ترجمة وتحرير نون بوست
في مشغله القابع ضمن الشوارع المتعرجة لمدينة طرابلس القديمة، يجلس عبد الوهاب السعودي وهو يدق قطعة من النحاس في يده، وبعد حوالي الساعتين، يضع هذه القطعة التي صاغها على شكل هلال، ويتناول قطعة أخرى ليصوغها بيديه الماهرتين.
وفي خضم الوضع الليبي الذي يعاني من تنامي الفوضى والعنف منذ نهاية ثورة عام 2011 التي أطاحت بمعمر القذافي، السعودي لديه أمل ضئيل في العثور على مشترين لعمله النحاسي، ولكنه وكباقي الحرفيين والتجار الآخرين في البلدة القديمة، يحاول الحفاظ على الصناعات التقليدية التي استمرت في المدينة القديمة في قلب العاصمة الليبية منذ عدة قرون، حيث يقول”لم يعد أحد يشتري الآن، نحن فقط نصنع البضائع ونخزنها”.
لأكثر من 2500 عام، كانت المدينة القديمة التي أسسها التجار الفينيقيون في القرن السابع قبل الميلاد هي القلب النابض للعاصمة طرابلس، بحيطانها البيضاء النابضة بالحياة وورشات العمل وأكشاك التسوق التي تضمها.
كما تحتوي المدينة القديمة على كنز من المواقع التاريخية والأثرية، من جامع الناقة الذي شيّد في القرن العاشر والذي يعد أحد أقدم الجوامع في شمال أفريقيا، إلى كنيسة يسوع الملك الذي يعود تاريخها إلى 1829 للميلاد، وعند بداية المدينة القديمة من جهة شاطئ البحر الأبيض المتوسط يوجد قوس ماركوس أوريليوس الروماني، وإلى جانبه يقبع المنزل الذي قطنت به أول بعثة ديبلوماسية إلى ليبيا والذي تم تشييده من قِبل الفرنسيين في عام 1630، وقبالة الشارع يجثم برج الساعة العثمانية الذي تم بناؤه عام 1870.
تضم المدينة القديمة أيضًا حيًا يهوديًا سابقًا، وضمنه يوجد كنيس يهودي، كان آخر استخدام له في عام 1967، وهو العام الذي طُردت فيه الجالية اليهودية من ليبيا إثر أعمال شغب في أعقاب حرب الأيام الستة، حيث رحلوا إلى إيطاليا وإسرائيل والولايات المتحدة، ولاتزال نجمة داود تعلو جانبه الأيمن من الخارج إلى جانب نقوش عبرية محفورة فوق المدخل.
أرخت الحرب بظلالها على ليبيا مع تحولها إلى ساحة معركة بين الحكومات المتنافسة، وسيطرة ميليشيا الفجر الإسلامية الليبية على مدينة طرابلس، وهذا بالطبع أدلى بتبعاته على الحركة السياحية التي أصبحت شحيحة بحكم الواقع.
قرابة متجر السعودي يجلس زميله النحّاس مختار رمضان، الذي ورث هذه المهنة من أجداده الذين اشتغلوا بها منذ 150 عامًا، ويقول “لدينا العديد من المشاكل، نحن نكافح للحصول على المواد الخام للقيام بعملنا، مبيعاتي انخفضت إلى الصفر تقريبًا منذ قيام الثورة، لقد انعدمت السياحة”.
قلب طرابلس النابض
يشير حسام باش إمام مستشار هيئة التراث بطرابلس، إلى أن المدينة القديمة تحتل مكانًا خاصًا في قلوب وضمير الليبيين، ويضيف قائلًا “المدينة القديمة هي القلب النابض لطرابلس، لقد عانت مسبقًا من بعض الأوقات الصعبة، وكان عليها أن ترابط تحت وطأة القتال والنزال، لكنها صمدت ولاتزال قائمة”.
لم تطل النزاعات الليبية المدينة القديمة في طربلس، فلم تتحول هذه المنطقة إلى ساحة معركة خلال الثورة، ولم تمتد أعمال العنف الأخيرة التي اجتاحت ليبيا إليها، ولكن الإمام يشير إلى إن الجهود الساعية للحفاظ على طابع المدينة القديمة التاريخي توقفت منذ عام 2011، وآثار سنوات الإهمال هذه، بدأت تظهر عليها الآن؛ فعلى طول شوارعها الضيقة المرصوفة بالحصى، بدأ طلاء المدينة القديمة الأبيض بالتقشير، وآلت الأبنية إلى الانهيار، كما تم تخريب العديد من المواقع التاريخية، بما في ذلك بعض المساجد والأضرحة.
في سوق الحرير ينسج جمال مصطفى خيوطه الملونة ليحيك فساتينًا نسائية، ويقول لنا بثقة إن المدينة القديمة والحرف التقليدية، ستبقى على قيد الحياة رغم الصعوبات التي تواجهها، “نحن متصلون روحيًا بهذه التجارة، والدي عاش هنا، وجدي كان هنا، وسيظل أولادي هنا”، قال محمود (60 عامًا)، وأضاف “المدينة القديمة هي الهواء الذي نتنفسه، إنها تاريخنا، لقد مر الكثير من الناس من هنا، وسوف تواجه المدينة الكثير من المحن، وسوف تخرج منها سالمة”.
المصدر: ميدل إيست آي