“قرار الحكومة سحب دعمها لعمليات إنقاذ المهاجرين في المتوسط غير إنساني وغير مقبول لبلد متحضّر، والأسوأ أنه سيؤدي للمزيد من الوفيات، فرغم ادعاء الوزراء بأن إنقاذ مراكب الهجرة يشجّع على المزيد منها، إلا أن مواقف الحكومة الأخيرة ليست سوى احتواء لموجة معاداة الهجرة التي تعزز من فُرَص حزب استقلال بريطانيا، وهو ما يجعلها في موقف مشين، فنحن رابع أغنى بلد في العام ولا يشرفنا أن تتصرف حكومتنا من باب الخوف من حزب يميني، كما أن لبريطانيا تاريخ طويل ومشرِّف في مساعدة المحتاجين، ولذلك فإننا نُطلق تلك الحملة لجمع التوقيعات لمطالبة الحكومة بالتراجع عن قراراتها، ونطلب منك أن تضع اسمك معنا.”
بهذه الكلمات انطلقت حملة “الأمل لا الكراهية” البريطانية في دعوتها لترسيخ عمليات الإنقاذ الإنسانية لكل من يتعرض للخطر على سواحل أوروبا الجنوبية أثناء محاولات الهجرة غير الشرعية، واضعة الاعتبارات الإنسانية قبل أي شيء، وضاربة عرض الحائط اعتراضات السياسيّين على ما قد تمثله عمليات الإنقاذ تلك من تشجيع للمزيد من المهاجرين، أو تعزيز لتيار اليمين المتطرف في الداخل الأوروبي بما يهدد فُرَص الليبراليين أو المحافظين التقليديين، والذي تنامى تأثيره في السنوات الأخيرة إثر مخاوف من تهديد المهاجرين لثقافة وإرث أوروبا، والتي تستجلب المهاجرين منذ عقود نتيجة تضاؤل تعدادها السكاني.
في الواقع، يقول كثيرون أن الحوادث المتزايدة مؤخرًا، والتي يُلام دومًا فيها إما تهوّر المهاجرين أو أنانية من يهرّبونهم مقابل الأموال، هي نتاج لسياسات الاتحاد الأوروبي، والتي سدت كافة السبل الطبيعية أمام العرب والأفارقة الهاربين من جحيم الصراعات المسلحة والفقر والملاحقة السياسية من قبل الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، مما يدفعهم إلى المجازفة بأرواحهم والاتجاه نحو مراكب مزدحمة ومميتة قد لا تصل بهم إلى سواحل أوروبا كما يريدون، بل ترديهم غرقى.
يحاول البعض في أوروبا أن يفرّق بين المهاجرين لأسباب اقتصادية، بحثًا عن العمل وفرص المعيشة الأفصل، واللاجئين الذين تكون حالاتهم أكثر إلحاحًا نظرًا لتعرّضهم لخطر سياسي أو لعدم قدرتهم على البقاء في مواطنهم لانعدام الأمن، والذين يكفل لهم القانون الدولي حق اللجوء، ولكن التفريق بينهم في الحقيقة أمر شديد الصعوبة، على سبيل المثال، تقول ناتاليا باشكيفيتش، الباحثة بالأنثروبولوجيا ودراسات اللاجئين والسياسات الاجتماعية، والتي عملت لسنوات في مجال الهجرة ببريطانيا ومالطا، أن كل من كانوا يصلون لشواطئ مالطا كانوا يطلبون اللجوء، بغض النظر عما إذا كان ادعاء اللجوء ذلك يتفق مع التعريفات الرسمية أم لا، والتي لا تتضمن الفقر المدقع رُغم كونه سببًا إنسانيًا ملحًا في النزوح.
كم تايتانِيك تكفي لتتحرّك أوروبا؟
كانت مهمة مارِه نوستروم البحرية التي قادتها وموّلتها إيطاليا تقوم بعمليات ممتازة، إذ أنقذت حوالي 140،000 شخص العام الماضي فقط، وكانت المهمة قد بدأت في أكتوبر 2013 بعد كارثة لامبيدوسا، حيث غرق حوالي 400 أفريقي، معظمهم من إريتريا، في عرض البحر، بيد أن نجاحات المهمة لم تكن كافية لإبقائها مستمرة، إذ قررت إيطاليا تحت ضغوط أزمتها الاقتصادية، وأيضًا دعاوى انتقاد عمليات الإنقاذ التي تجذب المهاجرين، أن تلغي المهمة، لتحل محلها المهمة تريتون Triton الصغيرة، والتي تعمل تحت إشراف وكالة فرونتِكس Frontex، وهي وكالة مسؤوليتها الأساسية حماية الحدود لا إنقاذ أرواح البشر.
من جانبها رفضت بريطانيا تمويل المهمة بنفس الحجة؛ أن الإنقاذ سيشجّع المزيد من الهجرة، وهو موقف متوقع من حكومة ديفيد كاميرون المحافظة، والتي تحاول ألا تفقد المزيد من أصوات لصالح حزب اليمين المتطرف، استقلال بريطانيا UKIP، والذي يعادي المهاجرين صراحة، حيث صرّحت الحكومة البريطانية أنها ترفض المشاركة في المهمة تريتون لأن إنقاذ المهاجرين غير الشرعيين سيكون حافزًا لغيرهم، وهو ما تصفه باشكيفيتش بأكثر تصريح رسمي غرابة وبجاحة سمعته طوال عملها في مجال الهجرة واللجوء على مدار أكثر من عقد.
تضيف ناتاليا أن الكثيرين هنا يخشون اللاجئين في الحقيقة لأنهم يخافون أن يلقوا مصيرهم يومًا ما، لا لأنهم ينبذونهم، “نحن نحاول أن نهرب دومًا من حكايات الرهبة والذعر التي يحملونها معهم، وحتى الكلمات التي نستخدمها للإشارة لهم تعتبر كلمات غير إنسانية، فكلمات مثل “شعوب المراكب” أو “مجموعات المراكب” كلمات تُفقِد مسألة المهاجرين كونها مسألة إنسانية بالأساس، وللمقارنة هنا لننظر ماذا سيكون رد فعل المواطنين في الغرب لو تمت الإشارة لمن ماتوا في حوادث الطائرات بـ”شعوب الطائرات” أو “مجموعات الطائرات”، بل أنا أعتقد أن الإشارة دومًا لفكرة المركب القادمة من البحر يوحي للأوربيين بشكل ما بأن القادمين من هناك غزاة بشكل أو آخر”.
“لقد شهدت بعيني كباحثة أنثروبولوجية معاناة المهاجرين، والذي كان لجوءهم للهجرة غير الشرعية بهذه الطرق الخطيرة القرار الوحيد المتاح لهم، وقد سمعت ممن نجا منهم في البحر ووصل لمالطا، حيث كنت أعمل، حكايات تُدمي القلب عن فقدان الأهل والأصدقاء.. إنه لمن الضروري أن نبتعد في خطابنا عن لغة الأرقام حين نأتي على ذكر مسألة الهجرة، وأن ننظر للقصص الإنسانية الحقيقية خلف كل شخص يستقل واحدة من تلك المراكب ويهرب من بلده الأم،” هكذا تقول ناتاليا.
بعد غرق أكثر من ألف في البحر المتوسط وبحر إيجة على مدار الأسبوع الماضي، بما في ذلك النساء والأطفال، دعت منظمة أمنِستي إنترناشونال في بريطانيا إلى اتخاذ مواقف أكثر إنسانية تجاه الأزمة، حيث قالت كيت ألِن المسؤولة بالمنظمة، في محاولة للإشارة إلى الفارق بين الاهتمام الضئيل بالمهاجرين في مقابل الاهتمام الإعلامي الضخم الذي حظيت به حادثة الطائرة الألمانية جِرمانوينغز، “ما حدث خلال الأيام الماضي يكافئ غرق خمس طائرات كاملة محمّلة عن آخرها بالركاب، لو كان هؤلاء مسافرين في رحلة عوضًا عن كونهم مهاجرين، لربما رأينا ردود أفعال مختلفة تمامًا.”
بينما تنعقد القمة الطارئة لوزراء الاتحاد الأوروبي لمناقشة مسألة الهجرة بعد الحادثة الأخيرة، والتي راح ضحيتها حوالي نصف من قضوا في حادثة التايتانيك الشهيرة، من المُنتَظَر أن تتغيّر بعض المواقف، لا سيما مواقف السويد وألمانيا اللتين فتحتا بلادهما أكثر من غيرهما أمام اللاجئين من صراعات الشرق الأوسط، وبالأخص السوريين، في حين يُنتَظَر من دول الجنوب الضغط للحصول على تمويل أكبر في دعم مهمات الإغاثة، بينما سنرى على الأرجح التزام بنفس المواقف القديمة من جانب بريطانيا والدول التي يتنامى فيها اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين، خوفًا على الحسابات السياسية الداخلية.
من ناحيته، صرّح فرانسوا كيبو، المسؤول بالأمم المتحدة بالأمس، بأن دول العالم المتقدم سيتوجب عليها استيعاب مليون لاجئ/مهاجر سوري على مدار الخمس سنوات المقبلة، وأنها قادرة على استيعاب هذا العدد على عكس ما تدّعي، “يمكننا التعامل مع رقم كهذا، وستكون هناك التزامات طويلة يجب أن نعمل عليها معًا بدلًا من ترك كل هؤلاء البشر في أماكن لا مستقبل لهم فيها، والقول بأنه ما من وظائف كافية لهم ليس صحيحًا، فهناك الآلاف من الوظائف في قطاعات البناء والزراعة بانتظار موظفين، وكل هؤلاء يأتون إلينا عبر البحر لأنهم يدركون تمامًا أن هناك وظائف.”