تغيّر المشهد المصري بشكل جذري: من التعدّدية النشطة والحيوية غداة انتفاضة 2011، إلى استبعاد أو تهميش المجموعات الإسلامية والعلمانية في العام 2015 التي فازت في الانتخابات، الآن، يحتل الوطنيون* المرتبطون بالجيش أو بنظام حسني مبارك السابق مركز الصدارة في المسرح السياسي، وطفت على سطح الأحداث مجددًا التنافسات في معسكرهم، وبالتالي، أي برلمان سيُنتخَب في مثل هذه الظروف سيكون مشاكسًا – على الرغم من غياب التعدّدية الحقيقية – وقد يجد صعوبة في الوفاء بدوره الدستوري المُناط به.
أي مواطن يستسلم لسلطان النوم بعد انتخابات 2010 ثم يستيقظ بعدها بخمس سنوات، سيجد أن السياسات المحيطة بالانتخابات البرلمانية التي قد تُجرى في وقت ما في العام 2015، مألوفة: مرشحون فرديون موالون للحكومة يتنافسون بضراوة مع بعضهم البعض، فيما أحزاب المعارضة مُقصاة في الغالب ومنخرطة في المقاطعة، أو مُهمَّشة من خلال مروحة من الإجراءات. وعلى العكس، أي إمرئ كان مستيقظًا إبّان الانتخابات البرلمانية التي شهدت تنافسات حقيقية وحيوية في أواخر 2011 وأوائل 2012، سيكتشف اختلافات عدة: فالأحزاب الإسلامية التي هيمنت على الانتخابات الأولى بعد إطاحة حسني مبارك، باتت الآن خارج المشهد، كما أن العديد من الشبان البارزين أو القادة الثوريين باتوا نزلاء سجون أو في المنفى، وأحزاب المعارضة اليسارية التي تشكّلت بعد العام 2011 لها حظّ أقل في حصد مقاعد مما كان عليه الأمر قبل سنوات خمس، بسبب النظام الانتخابي الجديد الذي يقاطعه العديد منهم، وفي هذه الأثناء، الشخصيات الوطنية، بما في ذلك العديد من عهد مبارك، عادت إلى دائرة الضوء.
بيد أن السياسات الراهنة في مصر لم تَعُد تمامًا إلى مسيرتها المباركية، الاختلاف الأساسي هنا هو أنه لا يوجد حزب سياسي مرتبط بالرئيس، الذي هو الآن عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع ومدير جهاز المخابرات العسكرية سابقًا، فقد تم حلّ الحزب الوطني الديمقراطي التابع لمبارك بعد وقت قصير من انتفاضة 2011، وأُضرِمَت النيران على نطاق واسع في مقرّه الرئيس، ونُقِلَت أصوله إلى الدولة، وأوضح السيسي أنه ليس لديه، على الأقل الآن، خطط لاغتنام فرصة تصاعد المشاعر الوطنية والموالية للجيش التي رافقت إطاحة الرئيس محمد مرسي في العام 2013 لتشكيل حزب أو حركة سياسية، بيد أن افتقاده إلى الاهتمام أو حتى ازدراء السياسات المدنية، أدّى إلى خلق بيئة فوضوية داخل المعسكر الوطني، حيث يتنافس ويتصارع مختلف الأفراد على المناصب، من دون توجيه مركّز من فوق.
مصر الآن من دون برلمان كامل منذ يونيو 2012، حين جرى حلّ الجمعية السابقة بقرار من المحكمة عشية وصول مرسي إلى سدة الرئاسة، وقد أُرجِئَت مرارًا وتكرارًا الانتخابات التي كان من المقرّر إجراؤها في صيف العام 2014 استنادًا إلى خريطة الطريق التي وُضِعَت بعد إطاحة مرسي، وليس من الواضح كليًا بعد متى سيتخلّى السيسي عن السلطات التشريعية للبرلمان الجديد.
بيد أن المناورات التي تصاعدت في الأشهر التي بدا فيها أن الانتخابات وشيكة – إلى أن أعلنت المحكمة الدستورية العليا أن بعض مجالات القانون الانتخابي غير دستورية في أول مارس 2015 – توفِّر على أي حال ومضة ضوء توضح بعض جوانب المشهد السياسي الراهن، فمع تقطيع اثنين من التيارات السياسية الرئيسة في مصر (الإسلاميون واليساريون/ العلمانيون) إلى نتف صغيرة أقل بكثير مما كانا عليه في العامَين 2011-2012، طفت على مسرح الأحداث مجددًا الانشقاقات داخل المجموعة الرئيسة الثالثة، الوطنيون، تمامًا كما كان يحدث خلال الهزيع الأخير من حقبة مبارك، وحين ستجري الانتخابات في نهاية المطاف، وإذا ما هيمن المعسكر الوطني المُتشاحِن على الأصوات، سيكون المسرح قد أُعِدّ لولادة برلمان مشاكس وغير قادر على تطبيق الضوابط على ممارسات السلطة التنفيذية التي نصّ عليها الدستور، ولا على وقف تفاقم سخط الجمهور على السياسات الرسمية.
أصداء ناصر في وطنية اليوم
تطوّرت الوطنية المصرية خلال القرن الماضي من وعي تحدّده الجغرافيا مع مسحةٍ فرعونية في العشرينيات، إلى وطنية تُعرَّف بشكل أكثر وضوحًا بالهوية العربية والإسلامية في الثلاثينيات، ثم إلى وطنية معادية للاستعمار ومناوئة للنخبوية غداة حركة الضباط الأحرار في العام 1952، هذه المجموعة الأخيرة ألغت المَلَكية وأقامت الجمهورية التي سيقودها لاحقًا جمال عبد الناصر، الرئيس العسكري الذي سيغيّر توجّهات مصر في السياسة والاقتصاد والمجتمع والعلاقات الدولية، ومع أن خليفته، أنور السادات وحسني مبارك، حاولا تشذيب حسّ الوطنية المصرية وتحديثها بوسائل عدة – مصر في سلام مع إسرائيل، على سبيل المثال ومحاولة تحقيق قدرات تنافسية اقتصادية دولية لمصر – إلا أن أيًا منهما لم ينجح كناصر في التقاط الخيال الشعبي.
إبّان انتفاضة يناير 2011، كان ثمة محاولة لاختراع شكل جديد من الوطنية – أو ربما إحياء شكل قديم – يحاكي ثورة 1919 ضد الاستعمار البريطاني، أكثر من تقليد حركة 1952، فهذه الثورة وحّدت، وإن لفترة قصيرة، المسلمين والمسيحيين، والناشطين الإسلاميين والعلمانيين، والنساء والرجال، والفقراء والأغنياء، واليافعين والكهول.
بيد أن هذا النمط الشامل للجميع من الوطنية، وعلى الرغم من جاذبيته، أثبت أنه هشّ وسريع العطب والتكسُّر إبّان السياسات الخشنة والمتفلّتة من الضوابط التي تلت إطاحة مبارك، ففي وقت مبكر (مارس 2011) اتّهم ناشطون شباب يساريون وعلمانيون جماعة الإخوان المسلمين بالتواطؤ مع الجيش لوضع جدول زمني انتقالي (يعطي الأولوية للانتخابات وليس لوضع دستور جديد)، يميل إلى صالح هذه الجماعة الأقدم والأكثر تنظيمًا، على حساب المجموعات السياسية الأحدث، كما شهد صيف العام 2011 انفجار العنف الإسلامي – المسيحي، وصدر في أكتوبر تبرير من الوطنيين لقتل محتجّين مسيحيين في مبنى ماسبيرو للتلفزيون التابع للدولة في القاهرة، وفي أواسط العام 2014، تصاعدت عمليات التحرّش والاعتداء على النساء، ما كشف صدعًا في المجتمع فشلت النوايا الحسنة في تجسيره طويلًا.
حين بات المصريون تحت ضغط الظروف السياسية المُفرِطة في سرعة تغيُّرها في الفترة بين العامَين 2011- 2013، صعد مجددًا وسريعًا إلى السطح اللون الناصري من الوطنية مع تشوّهاته العسكرتارية والشعبوية والمشاعر المعادية للأجانب، وشهدت الأشهر القليلة التي تلت إطاحة مرسي في يوليو 2013 إحياءً مفاجئًا لهذا النمط من الوطنية الذي حمل في تضاعيفه حياكة عبادة الشخصية حول السيسي، ما أعاد إلى الأذهان أيام عبد الناصر، لم يُنزِل بعض المصريين إلى الشوارع صواني الشوكولاتة والكعك المُحلّى وقناديل رمضان المزدانة بصور وزير الدفاع آنذاك السيسي وحسب، بل تم على نطاق واسع تشبيه السيسي بعبد الناصر، وظهرت يافطات في كل أنحاء مصر تصوّرهما أحدهما إلى جانب الآخر، كان ثمة موجة عاتية من الحنين لعبد الناصر، بما في ذلك خطة لوزارة الثقافة لتحويل منزل الرئيس الأسبق، الذي كان عهد مبارك قد قلّل من شأن إرثه، إلى متحف.
والواقع أن ثمة خطوط تشابه مثيرة بين الطريقة التي استخدم بها السيسي في العام 2013 والضباط الأحرار (الذين كان عبد الناصر أحدهم)، لونًا محددًا من المشاعر الوطنية الموالية للجيش والشعبوية والمشاعر المعادية للأجانب، لجذب التأييد الشعبي إلى عملية استيلائهم على السلطة، ففي كلا الحالين، طُرِحَ التبرير بأن الشخصيات العسكرية يجب أن تتّخذ إجراءات متطرفة – أساسًا لانتزاع السلطة من أيدي حكام مدنيين لا يحظون بالشعبية – لإنقاذ الوطن من خطر فوضى وشيكة، وفق هذه السردية، تعيّن على السيسي العمل لمنع التظاهرات المتصاعدة المناوئة لمرسي المرتبط بجماعة الإخوان من التحوُّل إلى حرب أهلية، وبالمثل، تعيّن على الضباط الأحرار الاستيلاء على السلطة في ضوء تفاقم التوتر مع المُحتلّين البريطانيين، وقد نجح القادة العسكريون في كلا الحالتين في تصوير المدنيين الذين أطاحوهم، على الأقل بالنسبة إلى جزء مهم من الرأي العام المصري، على أنهم يخدمون أجندات أجنبية وليس المصالح الوطنية، وهكذا، اتهم السيسي مرسي وجماعة الإخوان بأنهما ينتهجان سياسة ممالئة للإسلاميين ويطبّقان أجندة سياسية تصبّ في غير صالح مصر بالتواطؤ مع قطر وتركيا (وأيضًا مع الولايات المتحدة مهما بدا ذلك غير منطقي)، هذا في حين وصف الضباط الأحرار الملك فاروق بأنه عميل فاسد للبريطانيين.
استخدم كلٌّ من السيسي وعبد الناصر بكثافة الإعلام الذي تسيطر عليه الدولة (وفي حالة السيسي، تم أيضًا استخدام الإعلام الخاص المتعاطف معه)، وكذلك الثقافة الشعبية، لتمجيد نفسيهما والجيش، ولشيطنة مَن أطاحوهم ومعهم داعميهم الأجانب، على سبيل المثال، انتشرت الأغنية المؤيّدة للعسكر “تسلم الأيادي” انتشار النار في الهشيم في العام 2013، فيما تنافست أغانٍ أخرى مماثلة على جذب الانتباه الشعبي، ثم إن كلا الزعيمين، الحسّاسين من اتهامهما بأنهما نفّذا انقلابًا عسكريًا ضد المدنيين، استخدما الإعلام والثقافة لإعادة غرس سردية في الأذهان تقول بأن تغيير النظام هو ثورة أخرى اندلعت إنفاذًا لإرادة الشعب.
كان في مقدور السيسي وناصر حشد الدعم الشعبي والحفاظ عليه، وإن على الأقل لفترة، على الرغم من حقيقة أن حقبات ما بعد الانقلاب في 2013 و1952 جلبت معها قمعًا سياسيًا كثيفًا وخروقات لحقوق الإنسان، والحال أنه يتعيّن على المرء العودة إلى حقبة عبد الناصر للعثور على خطوط التشابه في مستوى الخروقات في عهد السيسي: مئات قُتلوا خلال المظاهرات، وآلاف المعتقلين السياسيين، وتخويف الإعلام والمجتمع المدني، وقيود واسعة على التعدّدية السياسية، وحقيقة أنهما (السيسي وناصر) كانا قادرَين على حشد الدعم بوسائل مذهلة في مدى تشابهها، مع أن المسافة الزمنية بينهما تفوق نصف القرن، تشي بأنه لايزال هناك خزان من المشاعر الوطنية في مصر يمكن استخدامها في الأوقات التي تبرز فيها حالات وطنية طارئة مُفترضة، كما أن هذه الحقيقة تشير إلى أن هناك على وجه الخصوص لونًا من الوطنية مواليًا للجيش يتشاطره الكثير من المواطنين (وإن ليس كلهم).
مشهد سياسي متغيّر للغاية منذ 2011
المشهد السياسي في مصر في العام 2015 نقيض ما كان عليه في العامَين 2011-2012؛ فقد استُبعِدَت الأحزاب الإسلامية التي حقّقت أفضل أداء في أقلام الاقتراع في الفترة بين أكتوبر ويناير 2012، وشخصيات وطنية، بما في ذلك بعض الشخصيات من عهد مبارك التي غابت عن المشهد في العامَين 2011 و2012، احتلت مجددًا قلب المشهد السياسي، أما المجالات العامة التي استُخدِمَت في السابق لعمليات التعبئة الشعبية، خصوصًا من قِبَل حركات المعارضة العلمانية، فقد جرى تقييدها إلى حدّ كبير، هذا في حين أعاق قانون الانتخاب الجديد نمو الأحزاب السياسية.
الفارق الأكثر وضوحًا هو أن الأحزاب الإسلامية المُهيمِنة سابقًا إما حُظِّرَت أو أُضعِفَت إلى حدّ كبير فيما يتعلّق بقدرتها على حصد الدعم والتمويل العامَّين؛ فحزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين، الذي قاد ائتلافًا صغيرًا فاز بحوالى نصف المقاعد في غرفتَي البرلمان في الانتخابات الفائتة، حُظِّر في أغسطس 2014، بعد ثلاثة عشر شهرًا على إطاحة مرسي وتسعة أشهر على إعلان جماعة الإخوان المسلمين منظمةً إرهابيةً من قِبل الحكومة المؤقتة المدعومة من الجيش، ويُذكَر أن معظم قادة الحزب، بمَن فيهم رئيس الحزب ورئيس البرلمان سعد الكتاتني، هم في السجن، وأن عددًا منهم يواجه تهمًا عدة وحتى أحكامًا بالموت.
أما الأحزاب الأخرى التي تُبدي توجّهات إسلامية، مثل حزب الوسط، وحزب الوطن، وحزب البناء والتنمية (والتي اصطفّت في البداية إلى جانب الإخوان المسلمين ضد الانقلاب)، فواجهت تحديات قانونية لاستمرار وجودها، وبعض قادتها هم في السجن، وقد أعلنت الأحزاب الثلاثة كلها أنها ستقاطع الانتخابات المقرّرة للعام 2015، إلا أن حزب النور، وهو الحزب الأقوى من بين أحزاب سلفية عدة صعدت إلى الواجهة عقب الانتفاضة، والذي اصطفّ إلى جانب الجيش ضد مرسي، ينوي المشاركة في الانتخابات حين تُجرى، لكن ليس من الواضح بعد ما إذا كان الحزب قادرًا على الفوز مجددًا بربع المقاعد الذي حصدها ائتلافُه في العامَين 2011-2012.
خلاصة القول أنه بدلًا من وجود مروحة كبيرة من الأحزاب الإسلامية التي تشارك في الانتخابات وتنال ثلاثة أرباع الأصوات كما حدث في العامَين 2011-2012، ثمة اليوم مجموعة إسلامية سياسية ناشطة واحدة هي حزب النور، وليس واضحًا تمامًا ما إذا كان دعم حزب النور للانقلاب ضد مرسي قد أضرّ بالدعم الذي يحظى به من السلفيين – إذ يبدو أنهم لم يصوّتوا بأعداد كبيرة في الاستفتاء الدستوري الذي أُجري في يناير 2014، ولا في انتخابات مايو 2014 الرئاسية – أو إذا كان الحزب سيفيد انتخابيًا من موقعه باعتباره الحزب الإسلامي الأخير الذي لايزال صامدًا، لكن حزب النور يعاني، في مطلق الأحوال، من مناخٍ حيث الإسلاميون كافة يُعامَلون على أنهم خطر أمني، والعديد منهم يوقَفون في حملات توقيف جماعية، كما أن التمويل الخارجي ومنظمات الرعاية الاجتماعية اللذين يعتمد عليهما الإسلاميون عادةً لبناء قواعدهم الانتخابية يخضعان إلى التدقيق المكثّف، فقد عمدت وزارة الشؤون الاجتماعية بموجب مرسوم إلى حلّ حوالى 380 منظمة غير حكومية يُزعَم أنها تابعة للإخوان المسلمين، وهذا فقط في فبراير ومارس 2015.
فضلًا عن ذلك، العديد من الحركات العلمانية والناشطين العلمانيين الذين زادوا شأنًا في مناخ ما بعد الانتفاضة وكانوا قادة رأيٍ، سواء ترشّحوا فعليًا لمناصب رسمية أم لم يترشّحوا، زُجَّ بهم أيضًا في السجون أو تعرّضوا إلى الإقصاء أو المضايقة، ويُشار إلى أن محمد البرادعي، مؤسِّس حزب الدستور، وأيمن نور، مؤسِّس حزب الغد والنائب السابق في البرلمان، اختار كلٌّ منهما بشكل منفصل النفي الذاتي بسبب خلافاتهما مع الحكومة المؤقتة في العام 2013، وحزب مصر القوية، الذي يرأسه الإخواني السابق عبد المنعم أبو الفتوح (الذي اعتُبِر مرشّحًا جديًا في انتخابات 2012 الرئاسية)، قاوم المضايقات أو فقدان المصداقية بسبب موجات الاستقطاب القوية التي اجتاحت البلاد؛ لكنه هُمِّش إلى حدّ بعيد في اللعبة السياسية الحالية، أما حركة 6 أبريل، التي كانت قوة مهمة وراء انتفاضة العام 2011، فقد حُظِّرَت في أبريل 2014 استنادًا إلى تُهَم بالتجسّس، واتُّهِم أحد مؤسسيها، أحمد ماهر، وناشطون شباب بارزون آخرون، أمثال أحمد دومة وعلاء عبد الفتاح، بانتهاك قانون جديد ضد الاحتجاجات مُرِّر بموجب مرسوم في نوفمبر 2013، إضافة إلى ذلك، واجه عمرو حمزاوي، مؤسِّس حزب مصر الحرية والنائب السابق في البرلمان، وأحد أبرز الليبراليين في العالم العربي، حظرَ سفرٍ بسبب تغريدة له على موقع تويتر، ومُنِع رسميًا من الظهور في وسائل الإعلام الوطنية.
وهكذا، وبدلًا من الإسلاميين والناشطين الشباب والليبراليين الذين طفقت شهرتُهم الآفاق في العام 2011، كان اللاعبون الأساسيون في المشهد السياسي الحالي هم شخصيات من حقبة مبارك؛ بعضهم كان في السجن أو فَقَدَ شعبيته في العام 2011، فيما لم يغادر بعضهم الآخر الساحة السياسية، في العام 2015، أُطلِق سراح كلٍّ من الرئيس السابق حسني مبارك ونجلَيه علاء وجمال، ومع أنه لايُتوقَّع أن يعود أيٌّ منهم إلى السياسة في الوقت الراهن، إلا أن العديد من شركائهم السابقين سيفعلون، كما أُطلِق سراح أحمد عزّ، قطب صناعة الصلب والأمين العام السابق للحزب الوطني الديمقراطي، الذي كان من الشركاء الأقرب إلى جمال مبارك، في أغسطس 2014، وهو يحاول الآن الترشّح مجددًا، مع أنه يواجه عقبات قانونية، وتشمل الشخصيات المعروفة الأخرى من حقبة مبارك، والتي اضطّلعت بأدوارٍ بارزة مؤخرًا، المرشح الرئاسي السابق والفريق المتقاعد أحمد شفيق، الذي ترأّس ائتلاف الجبهة المصرية للانتخابات التي جرى تأجيلها، واللواء المتقاعد في مخابرات الجيش سامح سيف اليزل، الذي ترأّس ائتلاف “في حب مصر”؛ ومسؤولَين سابقَين حاولا بناء ائتلافَين لكنهما فشلا في كسب الدعم الواسع، وهما رئيس الوزراء السابق كمال الجنزوري، ووزير الخارجية السابق والأمين العام السابق لجامعة الدول العربي عمرو موسى، وحتى من بين السياسيين الذين يُعِدّون أنفسهم جزءًا من المعارضة العلمانية، أصبحت شخصيات أقدم نشطت في حقبة مبارك هي الوجوه الجديدة لما بعد 2011: فقد أعلن حزب الوفد الجدير بالاحترام (الذي أُسِّس في العام 1919) والناشط عبد الجليل مصطفى من حركة “كفاية” (وهي حركة احتجاجية أُسِّسَت في العام 2004) أنهما سيقودان ائتلافَين انتخابيَّين.
مجالات الاحتجاج والتعبير والتعبئة مُقيَّدة الآن
أحد الأسباب الرئيسة لبروز الشخصيات الأقدم والأكثر رسوخًا على المسرح أكثر من الشباب، هو أن المجالات العامة التي كان يستخدمها هؤلاء الأخيرون – خاصة الساحات والإعلام – باتت مُقفَلةً في وجوههم الآن، صحيح أنه في العقد الذي سبق انتفاضة 2011 طوّر المصريون ببطء ثقافة الاحتجاج وقاموا بتظاهرات كانت تكبر بشكل متزايد وتتعلّق بالتظلمات حول ظروف العمل أو السلامة العامة أو حقوق الإنسان أو الحرية السياسية، إلا أن القانون المناوئ للاحتجاجات في العام 2013 فرض أحكامًا بالسجن وعقوبات أخرى على أولئك الذين يشاركون في أي تظاهرة لا توافق عليها وزارة الداخلية، هذه العقوبات طُبِقَت بشكل انتقائي، لكن كانت كافية عمومًا للتوضيح بأن الاحتجاج بات الآن خطرًا للغاية، وبالفعل، أكّدت التطورات الأخيرة الحقيقة بأن أكلاف الاحتجاج قد تكون باهظة: فخلال شهر فبراير 2015 وحده، حُكِمَ على أحمد دوما بالسجن مدى الحياة، وعلى علاء عبد الفتاح بالسجن خمس سنوات، كما جُندِلَت اليسارية شيماء الصباغ بالرصاص حتى الموت خلال تظاهرة صغيرة لوضع الأكاليل في القاهرة، أما بالنسبة إلى الشباب المؤيّدين لجماعة الإخوان المسلمين، فإن مجرّد الظهور في مسيرة مؤيّدة للسيسي يحمل في ثناياه الاتهامات بالدعم العلني لمجموعة إرهابية. وقد قُتِلَ أو سُجِنَ الآلاف من هؤلاء.
الإعلام المرئي والمسموع والصحافة المكتوبة كانا أيضًا المجالات التي فُتِحَت أمام تعدّدية الأصوات الجديدة، بدءًا من العام 2003 وما فوق، ولكن خاصة بعد العام 2011، لكنها انقصفت بسرعة في العام 2013؛ فقد تم إغلاق كل الإعلام الإسلامي تقريبًا، بما في ذلك المحطات الفضائية والصحف، فور وقوع الانقلاب، كما تبنّى الإعلام الذي تديره الحكومة لهجة وطنية حادة وموالية للجيش ومعادية للإخوان وللمعارضة، هذا في حين أن أجهزة الإعلام الخاصة إما هرعت للانضمام إلى هذه الجوقة أو جرى إغلاقها، في الإعلام المرئي والمسموع تمّ تغيير المسؤولين، وأُبعِد عن الهواء عددٌ من مُقدّمي برامج مشهورين وفائقي الشعبية على غرار الناقد باسم يوسف، ومقدّم البرامج الحوارية يسري فودة، ومذيعة الأخبار ريم ماجد – وجميعهم ذوو آراء ليبرالية علمانية -. وهناك الآن صحيفة واحدة فقط ناطقة بالعربية، الشروق، تنشر بعض الآراء المعارضة، وبعض مداخل الإنترنت التي تسمح بطرح وجهات نظر أكثر قليلًا، لكن الإعلام الصادر بالإنكليزية لايطال سوى النخبة من المصريين.
النخبة المتمكّنة من الإنترنت هي أيضًا الفئة المصرية الوحيدة التي لها مداخل على وسائط التواصل الاجتماعي (خاصة فايسبوك ويوتيوب وتويتر)، التي برزت كساحة حرب افتراضية بين مَن يسعون إلى إثبات خيانة هذا الطرف أو ذاك، وفي حين أن الناشطين الشباب، ولاسيما الليبراليين، أظهروا قدرًا كبيرًا من البراعة والألمعية في ابتكار الحملات على وسائل التواصل الاجتماعي لتعرية خروقات النظام وجذب الاهتمام الشعبي في الفترة مابين العامَين 2004 و2013، إلا أنهم منذ الانقلاب التزموا جانب الدفاع، ومع ذلك، بعض الحملات كان لها تأثير، مثل شريط اليوتيوب الذي بثته مجموعة “عسكر كاذبون” ويُظهِر قتل شمياء الصباغ، والذي أثار ما يكفي من حنق الرأي العام لإجبار الحكومة على إجراء تحقيق واعتقال أحد ضباط مكافحة الشغب في الشرطة.
قانون انتخابي جديد يحدّ من فرص الأحزاب السياسية
فارق آخر مهم في المشهد السياسي الراهن، والذي من شأنه التأثير بعمق على أي برلمان مُنتخَب، هو قانون الانتخاب الذي جرى تغييره، والذي يميل بقوة إلى صالح المرشحين المستقلين على حساب الأحزاب السياسية. ومع أن بعض جوانب القانون الجديد، الذي سُنَّ في العام 2014، اعتُبِرَت غير دستورية في مارس 2015، إلا أن النظام الانتخابي الأساسي لايزال قيد العمل، وهو وجَّه ضربة كبرى للأحزاب السياسية العلمانية التي كان العديد منها أيَّد إطاحة مرسي بأمل الإفادة من استبعاد جماعة الإخوان عن السياسات الرسمية، 21 في المئة فقط من المقاعد (120 من أصل 567 مقعدًا) في مجلس النواب الجديد، الذي سيحلّ مكان المجلسَين الأدنى والأعلى السابقَين، سيتم اختيارها وفق نظام اللائحة الحزبية (التي يختار فيها الناخبون لائحة من مرشحين انتقاهم الحزب، بدلًا من المرشحين الإفراديين)، وهذا بالمقارنة مع 66 في المئة للوائح الحزبية في الجمعية السابقة الأخيرة، علاوة على ذلك، ينصّ النظام الانتخابي الجديد على أنه إذا ما فازت لائحة بـ51 في المئة أو أكثر من الأصوات، فستحصد كل المقاعد في الدائرة الانتخابية المعنيّة، بدلًا من توزيع المقاعد بين اللوائح بشكل نسبي كما كان ينصّ القانون السابق، وهكذا، باتت لدى الأحزاب الأصغر المفتقدة إلى التمويل المناسب – ومعظم أحزاب المعارضة العلمانية لا تحظى بتمويل جيد – حظوظٌ أقل مما لو تم توزيع مقاعد اللوائح الحزبية بشكل نسبي، والمؤكّد تقريبًا الآن أن تفوز هذه الاحزاب بمقاعد أقل مما حصلت عليه في الانتخابات السابقة، حين حصدت الأحزاب اليسارية والليبرالية العلمانية 29 في المئة من المقاعد.
في مجلس النواب الجديد، 74 في المئة من المقاعد (420 مقعدًا) ستُنتخَب بشكل فردي، مقارنةَ بـ33 في المئة في المرة الماضية، (الرئيس سيعيّن المقاعد الـ27 المتبقّية أي ما يزيد عن المقاعد العشرة سابقًا)، يُسمَح للأحزاب بطرح مرشحين للمقاعد الفردية المُنتخَبة، لكن هذا سيكون مُكلفًا أكثر بكثير ويقترن بصعوبات لوجستية، لأنه يتضمّن خوض مئات من مختلف المعارك الانتخابية بدلًا من عدد أصغر من القوائم التي كانت مطلوبة في ترتيبات اللائحة الحزبية.
النظام الانتخابي الجديد يعيد أيضًا كوتا النساء (56 مقعدًا) التي أُقِرَت في الهزيع الأخير من عهد مبارك، لكنها طُرِحَت جانبًا بعد العام 2011، كما أنه (النظام) يضيف كوتا من 24 مقعدًا للمسيحيين، و16 مقعدًا للشباب، و8 مقاعد لذوي الاحتياجات الخاصة.
وهكذا، يحبّذ هذا النظام المرشحين الفرديين الذين يعتقدون أن لهم شعبية قوية في دوائر محددة، على غرار أعضاء الأُسَر الغنية المالكة للأراضي أو قباطنة الصناعة، بدلًا من الأحزاب، في الانتخابات الأخيرة، كانت جماعة الإخوان ناجحة نسبيًا في معارك الدوائر الفردية، لأنها محظيّة بتمويل جيد وقادرة على اختيار مرشحين مثل الأطباء أو رجال الأعمال الذين يتمتّعون بسجلات قوية في أنشطة الخدمات الاجتماعية، وهذه لن تكون الحال في البيئة الراهنة، حيث إن المرشح الذي يُعلِن ارتباطًا ما بالجماعة أو حتى يُلمّح إليه، سيكون قيد الملاحقة القانونية بتهمة الإرهاب.
في ظلّ هذه الظروف المعقّدة، تكتّلت الأحزاب السياسية الصغيرة والأفراد في قوائم انتخابية أو ائتلافات بهدف تحسين حظوظها في الانتخابات التي كان مقرّرًا أن تعقد في مارس وأبريل 2015، فمن بين أبرز اثنتي عشرة قائمة تم تسجيلها، كان ثلاثة أرباعها على الأقلّ ذات توجهات وطنية واعتبارًا من مارس 2015 تمثّلت القوائم الرئيسة بالتجمّع الوطني “في حب مصر” برئاسة الصديق الحميم للسيسي واللواء المتقاعد في المخابرات العسكرية سامح سيف اليزل، و”ائتلاف الجبهة المصرية” بقيادة اللواء المتقاعد في القوات الجوية أحمد شفيق (يُعتبَر منافسًا للسيسي أكثر منه مؤيّدًا له)، وقائمة أخرى مؤيّدة للسيسي باسم “تيار الاستقلال”، و”ائتلاف نهضة مصر” الذي يتكوّن بصورة أساسية من أحزاب ليبرالية ويسارية تشكّلت بعد الانتفاضة (مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي)، وكان حزب النور يعتزم خوض الانتخابات بمفرده، في حين انضمّ العديد من الجماعات الأخرى التي رأت من حيث المبدأ أن تخوض الانتخابات بصورة مستقلة، وخاصة حزب الوفد وحزب المصريين الأحرار الذي أسّسه فيما بعد الملياردير نجيب ساويرس، إلى ائتلاف “في حب مصر”، كانت هذه التحالفات الكبيرة تخطّط لخوض المنافسة على مقاعد القوائم الحزبية الـ 120، كما وعد بعضها بالتنسيق، وليس التنافس، في مابينها في السباق على المقاعد الفردية الـ 420، مع أنه لم يكن واضحًا ما إذا كان سيتم الالتزام بهذه الوعود.
أصداء سياسة عهد مبارك
لا يوجد سوى القليل من القواسم المشتركة بين السياسة في العام 2015 ونظيرتها في العامَين 2011-2012، إلا أنها تظهر الكثير من التداخل مع التوجّهات التي كانت سائدة خلال سباقات الانتخابات البرلمانية التي جرت قبيل إطاحة مبارك، في نوفمبر وديسمبر 2010، والواقع أن التراجع الأخير في التعدّدية والحريات يشبه، في بعض جوانبه، الديناميكية التي تكشّفت وظهرت للعيان في السنوات الأخيرة من عهد مبارك.
جرت انتخابات العام 2010 في فضاء سياسي متوتّر وهيمنت عليها الأحزاب والمرشحون المقرّبون من الحكومة، على النقيض من الانتخابات الأكثر تعدّدية (لكنها لم تكن مفتوحة تمامًا) التي جرت في أواخر العام 2005، فاز المرشحون المستقلون التابعون لجماعة الإخوان المسلمين (في ذلك الوقت لم يكن قد سمح لجماعة الإخوان بتشكيل حزب) بنحو 20 في المئة من المقاعد في العام 2005، في حين تم في العام 2010 حرمان الكثير من مرشحي الإخوان من المشاركة، وواجه القلّة الباقون قيودًا كبيرة تم فرضها على حملاتهم الانتخابية، وكما حدث في العام 2015، اختار العديد من السياسيين العلمانيين المعارضين مقاطعة انتخابات العام 2010، وهي الإستراتيجية التي نادت بها في ذلك الوقت “الجمعية الوطنية للتغيير” بزعامة محمد البرادعي، والتي جمعت أكثر من 100 ألف توقيع على عريضة على شبكة الإنترنت تدعو إلى التحرّر السياسي.
ثمة وجه آخر للشبه يتمثّل في التراجع عن الحريات الإعلامية، التي كانت قد توسّعت تدريجيًا بين العامَين 2003 و2010، قبل انتخابات العام 2010، فقد شملت الأساليب التي استخدمتها الحكومة المصرية آنذاك، عرقلة قدرة القنوات الفضائية على بثّ الأحداث مباشرة كالتظاهرات، وتقييد استخدام الرسائل النصّية المجمّعة، وفرض إقالة العديد من الصحافيين البارزين، بيد أن تلك الأساليب تبدو متواضعة جدًا مقارنة بما فعلته الحكومة في مجال الإعلام منذ العام 2013، ذلك أن عمليات الإغلاق القسري لكل وسائل الإعلام الإسلامية تقريبًا، فضلًا عن العديد من مكاتب وسائل الإعلام الدولية بما فيها قناة الجزيرة، واعتقال العديد من الصحافيين واستخدام العنف ضدهم، والتحرّش واسع النطاق أو استبدال المذيعين والمضيفين والمحرّرين الذين يُشتبَه في تعاطفهم مع الأجندة الديمقراطية في العام 2011، حوّلت الفضاء الإعلامي إلى فضاء يتّسم بقلّة التعدّدية، فقد صنّفت لجنة حماية الصحافيين مصر ضمن أبرز عشر دول تسجن الصحافيين في العام 2014.
ثمة وجه آخر مثير للشبه بين السياسة في العام 2015 والعام 2010، يتمثّل في انعدام التماسك أو الانضباط داخل المعسكر السياسي الوطني المؤيّد للحكومة؛ في العام 2010، كان الحزب الوطني الديمقراطي لايزال موجودًا، ولكنه كان يتعرّض إلى مشاكل داخلية كبيرة تتعلّق بالصراع حول مَن سيخلف الرئيس الثمانيني حسني مبارك، خلال دورتَي الانتخابات البرلمانية السابقتَين، كان أداء الحزب الحاكم سيئًا نسبيًا، ففي العام 2000، فاز الحزب بنسبة 38 فقط من المقاعد بصورة مباشرة، وهي نسبة تقلّ كثيرًا عن أغلبية الثلثين اللازمة للتحكّم بأي تعديلات على الدستور، أما الذين تغلّبوا على مرشحي الحزب الوطني، فقد كانوا من المستقلين عمومًا الذين كانوا وطنيين لكنهم خسروا في عملية اختيار المرشحين داخل الحزب، وكان الحزب الوطني ملزمًا باستعادة هؤلاء الأشخاص غير المرغوب فيهم لتأمين الأغلبية.
منح الأداء السيء للحزب الوطني في العام 2000 فرصة لجمال مبارك لإصلاح الحزب وتحديثه/ كان جمال، وهو مصرفي، قد أمضى سنوات عدة في العمل في لندن، وألهمته التغييرات التي حصلت في حزب العمال في عهد رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير، وفي ظلّ سطوة جمال وتأثيره، انتقل الأعضاء الجدد من نخبة رجال الأعمال المهتمين بتوسيع الاستثمار الأجنبي، إلى موقع الصدارة داخل صفوف الحزب الوطني الديمقراطي، ما تسبّب في كثير من الأحيان في حدوث توتّرات مع نخب الحزب القديمة، والتي تتكوّن في كثير من الحالات من أفراد الأُسَر العريقة في البلاد التي تتمتّع بعلاقات قديمة مع الأجهزة العسكرية والأمنية، شكّل جمال وزمرته أمانة السياسة الجديدة وحاولوا تجديد الحزب الحاكم بمبادرات في مجال السياسات، وكذلك بشعارات تهدف إلى استمالة جمهور واسع من قبيل “من أجلكم”، و”فكر جديد”، و”حقوق المواطنين أولًا”، لم يسبق للحزب الوطني الديمقراطي أن كلّف نفسه عناء القيام بتلك الجهود، والتي كانت تمثّل وسيلة للوصول إلى الرعاية الحكومية وتوزيعها في المقام الأول، كما خاض جمال وأنصاره معركة مع الحرس القديم في الحزب بشأن الترشيحات للانتخابات البرلمانية للعام 2005، حيث طالبوا بوجوه جديدة ومرشحين أصغر سنًا، ومع ذلك لم يكن أداؤهم أفضل حالًا من أداء الحرس القديم، حيث لم يفوزوا إلا بنسبة 34 في المئة فقط من المقاعد، واضطر الحزب الوطني الديمقراطي مرة أخرى إلى استعادة المتنكّرين لمبادئ الحزب الذين خاضوا الانتخابات كمستقلين.
مع بدء سباق الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2010، ازدادت حدّة التوتّرات في مصر بسبب الشعور بأن هناك عملية خلافة رئاسية وشيكة، كان مبارك قد تجاوز الثمانين من العمر وأوشك على الوصول إلى نهاية ولايته الخامسة ذات السنوات الستّ في العام 2011، وفي حين انجرّ الكثيرون من مجتمع الأعمال خلف جمال باعتباره الخليفة المُفترَض لأبيه، كانت هناك شائعات متداولة تفيد بأن المؤسّسة الأمنية العسكرية لم تكن راضية، وفي الوقت نفسه، كان ائتلاف النخبة العسكرية والتجارية غير المستقرّ يواجه تهديدات متزايدة من الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي تعبّر عن مختلف التظلمات المتعلّقة بالعمل، والخدمات الحكومية، ووحشية الشرطة، وانعدام الحرية السياسية، وقد تجلّى ردّ الحكومة بتشديد الضوابط السياسية، وفي العام 2010، تم إدخال تدابير جديدة لضمان فوز الحزب الوطني الديمقراطي، مثل حرمان العديد من مرشحي المعارضة من المشاركة في الانتخابات (لاسيما جماعة الإخوان المسلمين)، وفرض قيود على وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية، وغيرها من الخطوات التي أدّت ببعض أحزاب المعارضة العلمانية إلى مقاطعة الانتخابات.
في نهاية المطاف، حقّق الحزب الوطني الديمقراطي الانتصار الحاسم الذي كان يصبو إليه، حيث حصل على 86 في المئة من المقاعد، إضافة إلى 12 في المئة أخرى فاز بها المتنكّرون لمبادئ الحزب الذين خاضوا الانتخابات كمستقلين، لكن تبيّن أن هذا الانتصار كان باهظ الثمن، ومع أن المنافسة كانت كلها تقريبًا داخل النخبة الموالية للحكومة، فقد شابت الانتخابات تقارير واسعة الانتشار عن حشو صناديق الاقتراع بأوراق مزورة، فضلًا عن تزوير الأصوات وأعمال العنف، بدأ البرلمان جلساته في منتصف ديسمبر وسط موجة من الاحتجاجات، وأصبحت الفكرة بأن الانتخابات سُرِقَت، واحدة من تظلمات عدة محدّدة، جنبًا إلى جنب مع فساد الشخصيات التجارية الرئيسة المرتبطة بجمال مبارك ووحشية الشرطة التي أظهرها قتل شاب من الإسكندرية اسمه خالد سعيد، الذي أثار “يوم الغضب” في 25 يناير 2011، والذي أدّى في نهاية المطاف إلى إطاحة مبارك بعد أسبوعين، عمد المحتجّون إلى التنفيس عن غضبهم تجاه عائلة مبارك والشرطة ورأسماليي المحسوبية، وأوْلَوا الجيش (الذي يُعتبَر فوق الخلافات السياسية) ثقتهم لإطاحة مبارك من دون الكثير من العنف، وقيادة البلاد نحو تحوّل ديمقراطي.
هل سيكون هناك حزب وطني جديد؟
منذ خمسينيات القرن الماضي، كان لكلّ رئيس مصري حزب أو تنظيم سياسي ساعده على دفع الناخبين إلى صناديق الاقتراع عند الحاجة، وكذلك لضمان أن يعمل البرلمان باعتباره إمّعة (بصّامًا) يوافق من غير تفكير ولا مناقشة إلى حدّ ما على التشريعات والتعديلات الدستورية الصادرة عن السلطة التنفيذية، فقد ألغى جمال عبد الناصر المنافسة السياسية التي كانت قائمة قبل حركة الضباط الأحرار في العام 1952، وأنشأ حزبًا واحدًا أطلق عليه في البداية اسم “هيئة التحرير”، ثم “الاتحاد القومي”، وفيما بعد “الاتحاد الاشتراكي العربي”، أما خليفته، أنور السادات، فقد قسّم الاتحاد الاشتراكي العربي ليلغيه في وقت لاحق، وأسّس الحزب الوطني الديمقراطي في العام 1978، والذي حافظ عليه مبارك حتى خروجه من السلطة، وعلى الرغم من السماح بقدرٍ من التعدّدية المحدودة من أيام السادات فصاعدًا، فقد كانت المعوّقات القانونية والهيكلية الكثيرة تعني أنه لا يمكن لأي حزب آخر سوى حزب الرئيس، الذي قدّم نفسه حزبًا وطنيًا معتدلًا، أن يأمل بالوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، ومنذ أن تم إحباط التجربة الديمقراطية القصيرة في الفترة بين العامَين 2011 و2013، لا يبدو واضحًا حتى الآن ما إذا كان هناك حزب سياسي جديد أو أكثر سيطوّر الأجندة الوطنية في السياسة الرسمية.
هناك على الأقل عاملان مهمان ومترابطان يحولان دون ظهور حزب وطني جديد الآن، أولًا، ليس من السهل التغلّب على التنافس المستمر بين مجموعات عديدة داخل الأوساط الوطنية، ولاسيما بين الجيش ومجتمع الأعمال، حيث إن لكلٍّ منها مصالح اقتصادية كبيرة، ثانيًا، لم يُظهِر الرئيس السيسي سوى قدر ضئيل من الميل، وحتى الازدراء، للسياسة المدنية حتى الآن، الأمر الذي يجعل مسألة تصنيف تضارب المصالح في المعسكر الوطني أكثر صعوبة.
شهدت إطاحة مرسي في منتصف العام 2013 تكتّلًا قويًا للقوى الوطنية، بما في ذلك الجيش وقوات الأمن والمخابرات الداخلية ومجتمع الأعمال، فضلًا عن المسؤولين المدنيين والسياسيين في الحزب الوطني الديمقراطي من عهد مبارك، غير أن الحفاظ على الوحدة بين المتنافسين على الموارد الشحيحة (الجيش مقابل الشركات الكبرى، على سبيل المثال، أو الجيش مقابل أجهزة الأمن الداخلي)، ليس بالأمر السهل، وخصوصًا في وضع لم يَعُد هناك أي متنافسين سياسيين جادين غير وطنيين.
جرت كثيرًا مناقشة التنافس بين الجيش ومجتمع الأعمال في السنوات الأخيرة من عهد مبارك، عندما بدأ رجال الأعمال المرتبطون بجمال مبارك في الظهور باعتبارهم مراكز القوة الجديدة، بما في ذلك الحزب الوطني الديمقراطي، عندما اندلعت الانتفاضة في العام 2011، سارع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولّى السلطة بعد إطاحة مبارك، إلى التضحية بعددٍ من رجال الأعمال الذين بلغوا مناصب عليا في الحكومة أو الحزب، بمَن فيهم الأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي أحمد عز، ورئيس الوزراء السابق أحمد نظيف، ووزير المالية السابق يوسف بطرس غالي، ووزير التجارة السابق رشيد محمد رشيد، كان معظمهم مرتبطًا بصورة وثيقة ببرنامج جمال للنمو بقيادة القطاع الخاص، والذي تسبّب بنفور الجيش نظرًا إلى عمليات الخصخصة الكبيرة التي يتضمّنها البرنامج للقطاع العام، ونفور الجمهور بسبب التفاوت الهائل في الدخل الذي نجم عن ذلك.
والآن ثمّة دلائل على أن منافسات عهد مبارك، أو النسخ الجديدة منها، عادت إلى الظهور، جنبًا إلى جنب مع سياسة عهد مبارك، فقد أدّت محاولات السيسي لرفع الضرائب على رجال الأعمال الأثرياء، وكذلك الضغط عليهم لتقديم مساهمات طوعية إلى صناديق التنمية غير الشفافة مثل صندوق “تحيا مصر”، إلى توترات واضحة على نحو متزايد بين الجيش وفلول عهد مبارك، كما أن إعلان أحمد عز عن ترشّحه، الذي تبعه بسرعة الإعلان عن حرمانه من المشاركة بسبب عدم الإفصاح عن بياناته المالية بصورة كافية، جعل مصر تضجّ باحتمال أن يكون البرلمان الجديد مسرحًا لمراكز جديدة للقوى إضافة إلى الجيش، أما أحمد شفيق، الذي يُعتبَر أقرب إلى مجتمع الأعمال من معظم ضباط الجيش، وربّما يكون أيضًا مقرّبًا من أجهزة الأمن الداخلي، فقد بقي في المنفى في دولة الإمارات العربية المتحدة بسبب قضايا الفساد التي تلاحقه منذ مشاركته الفاشلة في الانتخابات الرئاسية في العام 2012، وفي إطار التحضير للانتخابات التي كان من المُقرَّر أن تُعقَد في مارس وأبريل 2015، ترأّس شفيق تحالفًا انتخابيًا لم يكن بالضرورة مؤيّدًا بقوة للسيسي، مع أنه كان وطنيًا، وفي حين كانت شخصيات بارزة أخرى من رجال الأعمال، مثل مؤسّس حزب المصريين الأحرار نجيب ساويرس، والعديد من رجال الأعمال على لائحة “في حب مصر”، أكثر صراحةً في تأييدهم للسيسي، فقد تكون لهم أيضًا أجنداتهم الخاصة، وهم يأملون في أن يصوغوا التشريعات أو يقيّدوها وفقًا لمصالحهم، وقبيل أن تعلن المحكمة الدستورية العليا أن أجزاء من قانون الانتخابات غير دستورية في مارس 2015، أبلغ مصدر لم يكشف عن اسمه موقع “الأهرام أون لاين” أن السيسي كان قلقًا بشأن تأثير رجال الأعمال في السياسة، وأنه يفكّر في العثور على سبب لتأجيل الانتخابات نظرًا إلى “زيادة احتمالات هيمنة رجال الأعمال على البرلمان”.
في حين يبدو من الصعب دائمًا تصنيف الشبكة المعقّدة من المصالح التي تشكّل الأوساط الوطنية في مصر، فإن من المستحيل القيام بذلك من دون قيادة واضحة من الأعلى، إذ لم يرغب الرئيس سيسي حتى الآن في وضع بصماته المباشرة على أي تجمّع سياسي، ما أدّى إلى ظهور مشهد متغيّر باستمرار من الشائعات بأن سياسيًا أو آخر، عمرو موسى ومن ثم كمال الجنزوري، سيحصل على موافقة لتشكيل حزب السيسي أو قائمته الانتخابية المعتمدة.
عندما عقد السيسي أخيرًا أول اجتماع له مع الأحزاب السياسية في يناير 2015، بعد أن كان في السلطة كأمر واقع منذ يوليو 2013، ورئيسًا منذ يونيو 2014، تقدّم باقتراح أذهل قادة الأحزاب: بدلًا من التنافس، ينبغي عليهم أن يتوحّدوا في قائمة واحدة سيكون السيسي سعيدًا بدعمها، البعض رفض الفكرة باعتبارها غير عملية في أحسن الأحوال، في حين أشار آخرون بعد ذلك، من دون أن يفصحوا عن أسمائهم، إلى أنهم لا يفهمون الغرض من الانتخابات إن هم عملوا بموجب اقتراح الرئيس، (لم يُظهِر السيسي على ما يبدو تقبّلًا لطلبات ممثّلي الأحزاب بإلغاء قانون التظاهر شديدة القسوة الذي وضع موضع التنفيذ في أواخر العام 2013 أو القيود الثقيلة المفروضة على تمويل منظمات المجتمع المدني، والتي تسبّبت بوقف أنشطة الكثير منها تمامًا)، وعندما اتّضح أن تحالف الجنزوري، الذي كان يُفترَض في وقت الاجتماع مع الأحزاب أنه الأقرب إلى السيسي، لا يمكنه توحيد جميع القوى وفقًا لاقتراح السيسي، انسحب الجنزوري فجأة من الانتخابات حيث بدأ المرشحون يهجرونه بأعداد كبيرة للانضمام للتجمّع الجديد “في حب مصر” برئاسة سامح سيف اليزل.
ربما يتجنّب الرئيس الملتزم حقًا ببناء الديمقراطية في مصر السياسات الحزبية، بيد أن هذا لا يُعَدّ تفسيرًا معقولًا لسلوكيات الرئيس في كبح الحريات السياسية على نطاق واسع كما فعل السيسي، وقد يمتنع السيسي عن تنظيم المجال السياسي الوطني بصورة صريحة ومباشرة لأنه يفضّل أن يُبقي الحلفاء والمنافسين المحتملين يخمّنون ويتنافسون طلبًا للحظوة، غير أن السبب قد يكون أعمق من ذلك: إذ يبدو أنه لا فائدة تُذكَر عنده للسياسة المدنية، وعلى الرغم من أنه مضى قُدُمًا بشيء من الهمّة لتنفيذ أجزاء من خريطة طريق ما بعد يوليو 2013، التي تنطوي على وضع دستور جديد وإجراء انتخابات رئاسية، عَمَدَ إلى تأجيل الانتخابات البرلمانية مرارًا وتكرارًا، والتي لا تمثّل أولوية بالنسبة إليه على مايبدو، فهو لم يُصْغِ إلى مناشدات الأحزاب السياسية المتكرّرة، بما فيها تلك الموجودة في المعسكر الوطني، بعدم تطبيق نظام انتخابي جديد من شأنه أن يقلّل إلى حدّ كبير من فرص الأحزاب من خلال جعل الغالبية العظمى من المقاعد مفتوحة للمرشحين الأفراد.
ربما يشعر السيسي أنه ليس في حاجة إلى حزب سياسي جديد في الوقت الحاضر لأن لديه حزبًا بالفعل: الجيش. ومنذ انقلاب يوليو 2013، عمل الجيش بطريقة سياسية أكثر وضوحًا مما كانت عليه الحال منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى خلال فترة حكم المجلس العسكري، من سقوط مبارك في فبراير 2011 وحتى تنصيب مرسي في يونيو 2012، بذل قادة الجيش قصارى جهدهم كي يوضحوا أن دورهم انتقالي تمامًا، وكانوا حريصين على الابتعاد عن السياسة، ولكن في يناير 2014، اتّخذ المجلس العسكري الخطوة الملفتة المتمثّلة في ترشيح السيسي لرئاسة الجمهورية، تمامًا كما يفعل أي حزب سياسي، وكثيرًا ما يشيد السيسي بانضباط وكفاءة الجيش على عكس المدنيين؛ حيث أشار، على سبيل المثال، إلى أن البلد سيكون أكثر ازدهارًا إذا استيقظ المدنيون باكرًا كما يفعل جنود الجيش، وأن الجيش ينبغي أن يكون المحرّك الرئيس للتنمية الاقتصادية، ومع أن السيسي كان حريصًا على عدم استخدام الجيش بصورة علنية للتعبئة خلال حملته الرئاسية، إلا أنه أعلن عن ترشّحه وهو يرتدي الزي المموَّه باللونين البيج والبني، ويُقال إن الأغنية المؤيّدة للجيش “تسلم الأيادي” كانت تُبَثّ خارج مراكز الاقتراع على نطاق واسع، حيث كانت دبابات الجيش تتولّى المراقبة.
الآثار المترتّبة على وجود ساحة تفتقر إلى السياسة بالنسبة إلى الانتخابات والحكم والاستقرار
جورج إسحق، وهو سياسي علماني معارض محنّك دعم إطاحة مرسي، أشار إلى أنه منذ انتخاب السيسي رئيسًا، لاتزال مصر تعيش “فترة تفتقر إلى السياسة”، فقد تم تقليص التعدّدية، فضلًا عن حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات، بصورة حادّة بهدف خلق شعور بأن الحياة السياسية، التي بدا أنها بدأت في أوائل العام 2011، انتهت فجأة مرة أخرى.
الإقصاء شبه الكامل للإسلاميين، ومقاطعة الانتخابات من جانب العديد من الأحزاب العلمانية الحديثة المرتبطة بثورة العام 2011، والقيود المشدّدة التي فُرِضَت على وسائل الإعلام وكذلك تعبئة الشارع، أدّت إلى نشوء وضع في العام 2015 يشبه بصورة ملحوظة الوضع الذي كان سائدًا في العام 2010. لم تكن المنافسة الانتخابية غائبة تمامًا في العام 2010، غير أن التنافس حدث بصورة حصرية تقريبًا بين عناصر داخل المعسكر الوطني وليس بين الأحزاب ذات الأيديولوجيات أو البرامج المختلفة جوهريًا، في واقع الأمر، أصبحت الاختلافات بين الوطنيين أكثر حدّة ووضوحًا من أي وقت مضى، وقد يكون مردّ ذلك بصورة جزئية إلى حقيقة أنه لم تكن هناك حاجة إلى التوحّد في مواجهة المنافسين من معسكرَي المعارضة الإسلامية أو العلمانية. كانت انتخابات العام 2010 فاسدة وعنيفة، مع أنه من غير الواضح ما إذا كانت عمليات شراء الأصوات، وحشو صناديق الاقتراع بالأوراق المزورة، والإكراه البدني، أكبر مما كانت عليه في السباقات الفائتة أو أنها كانت موثّقة ومنشورة بصورة كاملة نتيجة لاستخدام وسائط التواصل الاجتماعي.
ويبقى أن ننتظر لنرى ما إذا كانت مشاهد مماثلة ستتكشّف وتظهر للعيان في الانتخابات البرلمانية المقبلة، عندما تعقد الانتخابات في نهاية المطاف، ستكون فوضوية بلا شك. فقد تم تسجيل ما يقرب من 7 آلاف مرشح للانتخابات، التي كانت مُقرَّرة في مارس وأبريل 2015، يسعون إلى الحصول على مقاعد برلمانية (ناهيك عن الحصانة البرلمانية من الملاحقة القانونية)، ويتنافسون مع بعضهم البعض حتى من دون أن يكون لديهم أي مظهر من مظاهر الانضباط الحزبي، ومن المؤكد أن من شأن الانتخابات التي تجري في مثل هذه الظروف أن تولّد شعورًا بالظلم بين الإسلاميين (الذين لايزالون يشعرون بالاستياء من حلّ البرلمان السابق في العام 2012، ناهيك عن عزل مرسي) وبين الثوار الشباب، ولكن ليس من الواضح ما إذا كان الجمهور عمومًا سيقاسمهم هذه المشاعر، وعلى الرغم من أن أفراد النخبة النشطة سياسيًا هم الذين احتجّوا في البداية على انتخابات العام 2010، أصبحت تلك الانتخابات جزءًا من سرديّة أوسع لغدر الحزب الوطني الديمقراطي (جنبًا إلى جنب مع عدم المساواة الاقتصادية والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان) الذي انتهى بإطاحة مبارك بعد بضعة أشهر من التصويت.
بالنسبة إلى أي برلمان جديد يُنتخَب في ظلّ الظروف الحالية، على الرغم من أنه لن يكون هناك وجود معارض حقيقي إن وجد أصلًا، فإن المجلس المكوّن من 567 مقعد قد يكون فوضويًا بسبب انعدام التماسك في المعسكر الوطني، وحتى لو فاز ائتلاف وطني أو أكثر بالكثير من المقاعد (ولاسيما بالنسبة إلى ائتلاف “في حب مصر” الذي يُعتقَد أنه قريب من السيسي)، فإنه لن يعمل بالضرورة ككتلة تصويت واحدة داخل المجلس، فقد كانت هناك قوائم رئيسة عدة في انتخابات 2011-2012، ولكن كل حزب وعضو مضى في سبيله عندما انعقد البرلمان، وبمجرّد أن يبدأ المجلس الجديد العمل، من المرجّح أن تطفو على السطح مسألة وجود حزب وطني حاكم، على الرغم من أن قانون الانتخابات يجعل من الصعب على النواب تغيير انتمائهم الحزبي بعد أن يتم انتخابهم.
انعدام التماسك داخل البرلمان قد ينطوي على مزايا قصيرة الأجل بالنسبة إلى السيسي، الذي لن يشعر بالقلق إزاء وجود معارضة منظّمة بصورة جيدة في المجلس، بيد أنه قد يصبح إشكاليًا بالنسبة إليه كذلك، وبموجب دستور العام 2014، يملك البرلمان إلى حدّ ما سلطة أكبر من التي كان يملكها في عهد مبارك، ويجوز لأي عضو مساءلة أحد وزراء الحكومة أو استجوابه، بمَن فيهم رئيس الوزراء، حيث يجوز للبرلمان أن يصوّت بأغلبية بسيطة لسحب الثقة من أحد الوزراء أو من مجلس الوزراء بأكمله، ويصوّت البرلمان على مشروع الموازنة العامة للدولة، على الرغم من أن ميزانية الجيش معفاة من التدقيق الحقيقي لأنها مُدرَجة في بند واحد ضمن الميزانية العامة للدولة، كما يجوز للبرلمان تجاوز الفيتو الرئاسي على القوانين من خلال التصويت بأغلبية الثلثين، ولا يجوز للرئيس حلّ البرلمان إلا بعد الموافقة على ذلك من خلال استفتاء عام، وهو القيد الذي لم يواجهه مبارك بعد التعديلات التي أُجريَت على الدستور في العام 2007.
إذا كان البرلمان الذي يُنتخَب في ظلّ الظروف الراهنة مكوَّنًا أساسًا من أفراد حريصين على تملّق الحكومة، فربما يوافق على العديد من القوانين المثيرة للجدل التي أصدرها السيسي وسلفه، الرئيس المؤقّت عدلي منصور، ويبدو أن من المستبعد أن يتمكّن مجلس لا وجود فيه لكتل تصويت متماسكة من الاستفادة من السلطات الموسّعة المتاحة في الدستور، والتي تمكّنه من الناحية النظرية من فرض ضوابط على قوة السلطة التنفيذية، غير أن حكومة السيسي قد تجهد أيضًا لتمرير التشريعات الجديدة من خلال هذا المجلس، المكوَّن من مئات الأفراد، وكل واحد منهم يريد الحصول على شيء ما في المقابل بينما تخضع قلّة منهم إلى الانضباط الحزبي.
ثمّة سؤال آخر بشأن المستقبل يتعلّق بما إذا كان الرئيس السيسي سيكتشف في نهاية المطاف أن ثمّة فائدة لاستخدام السياسة المدنية، أي الحاجة إلى بناء، أو على الأقل مباركة، تأسيس حزب أو حركة أو ماكينة سياسية وطنية يمكنها حشد تأييد الرأي العام عندما يحتاج إليه، فقد كان مفاجئًا نوعًا ما أنه لم يكتشف مثل هذه الحاجة بعد انتخابه للرئاسة، وعلى الرغم من أن السيسي انتخب بأغلبية هائلة (97 في المئة) من الذين صوتوا، فقد كان عدم وجود ماكينة سياسية لتعبئة الناخبين يعني أن الإقبال الأوّلي كان ضعيفًا، ما يقلّل من أهمية حكاية شعبيته الهائلة، حيث أعلنت السلطات تمديد التصويت ليوم ثالث، وهو أمر لاسابق له، والواقع أن ثمة تقارير أشارت في ذلك الوقت إلى أن شخصيات سابقة في الحزب الوطني كانت حريصة على إبراز ضعف الإقبال على صناديق الاقتراع لإظهار أن السيسي لن يتمكّن من النجاح اعتمادًا على شعبيته وحدها وأنه كان في حاجة إلى مساعدتها.
على الرغم من ظروف انتخابه غير المريحة إلى حدّ ما، فضّل السيسي حتى الآن أن يترفّع على الخلافات، معتبرًا أنه لن يكسب ولن يخسر سوى القليل إذا حاول تنظيم المجال السياسي الوطني، وهو الأمر الذي ينطوي على تصنيف العديد من المصالح المتباينة. عندما التقى السيسي مع الأحزاب السياسية في منتصف يناير، يُقال إنه حذّرها من أنه إذا شعر الشعب المصري أنه ليس ممثَّلًا بصورة جيدة، فإنه قد يثور ضد البرلمان الجديد، في نهاية المطاف، قد يكون توزيع اللوم بسبب ما يُرجَّح أن يجري، وبما في ذلك ربما تعمّق الصعوبات الأمنية والاقتصادية، هو الغاية التي تسعى إليها الهيئات السياسية في مصر في الوقت الحاضر.
*نستخدم في هذه الورقة تعبير الوطنية والوطنيين للإشارة فقط إلى التيارات السياسية غير الدينية التي تركّز على أولوية الدولة الوطنية في مسألة الهوية، بالمقارنة مع الحركات الإسلامية التي تعتبر مرجعيتها الإديولوجية الرئيس “الأمة الإسلامية” وليس الوطن- الدولة.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط