منذ اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، وبدأ مصطلح الدولة العميقة في الرواج، لاسيما فيما يخص الحالة المصرية، والتي بدأت يظهر فيها إلى النور مجموعة من اللاعبين من داخل الدولة بعد إسقاط الرئيس مبارك في محاولة لبسط هيمنتها، أبرزها بالطبع المؤسسة العسكرية وأذرعها الاستخباراتية والاقتصادية والإعلامية، والتي حاول الرئيس السابق محمد مُرسي وجماعته أن يضاهوها في اللعبة السياسية بالشد والجذب، ليفشلوا في ذلك وينتهي بهم الأمر إلى انقلاب عسكري عام 2013.
على مدار أعوام الثورة، حاولت أطراف عدة زعزعة أركان الدولة العميقة تلك، مثلما جرى حين اقتحم متظاهرون مبنى المخابرات وحصلوا على الآلاف من الوثائق، إلا أن هذه التحرّكات ظلت لحظات ثورية اهتزت فيها تلك الشبكة من العلاقات والمصالح المنسوجة داخل بنيان الدولة، دون أن تسقط بالكامل، وهي التي استرجعت كامل سلطانها ببدء الحملة الإعلامية المناهضة لمُرسي وجماعته، وصولًا إلى الذروة بانقلاب يوليو.
على الرُغم من اقتصار استخدام ذلك المصطلح على الشرق الأوسط، وأحيانًا بعض الدول النامية غير الديمقراطية مثل روسيا وتايلاند وماليزيا مثلًا، إلا أنه قد ينطبق في الحقيقة على مؤسسات وشبكات عدة في بلدان ديمقراطية عريقة مثل بريطانيا، وبالتحديد مؤسستي الاستخبارات المعروفتين MI6 وMI5، والتي لا يعرف الكثير من البريطانيين كيفية عملها ونطاق نفوذها، والذي ظهر إلى السطح مؤخرًا بعد إلغاء مؤتمر عن إسرائيل في جامعة ساوثامبتون.
ماذا حدث في جامعة ساوثامبتون؟
بالأمس، وبعد أن تم تقديم طلب للمحكمة العليا، قررت المحكمة منع منظمي المؤتمر من المراجعة القضائية للقرار، ليتم تأجيل المؤتمر لأجل غير مسمّى، أو في قول آخر إلغاؤه فعليًا، حيث قالت القاضية إنه يتوجب على منظمي المؤتمر أن يمارسوا حريتهم الأكاديمية التي استندوا إليها في دعواهم بأحقية عقد المؤتمر في مكان آخر غير الجامعة!
في أثناء الجلسة، كان المنظمون قد اعترضوا على استناد دفاع الجامعة لوثيقتين من الشرطة كدليل على أحقيتهم في إلغاء المؤتمر (أو تأجيله)، واللتين أفصح الدفاع فقط عن محتوى واحدة منهما، حيث كانت عبارة عن تقرير لتقييم المؤتمر تابع لشرطة هامشاير، والتي اعتمدت على تقارير استخباراتية عن مظاهرات محتملة من جانب المناصرين لإسرائيل يمكن أن تؤدي لوقوع شغب، مما استتبع تأهب الشرطة لحماية المؤتمر إن كان سيتم إجراؤه بالفعل.
استخدم منظمو المؤتمر الوثيقة لإثبات أحقية عقد المؤتمر، إذ يعني التقرير أن الشرطة في الواقع جاهزة لحمايته، وهي ربما واحدة من أسباب الإفصاح عنها من جانب الدفاع قبل جلسة الاستماع التي أُجريت الثلاثاء الماضي، على العكس الوثيقة الثانية، والتي لم يخرجها الدفاع للقاضية إلا ليلة الثلاثاء، وقد قال الدفاع لاحقًا إنها لم تكن مهمة على أي حال في قرار القاضية، وهو ما رفضه منظمو المؤتمر مطالبين بإخراج الوثيقة الثانية بشكل علني، ليواجه طلبهم برفض القاضية.
وحدة مكافحة الإرهاب البريطانية
بعد فترة الراحة، قرر الدفاع الإعلان عن مصدر وماهية الوثيقة، والتي صدرت من شرطة لندن، دون الإفصاح عن محتواها بشكل مباشر، وقد كانت الوثيقة عبارة عن تقرير استخباراتي أسبوعي من وحدة مكافحة التطرف المحلية، وهو ما يشير بطبيعة الحال إلى أن لها دور مهم في قرار القاضية، على عكس ما ادعى الدفاع الخاص بالجامعة، وإلا ما كان قد قدّمها من الأصل ليلة الثلاثاء.
تُعَد وحدة مكافحة التطرف المحلية واجهة لقوات مكافحة الإرهاب البريطانية، والتي تحمي البلاد من خطر التطرف، وهو كما نعرف مصطلح يستهدف في النهاية المسلمين، وإن كان له تاريخ طويل من الاستخدام لقمع الأصوات اليسارية، وكذلك الجمعيات الإسلامية السلمية، وقد عملت الوحدة طويلًا على تقويض هذه الشبكات غير ذات الصلة بالإرهاب، بل وأحيانًا ما شاركت في التحريض ضدها.
في الحقيقة، كانت هناك إشارات واضحة للقوات الخاصة أثناء المحاكمة، حيث ذُكِر مدير أمن جامعة ساوثامبتون، جاري جاكسون، وأشير إلى اجتماع واحد على الأقل عقده مع وحدة القوات الخاصة تناول فيه إمكانية تواجد قوة مسلحة داخل حرم الجامعة لردع أي شغب أو “خطر إرهابي” قد يحاول النيل من اليهود المعترضين على المؤتمر، وهو بطبيعة الحال أمر مضحك، لاسيما وأن هناك مجموعة من اليهود كانت تنوي حضور المؤتمر، ولكن يبدو أن أمن هذه المجموعة لم يكن مهمًا لجاكسون مثل أمن اليهود المحببين إلى قلب اللوبي اليهودي.
***
كل ما يبدو أن الوثيقة الثانية أدت إليه، وكل ذلك اللغط حول خطر الإرهاب والشغب، ينافي تمامًا تقرير الشرطة المحلية الأول، والذي أشار لقدرة القوات التابعة له على حماية المؤتمر ومنع أي شغب، وهو ما يشير بوضوح لتلاعب جرى من قِبَل دفاع جامعة ساوثامبتون لصالح إلغاء المؤتمر تعاونت معه فيه وحدات مكافحة الإرهاب البريطانية، واحدة من أبرز أذرع الدولة العميقة في بريطانيا كما هو واضح، والقريبة من الخط المحافظ داخل مؤسسات الدولة، كما يشي لنا موقف الوزير المحافظ إريك بيكلز الذي دعا علانية إلى منع إقامة المؤتمر هو الآخر.