مشهد 1
مطلع مارس من العام 2009 مشاجرة لم يُعرف كيف بدأت، أطرافها هم ضابط شرطة من قسم شرطة 15 مايو وطالب بالكلية الحربية، انتهت المشاجرة باعتداء الضابط على الطالب بسلاحه الميري، لم تمض ساعات إلا واستغاث الطالب بزملائه في الكلية الحربية الذين حضروا بالعشرات أمام قسم شرطة 15 مايو ثم اقتحموه وأضرموا النيران فيه واعتدوا على كل من وجد بداخله من ضباط الداخلية.
فرضت الدولة حينها سرية تامة على الحادث، بل قامت وزارة الداخلية باستدعاء أهالي المنطقة لسؤالهم إذا ما كان أحدهم قد قام بتصوير الاشتباكات أم لا، كما فُرض حظر تجوال أمام القسم حتى لا يرى أحد مشاهد الدمار الذي لحقت به جراء هذا الحادث، حتى جاءت سيارات نقل تابعة للإدارة الهندسية في القوات المسلحة، مكثت في القسم عدة ساعات ولم تترك القسم إلا وقد عاد إلى حالته الأولى.
مشهد 2
كمين للشرطة المدنية أمام بوابة بورسعيد – الإسماعيلية، ضابط الشرطة المسؤول عن الكمين يتعدى لفظيًا على ضابط جيش بصحبة زوجته في سيارته، أبلغ ضابط الجيش الشرطة العسكرية التي تحركت إلى موقع الحادث، واقتادت أفراد قوة كمين الشرطة المدنية إلى أحد معسكرات الجيش القريبة جراء تعديهم على ضابط الجيش، بل ونُشرت صورهم أثناء عملية التكدير وتدوالتها بعض حسابات ضباط الجيش الذين تباهوا بالأمر.
مشهد 3
منذ عدة أيام نشب خلاف بين أمين شرطة بمرور المنوفية ورائد طيار بالقوات المسلحة، بسبب امتناع الأخير عن إظهار رخصة القيادة أثناء استيقافه بإحدى إشارات المرور أمام المبنى الإداري لجامعة المنوفية، تبين أن سيارة رائد القوات المسلحة تسير بدون أرقام على اللوحات المعدنية حيث اكتفى الرجل بوضع طائرة مكان الأرقام، وقد ترتب على الواقعة اعتداءات متبادلة بين أمين الشرطة والرائد، حتى تم اصطحابه لقسم شرطة شبين الكوم، وتحرر محضر بالواقعة.
قام الطيار بإخطار الشرطة العسكرية والتي لبت نداء الطيار على الفور وقامت بحصار قسم شرطة شبين الكوم، محاولةً إلقاء القبض على أمين الشرطة صاحب الواقعة مع الطيار، إلا أن زملاء أمين الشرطة قاموا بالامتناع عن تسليمه للشرطة العسكرية.
مشهد 4
صحيفة “الدستور” الموالية لتوجهات النظام الحالي عقب الانقلاب العسكري تنشر تحقيقًا عن انتهاكات ضباط وزارة الداخلية وممارساتهم، تصدّر التحقيق صفحتها الأولى حاملًا عناوين عنيفة تتحدث عن انتهاكات الداخلية وأخطاء رجالها وتحقيقات النيابة معهم والإدانات القضائية التي صدرت بحقهم، بعد ذلك شنت الشرطة حملة أمنية على مقر الجريدة وقامت بحصارها للقبض على المحررالذي أعد التحقيق، لم تكتف الشرطة بذلك، بل عممت بيانات تصف هذا المحرر بأنه صاحب “سوابق” إجرامية ، وهارب من العديد من الأحكام، وهو الأمر الذي ردت علىه صحيفة الدستور بنشر صحيفة الحالة الجنائية لمحررها وهي خالية من تلك الادعاءات، هذا المحرر هو نفسه عمل مندوبًا للصحيفة قبل ذلك داخل وزارة الداخلية، ولكن مع أول خلاف تحول إلى مجرم عتيد الإجرام.
“ثقوب في البدلة الميري” هذا ما نشرته جريدة المصري اليوم هي الأخرى، ملف يتضمن انتهاكات الشرطة ورجالها في الآونة الأخيرة متهمة إياها بالغطرسة، مسلطة الصحيفة الضوء على وقائع بعينها تدين ضباط الشرطة، في أول رد فعل للداخلية على هذا الملف أيضًا أصدرت بيانًا تدين فيه هذا الملف مؤكدة على أن الجريدة تستخدم أسلوب تصفية الحسابات مع الوزارة، معلنة اتخذها إجراءات قانونية تجاه الصحيفة ومحررها.
هذه المشاهد الأربعة قد لا تكفي لرسم صورة كافية عما يحدث في صراع أذرع الانقلاب العسكري في مصر، فالسيناريو ملئ بالمشاهد التي حُذفت لعدم الإطالة وعدم اتساع المقام لذكرها، الصراع بين أفراد القوات المسلحة وأفراد الداخلية على النفوذ أزلي، لكن الدولة طبقًا للمشهد الأول في عهد المخلوع مبارك لم تكن ترغب في طفو مثل هذه المشاهد على السطح، فالمؤسسة العسكرية كانت ومازالت صاحبة النفوذ على الداخلية ورجالها ربما باستثناء رجال الأمن السياسي فقط، لكن هيبة الدولة الأمنية في حينها لم تسمح بظهور ملامح هذا الصراع.
اتسعت رقعة الصراع منذ نزول قوات الجيش إلى الشارع إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير، فمساحة الاحتكاك زادت بين الذراع الأمني ممثلاً في الداخلية والذراع العسكري ممثلاً في الجيش مع شعور أفراد المؤسسة العسكرية أن لهم دورالشرطة المدنية بعد انكسارها، فأصبحت كمائن الشرطة عاجزة عن حماية نفسها إلا بكمين مشترك مع قوات من الجيش، فبعد أن وصلت هذه الصورة الذهنية لأفراد القوات المسلحة، كيف لضابط من الشرطة المدنية أن يستوقفهم في الشارع على سبيل المثال ليطلب رخصة قيادة أو ما شابه؟!، فقد كانوا بالأمس يتحامون في أفراد القوات المسلحة من غضب الشارع – هكذا تتحدث نفس أفراد القوات المسلحة -، أدى ذلك لازدياد الحوادث من هذا النوع بين ضباط من الشرطة وضباط من الجيش وترددت هذه النغمة بين أفراد القوات المسلحة متجهة بالحديث إلى أفراد الشرطة عقب كل حادث منهم “نحن من نحميكم”.
هذا الأمر أخذ في الازدياد خاصة بعد انقلاب الثالث من يوليو وتعاظم دور المؤسسة العسكرية وأفرادها في الحياة المدنية واحتاكها الزائد على الأرض ونقل ثكناتها إلى الحارات والأزقة المدنية، وهو ما مثله المشهد الثاني والثالث بامتياز، فرجال الجيش يشعرون أن الرئيس أصبح منا ونحن منه، والشرطة بالنسبة لنا ما هي إلا بلطجي مأجور له دوره فحسب، مع شعور الداخلية بهذا الأمر، بالتحديد مع بداية انحصار دورها داخل المشهد السياسي بعد استتاب الأمور للنظام، لم يعد مشهد الاحتكاك بين أفراد الجيش والشرطة بالأمر الغريب؛ فالمشهد الثالث في المقال وهو الأحدث منذ عدة أيام شهد مشادة بين أمين شرطة وطيار حربي أدى لحصار القسم من الشرطة العسكرية لكن هذه المرة لم تستسلم الشرطة وأفرادها ورفضوا التضحية بزميلهم لغلق الأمر بل صار المشهد عبثيًا أكثر من تعالي هتفات الداخلية ضد الجيش “يسقط يسقط حكم العسكر”.
المؤسسة العسكرية المنفذة للانقلاب العسكري والراعية لكافة شؤونه تمتلك أذرعًا وأدوات في كافة مؤسسات الدولة وهي سياسة تحدث عنها الجنرال السيسي في أحد التسريبات، حيث عملت المؤسسة العسكرية على مد أذرعها داخل كافة قطاعات الدولة لاسيما قطاع الإعلام الخاص المؤثر في الرأي العام، حتى بات القاصي والداني يعلم أن إدارة الشؤون المعنوية في الجيش تتحكم في سير العملية الإعلامية في مصر بشكل مباشر للتحكم في الرأي العام عقب الانقلاب العسكري، وقد أيدت شواهد التسريبات أيضًا هذا الطرح في حديث اللواء عباس كامل مدير مكتب السيسي إلى العقيد أحمد على المتحدث الرسمي السابق باسم القوات المسلحة وسؤاله عما إذا تم الهجوم على أحد الرموز السياسية في برنامج إعلامي معروف بولائه لأجهزة الأمن أم لا، فمن غير المستبعد اعتبار المشهد الرابع الذي يصور هجوم حاد وكثيف من أذرع الانقلاب الإعلامية ممثلة في صحيفة المصري اليوم والدستور على وزارة الداخلية بهذه الصورة، هو من باب “قرصة الودن” للداخلية من المؤسسة العسكرية التي لها أساليبها في توجيه الرسائل عند تعدي الخطوط الحمراء، خاصة وأن الصحيفتين معروفتين بالولاء التام للنظام الحالي من بعد الانقلاب.
فالرسائل أتت من الجهات التي تشرف عليها إدارة داخل المؤسسة العسكرية، مفادها بالعامية المصرية “على كل قرد أن يلزم شجرته”، فانتهاكات الداخلية لم تظهر فجأة لأعين الصحفيين في اليومين الماضيين، وهي التي قتلت واعتقلت الآلاف منذ عام ونصف وأكثر ولازالت، وليس من قبيل الصدفة أن تتحدث صحيفتين في نفس الاتجاه في آن واحد، ما يعطي صورة ذهنية كاملة عن طبيعة الصراع بين أذرع الانقلاب في مصر، حيث تدخل المؤسسة العسكرية هذه المعركة من خلال ذراع الإعلام لهدف يمكن تسميته “تأديب الداخلية” أو تعريفها الحجم الحقيقي والدور المنوط بها في هذه اللعبة، فلا يمكن أن تتخيل الداخلية أن يكون لها دور أكبر مما يرسمه العسكر لها، بذلك تمنع المؤسسة العسكرية وجود شريك لها في النفوذ المطلق داخل الدولة، فيجب حصر نفوذ الشرطة على المواطنين فقط وليس مطلقًا على رجال الجيش.
هذا الصراع أشبه بصراع دولة ملوك الطوائف التاريخي في الأندلس، ولكن المختلف هنا أن طائفة متغلبة “العسكر” تقوم بمنع ظهور طائفة أخرى “الشرطة” لها شوكة ربما تتمرد عليها في يوم من الأيام.