ترجمة وتحرير نون بوست
يستطيع المتابع العادي للأحداث ببساطة أن يلاحظ تجاوز ثورات الربيع العربي بلدًا عربيًا واحدًا فحسب، وهو الجزائر، وذلك رغم التوترات التي تصاعدت في دول الجوار؛ فشرقًا انهارت ليبيا وانخرطت في داومة الحرب الأهلية، وتونس عانت من آثار تصاعد الإرهاب الذي هدد بفشل انتقالها الديمقراطي وانتعاشها الاقتصادي، وجنوبًا، استطاعت مالي بالكاد السيطرة على زمام الأمور، وذلك بفضل قوات حفظ الاستقرار التي تقودها فرنسا، وفي خضم كل هذا، تبقى قدرة الجزائر على التماسك وحفظ البلاد كحصن منيع أمام اضطراد التوترات في المنطقة، لغزًا لابد من تفكيكه.
يمكن اعتبار الجزائر في نواح عديدة دولة ديمقراطية روتينية، حيث أجرت العديد من الانتخابات التي وصفها المراقبون الدوليون بأنها حرة ونزيهة ومتعددة حزبيًا، كما أنها تعتبر من البلدان التي تتميز بحرية الصحافة ونشاط وفاعلية الحركة العمالية، زد على ذلك أن وزارات الدولة تعج بالتكنوقراط المختصين، وبيروقراطيتها تتمسك بالبروتوكولات الواجبة فقط، كما أن ما يميز الجزائر هو حياتها الاعتيادية كما وصفتها جوان بولاشيك، سفيرة الولايات المتحدة في الجزائر، مؤخرًا بقولها “الحياة هناك طبيعية واعتيادية حقًا، الناس يخرجون ويتسوقون ويذهبون إلى المطاعم”، وهذا الشعور الروتيني والاعتيادي وغير الاستثنائي لحظه وركز عليه التلفزيون الفرنسي في تقرير له جاء فيه “امرأة تمارس هواية الغطس تحت الماء، وطاه هاجسه نضارة الطعام، ومدافع عن البيئة يقود طالبات المدارس اللواتي يرددن: بدون الطبيعة، لا يوجد مستقبل”.
لكن الجزائر مختلفة إلى حد كبير عن البلدان التي تمارس حياتها باعتيادية، ذلك أن شعور ورغبة الحياة الطبيعية متجذرة في ضمير ووجدان الشعب الجزائري تبعًا للصدمات النفسية العميقة التي عانى منها خلال التسعينيات، حين قاست الجزائر وتكبدت خسارات عديدة إثر تمرد الإسلاميين في البلاد، تلك الفترة نجم عنها خسائر تجشمتها كامل البلاد تولدت عن العنف المروع والعشوائي الذي طغى عليها، فمن لم تصبه الكوارث كان يعرف شخصًا آخر قريبًا منه قد قاسها، واختفت الحياة العامة، وتلاشت دور السينما والمقاهي، وزالت إشارات المرور كون السيارات المتوقفة عند التقاطعات كانت أهدافًا مثالية للمسلحين، وعندما عادت مظاهر الحياة الطبيعية إثر تعافي البلاد من الحرب، رحب الجزائريون بحفاوة بها، وكان تعلقهم بالحياة الاعتيادية نابعًا من خشية نسيان الأحداث المروعة التي قاست منها البلاد خلال العقد المظلم.
بناء عليه، أصبحت الحياة الاعتيادية الغثة بالنسبة للجزائريين هدية ثمينة يجب حمايتها، وهذا يفسر سبب إعراض الجزائريين عن الاهتمام بالربيع العربي، ورغم أن بعض المراقبين يرجعون سبب الجمود الشعبي إلى يد الدولة الثقيلة التي أرختها على كاهل الشعب، مما أقعدهم عن الثورة، بيد أن الأسباب الحقيقية تكمن في مكان ما من ضمير الجزائريين أعمق من ديكتاتورية الدولة، فهم كانوا يخشون الاضطراب، ويراقبون جيرانهم عن كثب، وحذروهم من أن الطريق لن يكون سهلًا، ومن ثم سلكت الجزائر طريقها الخاص.
القوة على الأرض الجزائرية والحوار خارجها
رغم استساغة الجزائر للاستقرار، بيد أنها لاتزال تتصارع مع الماضي، وهذا النزاع غالبًا ما يتجلى في الحاضر بصور متناقضة، فالسياسات الجزائرية مبهمة إلى حد الإشكال، والقيادة السياسية لم تقم بالتحول الكامل من حكم جبهة التحرير الوطني التي نشطت في خمسينيات القرن الماضي، إلى نظام حكم مفتوح وشفاف قائم على أسس الدولة القومية الحديثة التي تستمد شرعيتها من المجالس التشريعية والنظام السياسي متعدد الأحزاب، وعدد قليل جدًا من الجزائريين يعرفون الكيفية التي يتم على أساسها اتخاذ القرارات السياسية في بلادهم، ويمكن تشبيه سياسة الجزائر بالتموجات التي تظهر على سطح المياه بعد ضرب حجر عليها، مع فارق يتمثل بعدم رؤية الحجر أو راميه على الإطلاق.
في ظل عدم وجود أدلة حاسمة، افترض المحللون إدارة الجزائر من قِبل عصبة سرية أسطورية تعمل تحت غطاء عباءة وتحكم بالخنجر – غالبًا ما تسمى بـ لو بوفوار (le pouvoir) أي السلطة – تضم في عضويتها مجموعة غير معروفة من المتسلطين الذين حكموا البلاد خفية بقدرة غير معروفة منذ استقلاله، ولكن عندما يتم الضغط على هذه النظريات وتُطرح التساؤلات حول شخصيات الـ لو بوفوار على أرض الواقع وقدراتهم التي يحوزونها فعلًا، ينهار مفهوم هذه السلطة الخفية أمام تضاربات الواقع الخفي.
الجزائر هي أيضًا دولة منزوية إلى حد كبير عن الأحداث الدولية، وهذا الموقف ربما يعبّر عن التزامها الراسخ بسياسة الحياد – الجزائر تتولى حاليًا رئاسة حركة عدم الانحياز الدولية -، حيث تتجنب البلاد السياسة الدبلوماسية الشائعة جدًا المتمثلة بسياسة حك الظهر المتبادل، فهي غالبًا ما تكون حذرة ومترددة من الدخول في اتفاقات وعلاقات تلزمها بأن بالمعاملة بالمثل، لأن من شأن هذه الاتفاقات أو السياسات أن تحد من خياراتها التي تتخذها على طول الطريق، وعلى الرغم من أن الجزائر ليست بمعزل تمامًا على الساحة الدولية، بيد أنها تتحرك خارجيًا ضمن هذه الساحة كخيار أخير وعلى مضض، وغالبًا ما تتخلى عن الفوائد المباشرة بغية تخفيض المخاطر التي قد تتعرض لها على المدى الطويل.
إن المزيج السياسي الذي تتبعه الجزائر القائم على سمتين أساسيتين – التعلق العميق بالحياة الطبيعية والسياسات المبهمة – بدأ يتلاشى مع تصاعد المخاطر الأمنية حول حدودها، وقد أدلت هذه التطورات بموقف دبلوماسي جزائري كان – في كثير من الأحيان – متناقضًا، فعلى الرغم من أن الجزائر لاتزال ملتزمة بالحفاظ على الاستقرار الذي حققته داخل حدودها بأي ثمن، بيد أن نهجها الذي تتبعه تجاه الأزمات الخارجية، يخاطر – دون قصد – بالسماح لهذه الأزمات بالتفاقم لتصبح أكثر إشكالية على الجزائر.
فمثلًا، وعلى الرغم من أن الجزائر تنبذ بصرامة قيام الدول الأخرى باستخدام القوة وخاصة عبر الحدود، بيد أنها استخدمت هي ذاتها الجيش الجزائري القوي على الأرض الجزائرية؛ ففي عام 2013، أنهى الجيش الجزائري على الفور المواجهة الإرهابية ضمن منشأة عين أميناس للغاز، وقام بتحرير أكثر من 700 رهينة من بينهم أكثر من 100 أجنبي، ونشرت الحكومة أيضًا قوات برية قامت بالقضاء تمامًا على الجماعة المتطرفة المسماة جند الخلافة، وهي جماعة إسلامية راديكالية متحالفة مع الدولة الإسلامية (داعش)، حيث أعلنت المنظمة الإرهابية عن وجودها علنًا في سبتمبر 2014، وبحلول ديسمبر كان الجيش قد قضى عليها تمامًا وقتل قادتها الرئيسيين؛ ولكن بدلًا من اتباع نهج مماثل لتهديدات المتطرفين في أماكن أخرى، دافعت الجزائر في كثير من الأحيان عن الحلول السياسية التوافقية التي تتمتع بقدر ضئيل من فرص النجاح، مثل إستراتيجيتها تجاه الأزمات الجارية في مالي وليبيا، حيث عمدت في كلتا الحالتين، إلى قيادة المفاوضات التي تهدف لتضمين أكبر عدد ممكن من أصحاب المصلحة ووجهات النظر المختلفة ضمن الحوار، وهذه السياسة خاطرت بدخول الجزائر بمناقشات لا نهائية ليس لها أي نتائج ملموسة على أرض الواقع، بدلًا من معالجة الأسباب التي فجرت الأزمات في المقام الأول.
في مالي، على سبيل المثال، بدأت الجزائر محادثات لتسوية النزاع بين الحكومة والجماعات الانفصالية والميليشيات المتحالفة مع الحكومة في يناير من عام 2014، وضم الحوار ما لا يقل عن ثماني جهات فاعلة مختلفة، بما في ذلك حركتي التمرد الأساسيتين: الحركة الوطنية لتحرير أزواد وائتلاف قوى وحركات المقاومة الوطنية، وأربعة حكومات: بوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا والنيجر، وخمس منظمات متعددة الأطراف، وعلى الرغم من أن المحادثات لم تحقق سوى تقدم ضئيل على مدى الـ14 شهرًا التي عقدت فيها، لاتزال الجزائر ملتزمة بصرامة بمتابعة المحادثات.
وبالمثل عمدت الجزائر إلى استضافة مفاوضات متعددة الجوانب لحل الشأن الليبي، وشمل الحوار مسؤولين من نظام القذافي القديم والجماعة الليبية المقاتلة – منظمة إرهابية تم استيعابها في نهاية المطاف من قِبل تنظيم القاعدة -، بالإضافة إلى تسع دول أخرى، وحظرت الجزائر على الجماعات الإرهابية التي اعترفت بها الأمم المتحدة فقط من الانضمام إلى الحوار، وحاليًا بدأت الجولة الأخيرة من المفاوضات في الجزائر العاصمة هذا الأسبوع تحت مراقبة بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا، ومن الواضح أن هذه المحادثات لن تفضي إلى أي نتيجة تذكر، وما يدلل على ذلك اللهجة اليائسة التي توسل بها ممثل الأمم المتحدة الخاص الليبيين بقوله “لا يجب قتل المزيد من الليبيين”، ومع ذلك، ورغم الفشل المحتوم للمفاوضات الليبية، مازلت الجزائر تصر على دعمها الثابت لهذه العملية.
تبرر الحكومة الجزائرية نهجها بالقول إن هذا النوع من العمليات الشمولية هي وحدها القادرة على بناء سلام مستقر ومستديم، وتبرر السياسة الجزائرية أيضًا رفضها لاستخدام جيشها خارج نطاق الدولة، بأسباب أيديولوجية نابعة من حفاظها على التزاماتها بالحقوق السيادية للدول الأخرى على أرضها.
المتشككون ينتقدون مثل هذه التفسيرات باعتبارها واجهات لإخفاء جبن الدولة الجزائرية، أو أنها محاولات لاكتساب أرضية أخلاقية عالية، ومع ذلك مازالت الجزائر تتمسك بهذا الخطاب بكل فخر واعتزاز، دون رؤية أي تناقض ما بين وجهات النظر الحكومية التي ترحب باستخدام القوة داخليًا وتشجبها خارجيًا، ولكن مع ذلك ومن الناحية العملية، يصعب على الجزائريين تبرير موقفهم في ظل الظروف التي تعيشها الدولة اليوم؛ فإذا كان استخدام القوة فعال جدًا داخليًا، لماذا لا يعتبر كذلك أيضًا خارجيًا؟ خصوصًا وأن أكبر التهديدات التي تواجهها الجزائر تنبع من خارج حدودها؟
إن طرح هذه التساؤلات في الداخل الجزائري هو ضرب من ضروب اللغو تقريبًا، فهناك لا يوجد سوى مساحة صغيرة للنقاش بين واضعي السياسات، كون الأحزاب السياسية التي تمارس السلطة لا تجلس مع المعارضة لمناقشة سبل وخطط المستقبل، والحوارات الوطنية التي تتم على أساس دوري تقريبًا، تنطوي على ذات المحاورين: مكتب رئيس الوزراء والمنظمات العمالية وجمعيات أصحاب الأعمال، وحتى ضمن هذه الحوارات العقيمة، يتم اتخاذ القرارات النهائية في نهاية المطاف من قِبل مجموعة ضيقة وغالبًا غير معروفة، ولكي لا نبخس المعارضة الجزائرية حقها، نعترف بوجود مجموعة تعمل بنشاط وبشكل متكرر على انتقاد الحكومة، ولكن جهودها لم تثمر بأي تغيير حقيقي.
من المرجح أن تشهد الأشهر المقبلة أول اختبار حقيقي للاختيارات الإستراتيجية التي انتهجتها الجزائر حتى الآن، فالجزائر لم يحدث قط وأن واجهت مثل هذه التهديدات الخطيرة والمباشرة التي تقبع على حدودها حاليًا؛ فشدة الصراع الحالي في مالي يقزّم من حجم الثورات التي سبق وأن نشبت في شمالي البلاد، والصراعات المحتدمة هناك تُظهر إمكانية واضحة للانزلاق نحو الجزائر، وبالمثل، فإن المستنقع الليبي الخطير يترصد بالجار الجزائري، فالمتشددون الإسلاميون يتزايدون عددًا وجرأةً يومًا بعد يوم، وحتى اللحظة، تبدو الجزائر عازمة على التمسك بنهجها التقليدي، المتمثل باعتماد الحلول السياسية للأزمات الخارجية، بالتزامن مع حشد الأمن الداخلي لحماية نفسها في حال فشل هذه الحلول، والمشكلة التي تكمن بهذه الإستراتيجية، هي أنها تتوسل صبرًا طويلًا من الجزائريين العاديين، الذين يأملون فقط أن يكون نهج دولتهم هو أفضل طريق للحفاظ على الحياة الطبيعية التي يقدرونها عاليًا.
المصدر: فورين أفيرز