ترجمة وتحرير نون بوست
روبوت يعمل في مختبر، يتحرك مصدرًا صوت الحركة الميكانيكية الآلية المعروف، يمسح الشرائح بروية ليكشف فيما إذا كانت تحتوي على عينات من سرطان الرحم، ويعمل تمامًا – إن لم يكن بشكل أفضل – من مخبري جامعي ذي خبرة جيدة.
روبوت آخر مزود ببرامج للتعرف على التغيرات العاطفية لدى البشر، يقوم بمهامه على حدود الولايات المتحدة الأمريكية، ويجري مقابلات مع الزوار الذين ينوون الدخول للبلاد، وميدانيًا يتوضح أن هذا الروبوت يتفوق على البشر في قدرته على اصطياد الأشخاص الذين يحملون وثائقًا مزورة، وهذا النجاح المبهر لبرامج معالجة العاطفة، حفز الشركات الإعلانية للبحث عن برامج دعائية تستهدف المزاج العام للمتلقي، كما أن حكومة دبي تسعى لاستخدام هذه البرامج لتقييم المواد التي تظهر على شاشات التلفزيون التابعة لها.
نعم، بالمحصلة يمكننا القول إن الآلات تزداد ذكاءً، وستشغل الوظائف في الفترة القادمة بشكل مضطرد، وهذا الانتشار – للأسف – لن يشمل فقط وظائف الدخل المنخفض أو الوظائف التي تعتمد على القوة العضلية.
اليوم، يمكن للآلات معالجة وفهم اللغة المحكية، ولا تقتصر مهامها على التعرف على الوجوه البشرية فحسب، ولكنها أيضًا تستطيع أن تقرأ وتتعرف على تعابير الوجوه والمشاعر، ويمكن للآلات تصنيف أنواع الشخصيات، فضلًا عن قدرتها على إجراء محادثات تحتوي على اللهجة العاطفية المناسبة، كما أنها أصبحت أفضل من البشر في مجالات توظيف الأشخاص، وفي مجالات التفاوض، وصار بإمكانها التعرف على الأشخاص الذين يتجه مزاجهم لدفع مبلغ أكبر ثمنًا لسترة ما، وبذات الوقت التعرف على الأشخاص الذين ينتظرون قسيمة شرائية لتحفزهم على الشراء، وبالمنظور العالمي، يتم استخدام هذه البرمجيات للتنبؤ فيما إذا كان الناس يكذبون أو لمعرفة شعورهم وحتى لمعرفة لمن سيصوتون في الانتخابات المقبلة.
لتفكيك وحل الألغاز المعرفية والعاطفية، تحتاج أجهزة الكمبيوتر إلى خوارزميات متطورة وفعالة، مؤلفة من كميات هائلة من البيانات التي تم توليدها وتشكيلها وإدخالها من قِبل البشر، هذه البيانات يمكن الحصول عليها بسهولة بفضل عالمنا الرقمي الحديث، وإن نتائج إدخال هذا الكم الهائل من المعلومات إلى الآلات كانت مبهرة، فتصور أن معظم ما تفكر به كخبراتك ومعرفتك وحدسك يتم تفكيكه وتحليله وصياغته ضمن لغة حسابية، ويندمج ضمن كم البيانات الكبير الذي تختزنه الآلات.
ولكن هذا الواقع لا يعني أن الآلات ستحل محل البشر في أماكن العمل فحسب، بل إنه يعني أيضًا تحويل ميزان القوى لصالح أرباب العمل أكثر فأكثر؛ فالاستجابة الطبيعية لدى البشر للابتكار التكنولوجي الذي يهدد الوظائف، يتمثل بتشجيع العمال لاكتساب المزيد من المهارات، وأحيانًا تتمثل الاستجابة بثقتنا بأن الفروق الدقيقة التي يصنعها العقل البشري أو الاهتمام الإنساني سوف يجعل البشر متفوقين دائمًا على الآلات في المواقف الحاسمة، ولكن عندما تدخل الآلات ذات المقدرات الرهيبة إلى المعادلة، سترجح كفة أرباب العمل نحو مزيد من النفوذ بلا شك، وستكون استجاباتنا الطبيعية السابقة غير كافية للوقوف بوجه الأزمة التي تلوح في الأفق.
بشكل عام، لا يتم الاعتماد على الآلات لأنها تقوم بأداء بعض المهام بشكل أفضل بكثير من البشر، ولكن لأنها – وفي كثير من الحالات – تقوم بالوظيفة بشكل أفضل وبذات الوقت هي أرخص وأكثر قابلية للتنبؤ وأسهل للسيطرة عليها من البشر، والحق أن أصحاب العمل يستخدمون التكنولوجيا في مجال الوظائف كونهم يتطلعون إلى ممارسة سلطتهم وسيطرتهم، بذات درجة تطلعهم لرفع الإنتاجية والكفاءة، وهذا التوجه يظهر بوضوح في إعلان ظهر بعام 1967 حول نظام محاسبة آلي للشركات، حث على استبدال البشر بالنظم الآلية لأن الأخيرة “لا يمكنها ترك العمل أو النسيان أو إنجاب الأطفال” وأظهر الإعلان امرأة حامل تبتسم وهي تغادر المكتب مع هدايا مستحضرات استحمام الطفل.
هذه الإعلانات ومثيلاتها التي تم نشرها في مجلات تجارية رائدة، حذرت أرباب العمل من الموظفين الذين يتقنون العمل ويعرفون الكثير عنه، وخاطبتهم بقولها “لماذا تعتمدون على البشر؟ عندما ترحل أليس من العمل، هل من المعقول أن يرحل نظام المحاسبة معها؟” يسأل الإعلان بوضوح، مؤكدًا أن هذه المسائل لا يمكن حلها ببساطة عن طريق استبدال “أليس” بشخص آخر.
إذن، الحل الذي كانت تطرحه الإعلانات هو استبدال البشر بالآلات، فعلى الرغم من أن الإعلان صوّر حمل المرأة على أنه خطر محدق بمكان العمل، بيد أن الشركة – أو المسؤولين عنها تحديدًا – يمكن أن يضيفوا بضعة أسباب أخرى قد تشكل خطرًا ضمن مجال العمل مثل المرض، المطالبة برفع الأجر، المرور بيوم سيء، مرض الأهل، مرض الطفل … إلخ، وبعبارة أخرى، كونك إنسان هو ما يهدد استمرارية العمل.
مؤخرًا أجريت محادثة قصيرة مع عامل مركز الاتصالات الذي صادف كونه من الفلبين، ولحل مشكلتي البسيطة، احتاج لرمز معين كان عليه أن يطلبه من المشرف على قسم العمل، ولكن الرمز لم يعمل، وهنا تأوه العامل وقلب شفتيه وقال بجزع “سأخسر وظيفتي”، وعندما سألته عن السبب أجابني ببساطة “لا يهم”.
ربما كان العامل على حق، فهو وأمثاله يمكن الاستغناء عنهم الآن، كونه أصبح من الممكن استخدام الآلات في مراكز الاتصال لتقوم بالرد على استفسارات العملاء باللغة المحكية بشكل سلس، بحيث يمكن للآلة الواحدة التعامل مع عدة عملاء في وقت واحد، والعملاء ذاتهم لن يعلموا – في الغالب – بأنه يتم خدمتهم من قِبل آلة.
هذه هي الطريقة التي يتم فيها استخدام التكنولوجيا بالعديد من أماكن العمل، والهدف هو الحد من سلطة العمال، والحد من اعتماد أصحاب العمل عليهم، سواء من خلال استبدالهم أو طردهم أو مراقبتهم، حيث ساهمت التطورات التكنولوجية العديدة في تعزيز تحوّل ميزان القوى لصالح أرباب العمل وذلك من خلال: استبدال البشر بأنظمة تشخيص متقدمة يمكنها القيام بالتحاليل الطبية أو القانونية، أو طرد العمال لوجود أنظمة حديثة قادرة على أداء المهام البشرية بكفاءة أعلى وبكلفة أقل، أو مراقبة العمال على مدار اللحظة عن طريق قياس مهامهم ووضع جدول أعمال لهم قادر بطريقة أو بأخرى على تدمير حياة البشر الطبيعية، وفي الواقع، وبغض النظر عمّا إذا ازداد معدل البطالة أو انخفض، فإن متوسط الأجور الحقيقية راكد أو آخذ في الانخفاض في الولايات المتحدة على مدى العقود السابقة، ومعظم العمال لم يعودوا في مركز يسمح لهم بالمساومة.
في ثمانينيات القرن الماضي درست العالمة الاجتماعية في جامعة هارفارد شوشانا زوبوف الطريقة التي يتم من خلالها استخدام التكنولوجيا في أماكن العمل، وخلص البحث أن التكنولوجيا تُستخدم في مجال الأعمال بإحدى طريقتين، إما لإتمام العمل تمامًا وسحب السلطة من البشر، أو لتمكين البشر عن طريق تزويدهم بالمعلومات والأدوات اللازمة لعملهم، وهذا النموذج الأخير هو نعمة لا يمكن تقديرها بالنسبة للأكاديميين ومطوري البرمجيات وأصحاب الشركات والسياسيين، أما بالنسبة لباقي الطبقات الاجتماعية فنعمة التكنولوجيا تتحول إلى نقمة، فلسوء الحظ، وبالنسبة لمعظم العمال، ومهما حاولوا رفع إمكانياتهم، يتم استخدام التكنولوجيا حاليًا لإتمام العمل تمامًا بعيدًا عن سلطة البشر.
ضمن هذا الوضع المتردي يشعر العمال فعلًا بأنهم عاجزون تمامًا، ففي الأسبوع الماضي، تظاهر العمال من ذوي الأجور المتدنية في جميع أنحاء البلاد لرفع الحد الأدنى للأجر ليصبح 15 دولارًا في الساعة، تحت مسمى العدالة الاقتصادية، وحاليًا لا يشعر أصحاب الكفاءات والشهادات الجامعية بأنهم يتشاطرون مشكلة هؤلاء العمال، الذين يكافحون لاستعادة بعض السلطة بمواجهة أرباب العمل، ولكن الواقع يشير أنهم يتقاسمون المشكلة حقًا، وعليهم الاستعداد لممارسة ذات الكفاح في خضم الارتقاء التكنولوجي الذي يرتفع ليشمل سلسلة العمالة الماهرة أو المتخصصة.
يصر المتفائلون أن البشر كانوا في ذات الموضع قبل وأثناء الثورة الصناعية، حين حلت الآلات محل العمل اليدوي، وكل ما نحتاجه هو تحسين تعليمنا ومهاراتنا، ولكن هذا الزعم بالكاد يكفي ليستر عورة الواقع الحالي، فمثال تاريخي واحد لا يشكل ضمانة كافية للأحداث المستقبلية، والبشر لن يكونوا قادرين على المنافسة وهم على بعد خطوة واحدة فقط من خسارة المعركة.
لا يمكن توصيف المشكلة على أنها عبارة عن موازنة أو مواجهة قدرات الآلات مع المهارات البشرية، لأن الحل الحقيقي لا يكمن في أي منهما، كون مواجهة التهديد الذي تبرزه الآلات على المستقبل البشري، يتطلب منا البحث في أولوياتنا؛ فمن السهل حقًا أن نتصور مستقبلًا بديلًا حيث يتم استخدم قدرات الآلات المتطورة لتمكين وتعزيز قدرات البشر، بدلًا من السيطرة على البشر، ومن المحتمل أن يقدم لنا التطور التكنولوجي المزيد من الوقت والموارد والحرية، ولكن هذه الاحتمالات لن تتواجد إلا إذا قمنا بتغيير الطريقة التي نتصرف بها، فمن غير المجدي أن نرفض التكنولوجيا أو نلومها، لأن مشكلتنا لا يمكن تصويرها على أنها القدرة البشرية بمواجهة قدرة الآلات، والأجدر بنا أن ندرك أن المشكلة تتمثل فينا نحن البشر، في علاقاتنا فيما بيننا وبالطريقة التي نقدر ونرى فيها بعضنا البعض.
المصدر: نيويورك تايمز