أما وقد تمّ الكلام عن رحلة الاستشراق: منذ ولادته وطفولته ونضوجه وموقفه المستقر من الإسلام ثم ما قيل عن موته وعن تجدده، فحريٌّ أن نبدأ في مطالعة حصاد هذه الرحلة، وهو ما نتناوله بإذن الله تعالى في هذا المقال والمقالات التي تليه.
قالوا: “من يستطيع أن يجمع البحر في قدح، والريح في زجاجة، والكون في عباءة؟!”، فما أشبه الكلام عن حصاد الاستشراق بهذا! ذلك أن غزارة الإنتاج الاستشراقي تحول حتى الآن دون إعداد قائمة بيبلوجرافية كاملة له، والمحاولات التي جرت في هذا الشأن لم تكتمل منها واحدة فيما أعلم [1]، فنحن نتكلم عن تراث يمتد عبر تسعة قرون، منذ مطلع القرن الثاني عشر حتى القرن الحادي والعشرين، ومكتوب في لغات عديدة، ويتناول مجالات شتى.
وعلى قدر الإحاطة بهذه التجربة والغوص فيها بقدر ما يمكن تلمس حصادها، ولكن يشفع لنا في هذا المقام أنه مقام إشارة من بعيد، إشارة في ثنايا التأسيس لتجربة “علم الاستغراب” كما ذكرنا في مقال سابق [2].
***
الحديث عن إنجازات الاستشراق هنا لا علاقة له بحسن النوايا أو سوئها ولا بالأغراض التي استهدفت من ورائها، بل هو متعلق بما تحقق من منافع ومصالح بأثر من حركة الاستشراق، وإن اختلفت الدوافع والمطامح.
1. حفظ التراث الإسلامي
وذلك حين جمعوا المخطوطات الإسلامية من مظانها في البلاد الإسلامية، ونقلوها إلى بلادهم، وسواء كان هذا الجمع بطريق مشروع – كالشراء أو الإذن – أو بطريق غير مشروعة كالسرقة والغصب بقوة الاحتلال أو بالتحايل، فإنهم قد فعلوا ذلك في وقت لم تكن فيه البلاد الإسلامية مؤهلة لحفظ تراثها، ونحن نقول هذا مع الشعور بالمرارة الشديدة، وكم رويت في هذا من قصص مفجعة لتراث كاد أن يحرق أو يتلف أو يضيع لجهل من وصلت إليه هذه الكنوز بأهمية وقيمة ما فيها، فإن بعض هذه المخطوطات كان يُباع فيها الحلوى، وبعضها كان صاحبه على استعداد لحرقه إن قيل له بضلال ما فيه وإن لم يكن أهلاً للتحقق من هذا الضلال من عدمه، وغير ذلك كثير.
فجمعوا هم ما استطاعوا الوصول إليه ونقلوه إلى مكتباتهم، وصارت المكتبات الغربية تزخر بملايين المخطوطات الإسلامية، فحُفِظت بهذا من العبث واللعب والضياع والاحتراق، وظلت شاهدة على حضارتنا ينهل منها الباحثون في كل وقت.
ولا يظنن أحد أن هذا إنما كان قديمًا فحسب، لا بل إن السلطات في عالمنا العربي لاتزال من الغفلة – أو التواطؤ – بمكان، فكثيرًا ما عثر باحثون على مخطوطات دفينة وحاولوا أن يوصلوا الأمر إلى السلطة كي تقوم بواجب حمايتها فكان الجواب مثيرًا للأسى، وكان أفضل شيء لحماية المخطوطات هو تسليمها للسفارة الأجنبية التي تتنافس هي وأخواتها على الحصول عليها بأفضل ثمن، ثم رعايتها حق الرعاية [3].
2. خدمة التراث الإسلامي
ثم إنهم قاموا على خدمة هذا التراث الذي جمعوه تصنيفًا وتحقيقًا وفهرسة ونشرًا، وأنجزوا العديد من دوائر المعارف الإسلامية ومن المعاجم اللغوية، وكان لديهم من الإمكانات ما لم يكن متوفرًا – ولا حتى يُنتظر توفره في وقت قريب – للباحثين في العالم العربي والإسلامي.
يقول د. عبد العظيم الديب، وهو من أشرس أعداء الاستشراق [4]، وممن يرى أنه لا يصلح للكتابة في أمور الإسلام مستشرق: بأن إنتاج المستشرقين بلغ ستين ألف بحث وأنه طوفان يعسر حصاره، وكان ذلك قبل ربع قرن من الآن [5]. وكان في مقدمة هذا ترجماتهم للقرآن الكريم إلى عدد من اللغات الأوروبية قبل وقت طويل من بدء التفكير في هذا الموضوع في العالم الإسلامي، وعلى رغم ما حفلت به هذه الترجمات من أخطاء إلا أنها كانت في وقتها خيرًا من العدم.
إن ظهور معجم مثل “المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي” كان خدمة لهذا التراث في وقت لم يكن يستطيع أحد أن يصنع مثله في عالمنا الإسلامي، ولئن قيل: إنما صنعوه لأنفسهم ولم يصنعوه لنا، قلنا: وقد وصل إلينا وانتفعنا به، ولو لم يصنعوه ما وصل! وحديثنا الآن – كما نكرر – عن إنجازهم لا عن دوافعهم، وهذا المعجم إنجاز كبير بغير شك.
وقد أثمرت هذه البحوث والدراسات كثيرًا من الهداية لكثير من عظماء الغرب، فنحن مثلاً حين نقرأ محاضرة “البطل محمد” لتوماس كارلايل ونجد فيها هذه العاطفة المشبوبة والحب الصادق لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المحاضرة التي تمثل نقطة يؤرخ بها في مسيرة النظرة الغربية للإسلام [6] – حين نقرأ هذه المحاضرة ينبغي أن نتذكر فورًا أنه ما كان لها أن توجد إلا بفضل ما نشر من تراث المستشرقين باللغة الإنجليزية، وهي عملية مستمرة حتى هذه اللحظة التي نقرأ فيها كتابًا مثل “سيرة النبي محمد” أو “محمد نبي لزماننا” لكارين أرمسترونج، والتي لا تعتمد على غير المصادر الاستشراقية، ولكنها دفقة عواطف حارة ووقفة احترام جليلة للنبي وإنجازه وفضله على الإنسانية، وإن لم يخل هذا من أخطاء هنا وهناك.
ونحن لا نذهب مذهب بعض علمائنا الأجلاء الذين يهونون من شأن خدمة المستشرقين لهذا التراث، اعتمادًا على جهلنا بكم تراثنا وكم ما بقي منه وكم ما بقي منه لدى المستشرقين ثم كم ما أنجزوه من خدمة لما بقي في أيديهم ثم ما نصيب هذا الإنجاز من الكفاءة [7]، وذلك أنه يكفينا في هذا المقام أن القوم قاموا بما لو لم يكونوا قد قاموا به فلم يكن آخرون ليفعلوا ذلك، وذلك إنجاز كبير في حد ذاته.
إن مستشرقًا واحدًا مثل فرديناند فستنفلد (ت1899م) قد نشر نحو مائتي مصنف من التراث الإسلامي منها: طبقات الحفاظ، ووفيات الأعيان، وتهذيب الأسماء واللغات، ومعجم البلدان، ومعجم ما استعجم، واشتقاق ابن دريد، وسيرة ابن هشام، ومات عن ثلاث وتسعين سنة بعد أن كُفَّ بصره في آخرها، ويقال إنه كان يعمل أربع عشرة ساعة يوميًا لأكثر من ستين سنة [8]، ووصفه عبد الرحمن بدوي بأنه “لا نظير له في الخصوبة (في التأليف) غير جوستاف فلوجل” [9].
3. إنتاج لا يمكن تجاوزه
لا يمكن إنكار أن كثيرًا من الإنتاج الاستشراقي بلغ من القوة والجدة في البحث ما يجعل تجاوزه ضربًا من المستحيل، ونحن إذا ابتعدنا عن إنتاجهم في اللغويات والأدب والفقه والتفسير وما هو شديد التعلق بالثقافة ويحتاج ملكة خاصة، نجد أنفسنا إزاء دراسات نفيسة في بابها، بل نجد أبواب علم جديدة قد فتحوها لم يسبقهم إليها أحد.
يقول د. حسين مؤنس: “كلامنا عن العلوم عند العرب كثير، وحديثنا عن فضلهم على الحضارة العالمية أكثر، ولكننا إذا استثنينا قلائل منا صرفوا العناية إلى التأليف في العلوم عند العرب وخدموا هذا المطلب بالبحث والتأليف من أمثال: أحمد عيسى، ومصطفى نظيف، ومصطفى الشهابي، ونفيس أحمد، وزكي وليدي، وبهجة الأثري، وقدري حافظ طوقان وغيرهم من أجلاء العلماء [10]، وجدنا أن معظم ما نفخر به في هذا المجال إنما هو من كشوف غيرنا، من أمثال: جورج روشكا، وهانز فون مجيك، وجورج سارتون، وكارلو نللينو، وبول كراوس، وألدو مييلي، وهاينريش سوتر، وماكس مايرهوف، وكونراد ميللر، وخوان بيرنيت، وغيرهم كثيرين جدًا، ممن أنفقوا – وينفقون – العمر في دراسة المخطوطات العربية في العلوم وحل رموزها وإثبات فضل العرب وأهل الإسلام على هذا العلم أو ذاك بالحجة والبرهان الساطع” [11].
وإذا نسجنا على منواله أضفنا إليه: ونحن نفخر بأن ديننا لم يُكره أحد على اعتناقه، وأنه لم ينتشر في العالمين بحد السيف، ولكننا لا نستطيع أن نجد في مصدر إسلامي دلائل كالتي نجدها في كتاب “الدعوة إلى الإسلام” للمستشرق الإنجليزي الشهير توماس أرنولد، الذي تتبع انتشار الإسلام حول العالم فذهب وراءه حتى أدغال أفريقيا وجزر المالايو وسفوح التبت، وهو في هذا الكتاب معتمد بدوره على دراسات استشراقية أخرى كشفت ما لا طاقة لنا حتى اليوم ببعض ما كشفت لخلو أيدينا من القدرة المالية ودعم المؤسسات البحثية.
ونحن وإن كنا نستنكر تمامًا أن يلتزم الباحث بالاطلاع على آراء المستشرقين في موضوع توفرت مصادره الإسلامية أو لم يلزم موضوع البحث به، فنحن في ذات الوقت نعترف بأن إنتاجهم في بعض هذه الأبواب يستحيل تجاوزه، فلا يستطيع أحد أن يكتب في تاريخ صقلية الإسلامية متجاهلاً مجهود ميشيل أماري في هذا الباب، ولا يكتب في تاريخ بخارى بغير المرور على مجهود أرمانيوس فامبري، ولا في تاريخ الترك في أسيا متجاوزًا بحوث بارتولد، كما أن التأريخ للأندلس والحروب الصليبية لا يمكنه تجاوز المصادر الاستشراقية التي حفلت بتسجيل الرواية النصرانية للأحداث والتي لا يكتمل التأريخ ولا فهم الحادثة بدونها، ومن حقائق الواقع التي ينبغي الاعتراف بها أن المستشرقين لم يبلغوا أن يكونوا أساتذة لمحض الهوى وحب التقليد والهزيمة النفسية، بل لما في جهودهم البحثية من مجهود يثير الإعجاب ويستحق التقدير، فموسوعة “وصف مصر” التي وضعها علماء الحملة الفرنسية ليس لها مثيل، وكتاب مثل “تاريخ الأدب الجغرافي” للمستشرق الروسي كراتشوفسكي هو أحد النوادر العلمية النفيسة في بابه لا نعرف أحدًا سبقه إليه أو لحق به فيه، والمجلدات الثلاثة التي كتبها ستانلي بول عن “النقود الإسلامية” كذلك، و”علم التاريخ عند المسلمين” لروزنثال كذلك، وتاريخ الشعوب و”تاريخ الشعوب الإسلامية” و”تاريخ الأدب العربي” وكليهما لكارل بروكلمان كذلك، وموسوعة الأنساب والأسر والحاكمة للمستشرق النمساوي زمباور كذلك.
وقد افتتح بعض المستشرقين فتوحًا في بعض العلوم مثل كي ليسترنغ في الخطط والجغرافيا بكتابيه الشهيرين “بغداد في عصر الخلافة العباسية” و”بلدان الخلافة الشرقية”، وافتتحوا علومًا جديدة مثل التأريخ للبحار والأنهار كما فعل إميل لودفيج في كتابه “نهر النيل” والذي قضى في تأليفه عشر سنوات، وكتابه “البحر المتوسط” وقضى في تأليفه ثلاث سنوات.
[1] كان للدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله مشروع كبير لحصر مؤلفات المستشرقين وبيان اتجاهاتهم في التأليف، لكنه توفي قبل أن يتمه، وقد أخبرني تلميذه المقرب ونائبه في عمله الشيخ علي الحمادي أن المشروع متوقف ويحتاج دعمًا لإكمال المسيرة فيه.
كذلك فقد كانت للدكتور فؤاد سزكين محاولة مماثلة في معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في فرانكفورت لكنها مقتصرة على الدراسات الاستشراقية الصادرة باللغة الألمانية، ومقتصرة على إعداد قائمة بيبلوجرافية دون دراسة الاتجاهات. انظر: د. علي بن إبراهيم الحمد النملة: الاستشراق والدراسات الإسلامية ص 26.
[2] لقد نشرنا على هذا الموقع نبذات موجزة عن تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، فتحدثنا عن تاريخ الصدام بينهما في أربعة أجزاء (الأول، الثاني، الثالث، الرابع) ثم ما نبت على ضفاف هذه الحروب من تاريخ الاتصال في السفارات (ج1، ج2) والرحلات والبحث العلمي (ج1، ج2، ج3)، ثم عن بدايات التفكير في دراسة الغرب، وانطلاقته ورواده الأوائل: الطهطاوي والتونسي والشدياق، ولماذا لم ينضج علم الاستغراب في بلادنا حتى الآن، ثم في ضرورة علم الاستغراب ولماذا ينبغي أن يدشن في أربعة أجزاء أخرى (العلم – الدعوة – التعاون – المواجهة) وعن ضرورة أن يتأسس على رؤية إسلامية أصيلة (ج1، ج2) وعلى قاعدة من الشعور بالتميز الإسلامي (ج1، ج2).
[3] والمؤسف أن هذا الأمر مستمر حتى الآن، ومنه – مثلاً – ما نشرته صحيفة “المصرى اليوم” بتاريخ 12/12/2005، قصة الباحثة حنان السيد التى عثرت على 130 مخطوطة قديمة يرجع بعضها إلى عام 618 هـ ، وبعد مجهود استغرق منها ثلاث سنوات فى ترتيب وتنظيف هذه المخطوطات التى كانت تأكلها الحشرات وأنفقت أموالها، حاولت تسجيل المخطوطات في سجل المكتبة الأزهرية التابعة لها حتى لا تُسرق، لكن رُفِض طلبها بل ومُنِعت من دخول المكتبة وفشلت جهودها مع المسؤولين في الأزهر للحفاظ على المخطوطات ثم لم تجد إلا أن تستغل فرصة وجود مؤتمر علمى عن المخطوطات فى مكتبة الاسكندرية ، فأعلنت عما اكتشفته من المخطوطات دون أن تصرح بمكانها، وهنا انهالت عليها العروض بالمال والوظيفة وشهادات التقدير فى مقابل تسهيل الحصول على هذه المخطوطات، وكانت الجهات الأجنبية هي الأكثر كرمًا فقد عرضت عليها مبالغ فلكية مع كل ما تشاء من تسهيلات، لكن الباحثة رفضت كل هذه العروض واستغاثت بشيخ الأزهر ووزير الأوقاف، لكن لم يصلها أى رد بحسب الصحيفة.
[4] لقد بلغ من نفور د. عبد العظيم الديب من الاستشراق حد أنه فضَّل أن يفنى التراث على أن يقع بين يدي المستشرقين وإن حفظوه، قال: “ومن أعجب العجب، أن تجد أمة – مثل أمتنا – تشكر وتمجد، وتعظم أمر سارقي وثائقها, لمجرد أنهم احتفظوا بها، أو قدموا إليها صورة منها، وعهدي بالدول الواعية، أنها تفضل حرق وثائقها من أن تقع في يد أعدائها”. د. عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين ص127.
[5] د. عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين ص 34.
[6] مونتجمري وات: محمد في مكة (المقدمة).
[7] د. عبد العظيم الديب: المستشرقون والتراث ص 7، 8.
[8] نجيب العقيقي: المستشرقون 2/713.
[9] عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين ص 399.
[10] مع ملاحظة أن هذه الأسماء إنما كانت متأخرة زمنيًا عن أسماء المستشرقين القادمين بعدهم، أي أن بداية البحث والتنقيب في هذا الباب وخدمة هذا العلم إنما كانت من قبل المستشرقين.
[11] د. حسين مؤنس: تاريخ الجغرافيا والجغرافيين في الأندلس (المقدمة).