مرة أخرى تُصر الإدارة التركية على المضي في رفض الاعتراف بالإبادة الجماعية التي يُعتقد على نطاق واسع أن الإمبراطورية العثمانية قد قامت بها بحق الأرمن عام 1915، وذلك قبل أيام من إحياء الذكرى المئوية للمجازر في 24 من الشهر الجاري، وقد شهدت الأوساط التركية عاصفةً من الغضب لم تهدأ رياحها بعد، إثر تبني البرلمان الأوروبي قرارًا يصف المجازر بحق الأرمن بـ “الإبادة الجماعية”، سبقته تصريحاتٌ مماثلة للبابا فرانسيس قبل أيام، وفي بيان لها، قالت الخارجية التركية إن هذا القرار ينم عن “هوس” وهو “مثير للسخرية”، معتبرة أنه “يقتل التاريخ والقانون”، واتهمت الخارجية البرلمان الأوروبي باختلاق العراقيل أمام انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
وكان البرلمان الأوروبي عقد نهار الأربعاء الماضي جلسة للجمعية العمومية في العاصمة البلجيكية بروكسل أصدر خلالها قرارًا رمزيًا بغالبية الأعضاء يدعم المطالب الأرمنية ويدعو تركيا إلى “مواجهة ماضيها والاعتراف بالإبادة”، وأشاد القرار بالكلمة التي ألقاها بابا الفاتيكان في الذكرى المئوية للإبادة الجماعية، والتي كانت تحمل روح السلام والتفاهم، على حد وصف القرار، كما أوصى بتفعيل الاتفاقيات والبروتوكولات التي وقعت بين تركيا وأرمينيا عام 2009 وفتح الحدود بين البلدين وتحسين العلاقات بينهما، البابا ترأس يوم الأحد الماضي قداسًا خاصًا في كاتدرائية القديس بطرس، بمشاركة الرئيس الأرمني سيرج ساركسيان إحياءً لذكرى ضحايا الأرمن، حيث قال في بداية كلمته “إن أول إبادة جماعية في القرن العشرين وقعت على الأرمن”، وعلى إثرها، قامت تركيا باستدعاء سفيرها لدى الفاتيكان محمد باتشاجي للتشاور، فضلًا عن استدعاء وزارة الخارجية التركية سفير الفاتيكان لدى أنقرة أنطونيو لوسيبيللو، وتقديم احتجاج رسمي له بشأن التصريحات.
في المقابل، سارع المسؤولون الأتراك إلى الرد على تصريحات البابا، وهو ما وصل إلى رأس الدولة حيث ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطابًا ناريًا قال فيه إن بلاده “لا تلوث نفسها بوصمة عار ارتكاب مجازر”، وإنها لا تعير اهتمامًا ولا تلقي بالًا للقرار الأوروبي، واستطرد قائلًا إنه يوجد في تركيا الآن قرابة 100 ألف أرمني مواطن وغير مواطن، مؤكدًا أن الأرمن في تركيا لم يتعرضوا يومًا للمضايقات أو التمييز، شأنهم شأن بقية المواطنين الأتراك، أما رئيس وزرائه أحمد داود أوغلو، فقد وصل به الأمر إلى اتهام البابا بالانضمام للمؤامرة التي تحيكها ما أسماها “جبهة الشر” لاستهداف حزب العدالة والتنمية.
بدوره، جاء موقف زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال قليجدار أوغلو مطابقًا لموقف خصومه في العدالة والتنمية في رفض تصريحات البابا، كما طالب بإعداد صيغة ردٍ جماعي على قرار البرلمان الأوروبي، لكن كيليتشدار أوغلو ألقى باللائمة على حزب العدالة والتنمية فيما يتعلق بالتصريحات المتتالية من اللاعبين الدوليين ضد تركيا بسبب قصر نظر الحزب في السياسات الخارجية، على حد تعبيره.
الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، إذ أصدر مفتي أنقرة مفاعل هيزلي بيانًا قال فيه إن تصريحات البابا حول الإبادة الأرمنية سوف تسرّع في إعادة افتتاح متحف أياصوفيا كمسجد للمسلمين، دون أن يفنّد العلاقة بين تصريحات رأس الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان ومتحف أياصوفيا في إسطنبول الذي ظل يُستخدم ككاتدرائية للروم الأورثوذوكس في القسطنطينية حتى عام 1453، قبل تحويله إلى مسجد من قِبل السلطنة العثمانية حتى عام 1931، ومن ثم إلى متحف منذ عام 1935.
وبذلك، تحاول السلطات السياسية والدينية في تركيا إثارة المشاعر القومية والطائفية لدى الناخب التركي عبر التلميح، المباشر وغير المباشر، بأن التصريحات هي هجوم على “الأمة التركية” من قِبل الأرمن وحلفائهم الدوليين، وعلى “تركيا المسلمة” من قِبل أكبر مرجعية مسيحية في العالم.
وتطالب أرمينيا تركيا بالاعتراف بمسؤوليتها عن الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن، وبالاعتذار عنها، دون المطالبة بالتعويض، وقد اعتبرت أرمينيا أن اعتراف البابا فرانسيس بأن الإبادة الأرمنية كانت الأولى خلال القرن العشرين له أهمية كبرى وأنه دليل آخر على أن العالم بدأ بالاعتراف بما حل بالأرمن على الرغم من كل الضغوط التي تمارسها تركيا في هذا الاتجاه، في حين تصف تركيا ما حدث للأرمن في تلك الفترة بـ “التهجير الاحترازي” وأن الأرمن قتلوا نتيجة الاضطرابات والحرب الأهلية، كما تنفي أن تكون أعداد الضحايا قد وصلت إلى مليون ونصف أرمني، وفي حين تعترف أكثر من 20 دولة بارتكاب إبادة جماعية بحق الأرمن، تتجنب الولايات المتحدة حتى اليوم استخدام مصطلح “إبادة” لتفادي إغضاب حليفها التركي داخل حلف الناتو.
وبحسب مؤرخين، فإن ما يزيد على مليون ونصف أرمني قتلوا في عمليات ذبح ممنهجة على يد السلطنة العثمانية ما بين عاميّ 1915 و1922، إضافة إلى تهجير مئات الآلاف، بينهم نساء وأطفال وشيوخ، تحت ظروفٍ غاية في القسوة فيما يعرف بمسيرات الموت بهدف اقتلاعهم مما بات يسمى اليوم بالأراضي التركية.