإن آخرين تجذبهم هذه التسجيلات وتجعلهم يتعاطفون مع هذا التنظيم أو ينضمّون إليه، وبالنسبة للآلاف من أبناء الطائفة السنية في سوريا والعراق؛ فإن صعوده يمثل انتقامًا للانتهاكات التي ارتكبتها الأنظمة السورية والعراقية والميليشيات الشيعية في حقهم.
إن القوة التي يظهرها هذا التنظيم تسحر الكثيرين، ولكن ماهي الحقيقة الكامنة وراء هذه “الدولة الفاضلة والدموية في آن واحد”؟ في الوقت الحاضر؛ يجمع ناقدو داعش والمتعاطفون معه على أن دولته هي “دولة عنف”.
بعد أن خرج هذا التنظيم من رحم القاعدة في العراق، اشتد عوده أثناء مواجهاته مع جيش الاحتلال الأمريكي، واستفاد من الثورة السورية ليتحرك ويخطط، ثم ازدهر وتغوّل في سياق الصراع المحتدم بين الجمهورية الإيرانية الشيعية والمملكة السعودية السنية وعمل على صب الزيت على النار في هذه المواجهة وتقديم نفسه كمدافع عن أهل السنة ومحرّر لهم بعد ما عانوه من ويلات تحت حكم بشار الأسد ونوري المالكي، وكما يفيد اسم المجلة الناطقة بالإنجليزية التي يصدرها التنظيم، والتي اختار لها اسم “دابق” – وهو اسم مدينة في شمال سوريا يعتقد البعض أنه ستجري فيها المعركة الفاصلة التي سينتصر فيها الإسلام على المسيحية – فإن الرؤية المستقبلية لهذا التنظيم قائمة على نبوءة بحدوث حرب مروعة تعصف بالعالم.
وتبث أجهزة داعش الدعائية الكثير من الصور المروعة لمجازر ومآسٍ، تؤكدها أيضًا روايات صادمة يحكيها الأشخاص الفارون من جحيم هذا التنظيم، من بينها ما نشرته صحيفة الهافنتون بوست في الخامس عشر من ديسمبر الماضي حول الاستغلال الجنسي الذي يمارسه التنظيم بشكل ممنهج، والتسجيل المصور الذي نشره التنظيم في مارس المنقضي ويظهر فيه طفل صغير يقوم بإعدام شخص متهم بالتجسس.
هذه حقائق ترويها المواد الإعلامية التي ينشرها التنظيم بنفسه، وهو يدعي أن كل هذا يندرج ضمن “تطبيق الشريعة”، في هذه الحرب ضد من يعتبره “العدو التاريخي” لم يعد التنظيم يقوم بهذه الممارسات في الخفاء، ففي الثالث عشر من يونيو 2014 غداة بسطه لسيطرته على الموصل وتكريت أعلن هذا التنظيم أنه قام بإعدام 1700 جندي شيعي بدعوى أنهم “على ضلالة”.
وأظهر تسجيل نُشر في نفس الوقت عناصر داعش وهم يفرغون مخازن بنادق الكلاشنكوف في رؤوس عشرات الرجال الممددين بجانب بعضهم ووجوهم متجهة للأرض، أما الأسرى من عناصر الجيش والشرطة المنتمين للسنة فإنهم أكثر حظًا، إذ تتاح لهم فرصة “إعلان التوبة” في مساجد تم تخصيصها للغرض، ولكن ليسوا كلهم محظوظين، فالطيار الأردني الشاب معاذ الكساسبة تم حرقه حيًا في قفص حديدي في يناير 2015 رغم أنه سني، وقضاة داعش استندوا في هذا القرار إلى رواية قديمة تسمح بحرق المسلمين إذا صدر الحكم بأنهم مرتدون.
الاستغلال الجنسي
في شهر أكتوبر من سنة 2014 أصدرت اللجنة العليا لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة تقريرًا حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها تنظيم داعش، تحدثت فيه عن هجمات تستهدف بشكل مباشر المدنيين والبنية التحتية المدنية، وعمليات إعدام وقتل ممنهج للمدنيين، وعمليات اختطاف واغتصاب وعدة أشكال أخرى من الاعتداء الجنسي والجسدي ضد النساء والأطفال، بالإضافة للتجنيد القسري للأطفال.
وتستغل الأجزة الإعلامية لداعش هؤلاء الأطفال بشكل مكثف في دعايتها، حيث تظهرهم كأشبال يحفظون القرآن ويتقنون حمل السلاح، أو يقومون برفع السبابة وترديد شعارات الولاء للخليفة خلال حفلات صاخبة يتم تنظيمها في الساحات العامة.
ولكن من المؤكد أنهم يفتخرون بشكل أقل بالجرائم التي أشارت إليها في فبراير الماضي لجنة حقوق الطفل في منظمة الأمم المتحدة، التي تحدثت عن عمليات قتل ممنهج للأطفال المنتمين للأقليات الدينية والعرقية على يد عناصر تنظيم داعش، من بينها عمليات إعدام جماعي للأولاد على وجه الخصوص وقطع للرؤوس وتعذيب ودفن للأطفال وهم أحياء.
كما تعرض آخرون للاعتداء الجنسي وتم بيعهم في السوق، فيما تم استغلال بعض المصابين بإعاقة ذهنية للقيام بعمليات انتحارية، وقد تم استهداف الطائفة اليزيدية بشكل خاص وممارسة التطهير الديني ضدها بسبب معتقداتها المتعارضة مع الإسلام،وهو ما صنفته منظمة الأمم المتحدة في التاسع عشر من مارس المنقضي على أنه جريمة إبادة جماعية، وكل هذا في إطار مقاربة دينية يتبناها التنظيم تهدف إلى تطهير “أرض الإسلام” من خلال قتل وتشريد الشيعة واليزيديين.
ويلقى المسيحيون الذين فضلوا البقاء في أماكنهم معاملة أفضل نسبيًا، حيث يتم منحهم ثلاثة خيارات وهي: دفع الجزية أو اعتناق الإسلام أو الموت، وفي هذا السياق يقول أحد الباحثين الذين يمتلكون اتصالات بأساتذة جامعة الموصل إن “وجود الأقليات المسيحية يعتبر ضروريًا بالنسبة لتنظيم داعش للقيام بأعمال يمتنع عنها السنة، ففي الموصل مثلاً كل أطباء النساء والتوليد هم من المسيحيين، والتنظيم مضطر لإقناعهم بالبقاء وحتى وضع حراسة خاصة لحماية مدارسهم ومحلاتهم التجارية، أما بالنسبة للجزية فيتم دفعها مرة في السنة والكثيرون يقولون إنه في الموعد القادم لدفعها لن تكون دولة داعش قائمة أصلاً”.
ورغم القسوة الكبيرة التي يتصف بها فإن تنظيم داعش أظهر بعض الواقعية والبراغماتية في سياساته، لأنه أدرك قبل الأمريكان أهمية كسب قلوب الناس وعقولهم في العراق وسوريا؛ ولهذا يحرص عناصر التنظيم على احترام القانون المتصلب الذي يفرضونه على الناس، لأن هذا القانون هو مصدر قوتهم وسر بقائهم على قيد الحياة.
كما أن العناصر الذين يتصرفون كما يحلو لهم ويتخذون قرارات ضد المدنيين دون العودة للقضاة والقيادات تتم معاقبتهم إذا اكتشفت شرطة الأخلاق أو “الحسبة” تصرفاتهم؛ فزعيم هذا التنظيم يريد إنشاء دولة صلبة ومنحها كل مقومات الاستمرارية حتى يدوم حكمها إلى نهاية العالم، ففي كل مدينة تتم السيطرة عليها يتم إنشاء محكمة دينية، وكما يتم قطع يد السارق فإن مراقبي آلات الوزن يجوبون الأسواق.
كما تمكّن غنائم الحرب والضرائب المفروضة على الناس والدخول المتأتية من تصدير الثروات النفطية من تمويل وصيانة البنية التحتية، في أحد الأسواق مثلاً تم تعبيد الطريق بسرعة وهو مطلب ظل الأهالي لسنوات يطالبون به قبل مجئ داعش دون جدوى، كما يتم توزيع الغذاء وتقديم الخدمات الاجتماعية للفقراء في كل مدينة، في إطار الخطة الدعائية التي يريد التنظيم من خلالها رسم صورة وردية لدولته.
أما في مجال التعليم فقد تم السماح بفتح المدارس بشكل عادي بعد تعديل المنهج الدراسي بإلغاء المحتويات التي تعتبر كفرًا وفصل الطلبة عن الطالبات، كما يحرص تنظيم داعش على تأمين حاجيات الناس من الماء والكهرباء بشكل يومي، والمشروبات الكحولية والمخدرات والتدخين ممنوعة، ويبث التنظيم باستمرار تسجيلات لعمليات تدمير لمخزونات هائلة من الممنوعات المهربة، أما النساء فإنهن ممنوعات من الخروج للعمل ولا يمكنهن الخروج إلا برفقة رجل كما يشترط أن يرتدين ملابس معينة تغطيهن بالكامل.
ويتساءل العديد من الباحثين في شؤون الشرق الأوسط: إذا كان تنظيم داعش الذي يتحدث عن البقاء والتمدد قد نجح في تنظيم أوضاعه الداخلية وفرض الاستقرار نسبيًا في بعض المناطق الخاضعة لسيطرته، فما الذي يميز إذا الحياة اليومية تحت راية هذا التنظيم عن الحياة في ظل النظام الحاكم في السعودية الذي يعطي الصلاحيات لرجال الدين ليطبقوا نفس هذه الأحكام القاسية على الناس ويتدخلوا في مناهج التعليم ويقيدوا حرية المرأة؟
المصدر: جون أفريك