ترجمة وتحرير نون بوست
تلان من الأعشاب الخضراء يقبعان بجانب بعضها البعض بجوار قناة ري مؤقتة في أجاس – بازيبورا، القريتان التوأمتان اللتان تقعان بالقرب من منطقة بانديبورا في جامو وكشمير، وبدون أية علامات وبدون أي وصف، لا يمكن لأي شخص أن يميز أن هذين التلين هما في الواقع عبارة عن قبرين لمسلحين باكستانيين قُتلا على يد الجيش الهندي في عام 2009، حيث أخبرني القرويون المتجمعون حول سد الطين المؤقت قرب قناة الري، كيف يتم تكليفهم بدفن جثث الذين قضو بالصراع، فعندما يُقتل أشخاص في مواجهات مع الجيش، يسلم الأخير جثثهم إلى الشرطة المحلية، والتي تقوم بدورها – في حال عدم التعرف على هوية الجثث – بتسليمها لأهل القرية لدفنها وفقًا للتقاليد الإسلامية، وفي هذه الحالة، يُقال للسكان إن هذه الجثث عائدة لمسلحين فقط، بدون أي تفاصيل أخرى تظهر حقيقة هذا الادعاء.
سكان القرى الواقعة في مناطق حزام المسلحين في كشمير اعتادوا على هذا النوع من الدفن، حيث أخبرنا مرافقنا الشاب الذي يبلغ أوائل العشرينات من عمره، أنه اعتاد على حفر القبور بشكل متقطع منذ أن كان بعمر الـ12 عامًا، والسكان المحليون أبدوا استعدادهم أيضًا لاصطحابنا إلى عدة قبور من هذا النوع، وتشير لجنة حقوق الإنسان في دولة الهند أن عدد القبور المجهولة الهوية في الهند التي يقال عليها إنها عائدة لمسلحين باكستانيين بلغ 2700 قبر في عام 2011، ووفقًا لأحدث الأرقام الصادرة عن تحالف المجتمع المدني في جامو وكشمير فإن مجموع هذه القبور الجماعية والتي لا تحمل أي علامات وصل إلى 7000 قبر في خمس مناطق واقعة في منطقة حزام الاشتباكات.
وفي قرية أخرى بمنطقة بانديبورا، التقينا بمجيد، شاب نحيف يبلغ من العمر 35 عامًا يرتدي سترة تقليدية دافئة، وحفرت عليه السنون خطوطها التي أبدته أكبر من عمره بكثير، جلسنا على الأرض المدثرة بالسجاد في منزله بالقرية الصغيرة التي تبعد ساعتين إلى شمال سريناغار، وعندما نظرنا إليه، كان من الصعب علينا أن نصدق لوهلة أن الدولة الهندية اعتبرته في إحدى المناسبات مسلحًا خطيرًا؛ فمجيد كالكثير من الصبية اليافعين في وادي كشمير، أقنعه أقرانه ليصبح ناشطًا في منتصف التسعينيات، وكل ما كان يتوجب عليه فعله آنذاك، هو عبور خط كوبوارا ليصبح في الشطر الباكستاني من كشمير، ويخضع لثلاثة أشهر من التدريب في المخيم الذي ترعاه المخابرات في مظفر أباد، ومن ثم العبور مرة أخرى إلى كشمير الهندية، لينضم إلى الخلايا المسلحة الباكستانية المحلية في انتظار التعليمات، ولكن لدى عودته إلى كشمير الهندية، تم اعتقال مجيد من قِبل القوات المسلحة الهندية، وسُجن وعُذب ليتحول إلى حليف للدولة الهندية، حيث كانت مهمته الجديدة تتمثل بتقديم المعلومات إلى سلاح راشتريا، وهو سلسلة من أفواج الجيش الهندي تم إنشاؤها في التسعينيات لمكافحة التمرد في كشمير، أما حاليًا وبعد تقاعده من مهمته، فإن مجيد يهتم بعائلته ويعتني بأبقاره وأرضه، ويعيش من دخله الزراعي الضئيل.
النزاع الذي لم يحسم
يشير مجيد أنه في منتصف التسعينيات سعت الجماعات المسلحة المدعومة باكستانيًا لتشكيل حركة انفصالية محلية في كشمير، وحزب المجاهدين على سبيل المثال هو أحد هذه الجماعات التي استطاعت ممارسة مهامها عن طريق انتهاج سياسة العنف، ونظرًا لإمكانات الجماعة الهائلة على تجنيد الشباب، سرعان ما تم إدراجها كقوة خطيرة يجب تدميرها من قِبل الجيش الهندي، وردًا على نمو الجماعات المتمردة المدعومة باكستانيًا، بدأت الدولة الهندية بتجنيد المسلحين السابقين ليواجهوا هذه الجماعات لحساب الدولة الهندية، وكان هؤلاء الرجال يدعون الإخوان.
عثمان هو إخواني سابق، أصرّ عندما تحدثنا إليه أن جماعته لم تكن تعمل تحت رعاية الجيش الهندي، ووضح أن جماعته كانت فعلًا تُكنّ مشاعر عداء حقيقة للمسلحين المدعومين باكستانيًا، وعملت على تمهيد الطريق لعملية انتخابية سليمة، أما معظم الأشخاص الآخرين، بمن فيهم رشيد الذي كان إخواني سابق أيضًا، اعترف لنا بأنه كان يتلقى أوامر مباشرة من ضباط الفوج المحلي، كما أطلق الجيش الهندي يد باراي – وهو زعيم إخواني معروف – وفرقته في المنطقة، حيث عملت المجموعة على ابتزاز وسرقة الأموال، ووضع خطط لقتل السكان المحليين، بل وأحيانًا تزويج النساء المحليات لأعضاء الجماعة غصبًا.
على الرغم من تنظيم أكثر من جولة انتخابات في كشمير منذ تسعينيات القرن الماضي، ورغم الحالات النادرة التي ساد فيها حكم الدولة المركزية، بيد أن الممارسة الديمقراطية لم تلمّع صورة الهند أمام قاطني الوادي، ونتيجة لذلك، بقي الكشميريون محاصرين بين عمليتين سياسيتين مدبرتان وموجهتان للغاية وهما: الانتخابات والتمرد، ولفهم السياسة المعاصرة في كشمير، من الضروري أن نبحث في كلا هاتين السياستين.
في كشمير، الانتخابات الديمقراطية التي تتمتع بمعدلات إقبال عالية من الناخبين، غالبًا ما يتم اعتبارها – بشكل خاطئ – كمؤشر للإذعان للدولة الهندية، ولكن الواقع يشير أن الحملة الحكومية لمكافحة التمرد، لا تهدف إلى كسب قلوب وعقول السكان، بل إلى طمس ومحو المتمردين تمامًا وتقويض جاذبيتهم، وهذا ما أدى إلى ارتفاع المظالم والانتقادات التي تطال القوات المسلحة؛ لذا يُنظر إلى الديمقراطية الانتخابية داخل كشمير على أنها من الوسائل القليلة التي يمكن من خلالها للمواطنين مقاومة تعديات الجيش، أكثر من ولائها لأطراف معينة أو لسياسيين معينين أو للحكم الهندي؛ فالكشميريون يتطلعون إلى انتخاب الذين يستطيعون حمايتهم من تجاوزات الجيش والشرطة، وبذات الوقت يوفرون لهم سلعًا وبضائعًا على نطاق واسع.
في ديسمبر من عام 2014، تشابكت هذه الديناميات بطريقة جديدة، فللمرة الأولى منذ عام 1983، صوتت الدوائر الانتخابية في منطقة جامو ذات الأغلبية الهندوسية في كشمير لحزب بهاراتيا جاناتا لتولي حوالي 25 مقعدًا من أصل 87، ولكن النتائج في الوادي ذي الأغلبية المسلمة كانت مختلفة، حيث دعم السكان حزب الشعب الديمقراطي بقيادة عائلة المفتي ليكسب 28 مقعدًا، وحزب بهاراتيا جاناتا استطاع الحصول على الدعم عن طريق وعوده بالتطوير والتحديث وحماية الهندوس في كشمير من سياسات نيودلهي، أما حزب الشعب الديمقراطي فقد اقتنص الفوز بالتعويل على مشاعر الشعب المعادية لاستلام أشخاص من المؤتمر الوطني للحكم في البلاد، وذلك بعد فشله في إدارة جهود الإغاثة من الفيضانات في سبتمبر من العام الماضي.
وبعد فترة وجيزة من الحكم المركزي بين يناير ومارس من عام 2015، شكّل حزب بهاراتيا جاناتا تحالفًا مع حزب الشعب الديمقراطي للحصول على الأغلبية في برلمان الولاية، وتم تعيين عضو حزب الشعب الديمقراطي مفتي محمد سيد رئيسًا لولاية إقليم جامو وكشمير الائتلافية، ولكن هذا التحالف الغريب كان ضعيفًا منذ إنشائه، ولم تلبث وأن ظهرت العداوات السياسية بين زعيمي الحزبين، حيث أشاد سيد بجهود باكستان وحركة حريات الانفصالية والمسلحين في كشمير لتشجيعهم على تأدية انتخابات سلسة وديمقراطية في كشمير، مما أثار حفيظة زعيم حزب بهاراتيا جاناتا ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي أشار إلى أن مثل هذه التصريحات خرجت عن الحدود، نظرًا لسياسة عدم التسامح المتبعة من قِبل حزب بهاراتيا جاناتا نحو المتشددين والمسلحين، كما أن سيد – وبموجب سلطته على إقليم كشمير – قام بإطلاق سراح الزعيم الانفصالي الكشميري مسرات علام خلال الأسبوع الأول له في منصبه، مما دفع مودي بالتهديد بإلغاء المادة 370 من الدستور الهندي التي تمنح كشمير الحكم الذاتي، وكرد على ذلك مضى سيد بدعم الجهود لإلغاء قانون السلطات الخاصة للقوات المسلحة لعام 1990، والذي يتمتع بموجبه الجنود بحماية مطلقة من الملاحقة القضائية تحت غطاء مكافحة التمرد، وبذلك سقط مفهوم كشميريات (أي الهوية الكشميرية المشتركة بين المسلمين والهندوس)، وبزغ مجددًا مفهوم التقسيم والطائفية.
على الرغم من توحد مطالبهما (الحماية من شطط قوات مكافحة الإرهاب وابتغاء التنمية)، بيد أن الوسائل السياسية التي ينتهجها سكان جامو الهندوس مختلفة عمّا ينتهجه سكان كشمير المسلمين، والآن فقط ومن خلال المنافسة الانتخابية المفتوحة تبيّن الاختلاف المتجذر ما بين الطرفين لرؤى المستقبل، وعلى الرغم من أن مودي أعرب عن حاجة الهند إلى إيجاد حلول وسط مع باكستان لإيجاد حل لقضية كشمير، بيد أنه من غير المرجح أن تختلف رؤية مودي عن رؤية الحكومات الهندية السابقة، والتي لطالما اتجهت إلى إهمال إشراك الكشميريين في المشاورات حول مستقبلهم، وركزت أنظارها بدلًا من ذلك على معالجة القضية من منطلق نزاع الأراضي.
سياسة مودي في كشمير مؤلفة من مزيج من السياسات التنموية مع الإجراءات الأمنية المشددة التي تهدف إلى تحقيق المزيد من الاندماج لإقليم جامو وكشمير ضمن المجتمع الهندي، كما عرض مودي أيضًا حق العودة وإعادة التوطين لحوالي 400.000 كشميري من جماعة بانديت، وهي جماعة هندوسية يرجع أصلها إلى كشمير وواجهت الطرد من المنطقة في تسعينيات القرن الماضي نتيجة للتهديد الجهادي المتنامي، وخطط مودي لإعادة توطين مجتمع البانديت في كشمير – في حال نجاحها – يمكن أن توفر ربطًا ثقافيًا ما بين كشمير ونيودلهي، باعتبار هذه الجماعة ستعمل كموازن سياسي للحركات الانفصالية في الإقليم، وعلاوة على ذلك، يسعى مودي إلى تسوية أوضاع حوالي 200.000 لاجئ هندوسي من غرب باكستان ليصبحوا مقيمين في ولاية جامو وكشمير أيضًا، ومثل هذه التحركات لا تبشر بالخير بالنسبة للدولة التي تكافح أصلًا للتخلص من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها والخلخلة السياسية التي تعاني منها، ويرى بعض المراقبين المحليين خطوة إعادة توطين البانديت في وادي كشمير باعتبارها خطوة لضرب جذور حزب بهاراتيا جاناتا في المنطقة وتأصيل سياسة الحزب الإقصائية في كشمير، عن طريق تجميع الدائرة الانتخابية القادرة على دعم الحزب انتخابيًا على المدى الطويل، ولكن هذه الإصلاحات التكنوقراطية محكومة بالفشل وفقًا للتجارب التاريخية السابقة، وأيضًا بسبب الصدمات النفسية المجتمعية القاسية التي واجهت الشعب الكشميري باستمرار منذ ما يقرب من الثلاثة عقود.
بناء عليه، وإذا كانت الأطراف فعلًا تسعى لإيجاد تسوية دائمة للأزمة في كشمير، فبدلًا من المضي قدمًا بتطلعات مودي في المنطقة، يجب تمثيل سكان الإقليم بجميع خلفياتهم على طاولة المفاوضات بين الهند وباكستان، حيث يتوجب إدراج الجهات المتمردة الفاعلة سياسيًا ضمن هذا الحوار، بدلًا من رفضها نظرًا لإجرامها، فهي أولًا وأخيرًا مكون إقليمي وسياسي مهم ولا يجب التغاضي عنه، وهذه الاتفاقات ليس غريبة على الدولة الهندية التي عقدت اتفاقات مشابهة مع الجماعات المتمردة في تريبورا وميزورام وناجالاند في الماضي، وهذه الجماعات المتمردة لم تندمج بالمجتمع فحسب، إنما تحولت أيضًا إلى أطراف ذات مصلحة سياسية مشروعة.
واقع كشمير لا يُفهم بشكل صحيح في كثير من الأحيان من قِبل صانعي السياسة الهندية، الذين يميلون إلى تأطير الصراع ضمن لعبة نظرية تمتلك فيها المصلحة الوطنية والمخاوف الأمنية اليد الطولى لتطغى على قصص حفر القبور الجماعية والمسلحين الذين يبحثون عن الإصلاح لقضاء ما تبقى من حياتهم في سلام.
المصدر: فورين بوليسي