تُعتَبَر العلاقات بين الصين والهند واحدة من أهم العلاقات التي ستشكّل المنظومة الدولية خلال العقود المقبلة، رُغم تركيز الكثيرين على العلاقات الثنائية للولايات المتحدة مع كل من أوروبا والصين دون غيرها، إذ أن البلدين الأكثر تعدادًا في العالم، والاقتصادين الأكبر في آسيا، واللذين سيتربعا على قمة الاقتصاد العالمي مع الولايات المتحدة بحلول عام 2050، يُعتبران متنافسين، إن لم يكونا عدوين كما جرى في أوقات مختلفة على مدار تاريخهما، وهو ما يعني أن التعاون الاقتصادي والتقارب السياسي بينهما سيكون ركيزة من ركائز الاستقرار الدولي.
بين دلهي وبكين
منذ وقوع الحرب الأولى بينهما عام 1962 في جبال الهيمالايا، وتلقي القوات الهندية لهزيمة قاسية من نظيرتها الصينية، عانت العلاقات بين البلدين من افتقاد الثقة بشكل كبير، ليُنسَف تمامًا خطاب الأخوة الصينية الهندية في آسيا، والذي حاول أول رئيس وزراء للهند، جواهرلال نهرو، ترويجه لتدشين قيادة جديدة بديلة للعالم النامي، عوضًا عن قطبي الحرب الباردة آنذاك في واشنطن وموسكو، وتعزيز وضع مجموعة عدم الانحياز، وهو ما اتُهِم بسببه بالسذاجة بعد الحرب الصينية الهندية، والتي جعلت الصين عدوًا في الحسابات الاستراتيجية الهندية إلى جانب باكستان.
لم تتغيّر تلك النظرة حتى وقت قريب، حيث وصف وزير الدفاع الهندي جورج فرناندس الصين بأنها العدو المحتُمَل رقم واحد للهند، وهو ما دفع الحكومة آنذاك إلى إجراء تجارب على أسلحتها النووية متخذة من تنامي القوة الصينية، وتعاونها الوثيق مع باكستان، حجة لها، وهو ما خلق بالطبع توترًا مع الولايات المتحدة التي كانت ترفض حتى ذلك الوقت الاعتراف بالهند كقوة نووية.
حتى الآن، يُنظَر للصين من مُعظَم الهنود باعتبارها خطرًا على أمن بلادهم، حيث أظهر استطلاع للرأي مؤخرًا أن 83٪من الهنود ينظرون لها كخطر، لا سيما مع المشاريع الدؤوبة التي تقوم بها في ولاياتها المتاخمة للهند، بدءًا من تعزيز البنية التحتية بشكل مُبالغ فيه وحتى التدريبات العسكرية الجارية هناك باستمرار، بالإضافة إلى المناوشات البسيطة التي تنشر عنها الصحف الهندية بشكل يومي في الهيمالايا.
على العكس من الأوضاع في الهند، لا يبدو أن الصين تنظر إلى الهند كخطر يحيق بها مثلما تنظر إلى اليابان، والتي تُعَد الآن الغريم الأول لها في آسيا، حيث تقع طموحات الصين المباشرة والرئيسية في بحار شرق آسيا، فإن كانت حرب 1962 بين الصين والهند قد أثبتت للهند أن الصين خطر عليها، فإنها قد أثبتت لبكين أمرًا مغايرًا، وهو أن الهند ستظل لفترة طويلة قوة من الدرجة الثانية، في حين ستكون المنافسة الرئيسية في آسيا بين الصين من ناحية، واليابان ومن خلفها التحالف الغربي من ناحية أخرى.
لذلك، لا يُعَد الصينيون مهووسين بمسألة الهند، والتي تعاني من فقر شديد، ومن غياب الكثير من الإصلاحات الاقتصادية التي ستحتاجها لتصبح في حجم الصين الاقتصادي، أضف لذلك أن تعدادها الذي تجاوز المليار يقبع في بلد تبلغ مساحته فقط ثُلث مساحة الصين، كما أنه معزول عن لعب دور واسع في آسيا نظرًا لعدم امتلاكه لنقطة عبور إلى آسيا الوسطى بالنظر لوجود باكستان في شمال كشمير، وهو ما يعني أن دلهي ستحتاج إلى عقود من البناء الاقتصادي والعسكري لتصبح ندًا للصين.
صعود الهند وطموح الصين
تغيّرت الأحوال قليلًا خلال السنوات الماضية، فرُغم تخلفها الاقتصادي والعسكري عن الصين، بدأ يظهر للهند دور واضح على الساحة الدولية أكثر من ذي قبل، بعضويتها في مجموعة بريكس BRICS ومجموعة العشرين، وكذلك بتحفّظها على الكثير من أسس النظام الدولي، لا سيما فيما يخص الاقتصاد، وهو ما جعلها في الحقيقة شريك مُحتَمَل للصين مؤخرًا، على الأقل على المدى القريب الذي تحاول فيه بكين تعزيز البدائل التي تقدمها عبر بنك استثمارات البنية التحتية الآسيوي وبنك بريكس ومنظمة شانغهاي للتعاون.
بالنظر لاهتمامها بالاقتصاد بشكل رئيسي، تنظر بكين حاليًا إلى الهند كسوق مهم وحيوي، خاصة مع صعود رئيس الوزراء نارِندرا مودي، المعروف بسياساته الليبرالية اقتصاديًا، وهو ما سيجعل الاقتصاد والبنية التحتية أولوية في العلاقات بين الطرفين لفترة طويلة، كما رأينا أثناء الزيارة التاريخية للرئيس الصيني شي جينبينغ إلى دلهي العام الماضي، والتي صاحبه فيها 135 مديرًا تنفيذيًا لشركات صينية كبرى مثل هواوي وشياومي.
بالطبع، سيحتاج تعزيز الوجود الصيني في الاقتصاد الهندي إلى بناء ثقة سياسية بين دلهي وبكين، فالصين حتى الآن لا تزال لاعبًا متواضعًا في اقتصاد الهند، إذ لا تتجاوز استثماراتها 500 مليون دولار، وهي أقل من استثمارات ماليزيا وكندا، أضف لذلك أن الدولة الهندية لا تساعد كثيرًا المستثمرين الصينيين نظرًا للشكوك القائمة منذ عقود بين البلدين، مما يجعل طموحات الصين تصطدم ببيروقراطية هندية متشعبة تحاول الهند إصلاحها منذ سنوات.
على الأرجح، ستحتاج الصين إلى بذل جهد كبير، أكثر من دلهي، لتعزيز التعاون بين البلدين، نظرًا لكونها الأكبر والأكثر اهتمامًا بالاستثمار في السوق الهندية، وكذلك لكونها الأكثر قدرة على تعزيز الثقة، والتي يقول الكثيرون في دلهي أنها أفسدتها بحرب 1962 وتحتاج بالتالي إلى اتخاذ خطوات لإصلاحها، وهو ما يبدو أنها مؤهلة للقيام به بالفعل نظرًا للإيجابية التي تتعامل بها مع صعود الهند، فعلى عكس الهنود والذي يرى منهم 24٪ فقط أن صعود الصين مفيد لبلادهم، يرى 44٪ من الصينيين أن صعود الهند سيكون مفيدًا للصين، طبقًا لنفس الاستطلاع المذكور آنفًا.
الاقتصاد وحده لا يكفي
رُغم الآفاق الواسعة لتوطيد العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، خاصة بعد صعود مودي إلى رئاسة الوزراء في الهند، وتنامي رؤية رئيس الوزراء الصيني، لي كِتشيانغ، في تعزيز الدور الصيني عبر الاستثمارات في مختلف البلدان النامية، لا يبدو أن الاقتصاد وحده سيكون كافيًا لتوثيق الروابط بين البلدين، وبناء الثقة بشكل أكبر بين شعبيهما، خاصة وأن العلاقات الثقافية تُعَد ضعيفة للغاية، مع ضعف في التبادل الثقافي والتعليمي، بل وحتى أعداد سياح البلدين لبعضهما البعض.
على سبيل المثال، ومع الملايين من طلاب الصين والهند التي تدرس في شتى أنحاء العالم، لا يدرس سوى ألفي صيني في الهند، و9،200 هندي في الصين، كما يسافر 160،000 سائحًا صينيًا فقط إلى الهند، مقابل أكثر من مليون يتجهون لفرنسا، بل إن الرحلات المباشرة بين البلدين المتجاورين تُعتَبَر قليلة، فخطوط “أير تشاينا” Air China فقط هي التي تقدم رحلة مباشرة بين بكين ودلهي، بينما لا توجد أي رحلة من شانغهاي إلى مومباي، قلبيّ الاقتصادَين الصيني والهندي على التوالي.
بشكل عام، تفتقد مؤسسات البلدين إلى الاهتمام بالبلد المجاور له، فالصينيون لا يعرفون الكثير عن الثقافة الهندية رُغم أنها منشأ الدين البوذي الأكثر انتشارًا في الصين، كما لا تمتلك جامعاتهم برامجًا مهتمة بالشؤون الهندية بما يكفي، حيث أنتجت الصين حفنة من المتخصصين في الثقافة واللغة الهندية فقط على مدار السنوات الماضية، وبالمثل، تعاني الهند من افتقاد الخبراء المتخصصين في الثقافة والسياسة الصينية، إذ لا تزال الدوائر الأكاديمية الهندية محصورة في “عالم 1962” العازف عن التعامل مع الصين، طبقًا للباحثة رِشما باتيل، المتخصصة في العلاقات بين البلدين.
***
رُغم برود العلاقات لعقود، يُدرك رئيس الوزراء الهندي الجديد نارندرا مودي أن بلاده تحتاج إلى تعاون وثيق مع الصين، بالتوازي مع بقاء التنافس الاستراتيجي الذي تحتّمه الجغرافيا، فهو يحتاج إلى الاستثمارات الصينية، كما يحتاج إلى التنسيق مع بكين على المستوى الدولي للدفع قدمًا بأجندة أكثر تعبيرًا عن الدول النامية بمواجهة المؤسسات الدولية، وعلى الناحية الأخرى، يدرك الرئيس الصيني شي جينبينغ، صاحب الشعبية الكبير والأجندة الخارجية الطموحة، أن بلاده تحتاج إلى قطع أشواط واسعة لكسب ثقة الهنود، وأن مشروع طريق الحرير الجديد، ورغبة الصين في خلق شبكة تجارية جديدة في المحيط الهندي بين آسيا وأفريقيا، لا يمكن تحقيقهما بدون التعاون مع الهند.
زيارة جينبينغ للهند بعد فوز مودي، والذي أثار مخاوف الكثيرين نظرًا لأجندته القومية وخطاب حزبه المطالب بمواقف هندية أكثر حزمًا تجاه الصين وباكستان، أراحت الكثيرين كبادرة طيبة في كلٍ من دلهي وبكين، حيث تحاول الأولى العزوف عن أي توتر مع الصين نظرًا لعدم قدرتها على التفرّغ لهكذا صراع وانشغالها بالملف الباكستاني والأفغاني، وتحاول الثانية أيضًا وضع معظم طاقاتها لترسيخ سلطانها في الشرق والانتباه لعودة الدور العسكري الياباني، وهو ما يعني حتمية الهدوء بين بكين ودلهي خلال العقود المقبلة، وبالتالي وجود فرصة لتعزيز الروابط بشكل كبير، لا سيما وأن الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع الفهم الثقافي الأكبر سيكون حائلًا في المستقبل أمام سهولة الانزلاق مجددًا إلى صراع مماثل لما جرى عام 1962، وهو صراع سيكون حينها خطرًا على آسيا كلها والنظام العالمي كله، وليس على البلدين فقط.