منذ اختراع التلسكوب عام 1609، شكّل الغلاف الجوي للأرض أحد أبرز العوائق أمام النظر إلى أعماق الفضاء بوضوح تام، وهو ما دفع الكثير من علماء الفيزياء والفلك إلى التفكير في وضع تلسكوب في الفضاء مع مطلع القرن العشرين، ليحلّق بعيدًا عن اضطرابات الجو في الأرض، ويدور في مدار بعيد حول الكوكب مثله مثل القمر، بينما يقوم بإرسال الصور والإشارات التي يلتقطها إلينا لاسلكيًا.
بدأت دراسة هذه الفكرة جديًا عام 1946، حين كتب الفلكي الأمريكي ليمان سبيتزر بحثًا عن جدوي وتحديات بناء تلسكوب فضائي لأول مرة، وهو ما تبعه إطلاق ناسا لمرصد صغير عام 1962 في مدار حول الأرض، ثم تحقق فكرة التلسكوب الفضائي بالكامل بعد بضعة عقود، بإطلاق تلسكوب هابل الفضائي في الرابع والعشرين من أبريل عام 1990، بعد دراسات وبحوث طويلة، ومشاركة من وكالة الفضاء الأوروبية إيسا.
سُمي التلسكوب على اسم عالم الفيزياء والفلك الأمريكي إدوين هابل، والذي أشعل ثورة في مجال دراسات الفضاء والكون في عشرينيات القرن المنصرم حين اكتشف أن الكون يتمدد بدراسة المجرات وكيف تبتعد عن بعضها البعض باستمرار، في دليل واضح على اتساع المساحات الموجودة بينها، ولكن وفاته عام 1953 بالطبع لم تتح له معاصرة تلسكوب هابل، والذي أثبت كل ما رآه من الأرض بإمكانيات متواضعة آنذاك.
رحلة هابل: من العثرة الأولى إلى الصور الأولى
رواد الفضاء في إحدى مهام الصيانة لتلسكوب هابل
لم تكن رحلة هابل سلسة كما قد يظن البعض، إذ جاءت الصدمة الأولى للعلماء فور تشغيله في مايو 1990 عندما أظهرت الصور الأولى للمجرات خللًا رئيسيًا في مرآة التلسكوب كان يمكن تفاديه بسهوله قبل إطلاقه، وهو عيب نتج عن عطب في جهاز الاختبار البصري الذي استخدمته إحدى الشركات المساهمة في المشروع، حيث يتم عبر هذا الجهاز اختبار شكل المرآة وموقعها الصحيح داخل التلسكوب.
شكل هذا الخلل صدمة لعالم الفلك والفضاء، وأحبط الكثيرين لوهلة، ولكن ليس طويلًا، إذ قررت ناسا أن تضع مهمة لإصلاح التلسكوب على جدول أعمالها، بإرسال رواد فضاء ليقوموا بإصلاح الخلل، لتنطلق بالفعل مهمة الصيانة الأولى بعد عمل دؤوب جمع مهندسين وتقنيين ومتخصصي بصريات وضعوا خطة دقيقة لإصلاح التلسكوب سُميت بـ”كوستار” COSTAR، وهي مهمة استمرت على مدار عشرة أيام عام 1993 ظل فيها رواد الفضاء يتجولون حول التلسكوب منفذين الخطة بدقة.
“كدمات” على سطح المشترى (أسفل الكوكب) بعد اصطدام مذنّب شوميكر به عام 1994
مع مطلع العام 1994، كان الخلل قد تلاشى تمامًا، لتبدأ مفاجآت هابل في الإفصاح عن نفسها واحدة تلو الآخر، وكان أولها اكتشاف مذنّب شوميكر-ليفي 9، والذي وجده العلماء على مقربة شديدة من كوكب المشترى، ليلتقط هابل سقوط المذنّب المروّع على سطح المشترى وتفتته إلى أجزاء، والـ”كدمات” التي أحدثها في الكوكب، وكانت تلك أول مرة نرى فيها بأعيننا صورًا لعملية اصطدام مذنّب بكوكب.
في العام التالي، 1995، التُقِطَت واحدة من أشهر الصور التي عرفها علم الفلك إلى الآن، حيث قام الفلكي الأمريكي جِف هِستر مع فريقه بجامعة أريزونا بتركيب صورة لسديم النسر، وهي مجموعة من السُحُب الغازية والغبارية التي تشهد تشكّل النجوم، بالإضافة إلى عنقود من النجوم، وقد اشتهرت الصورة على نطاق واسع باعتبارها “عواميد الخلق” Pillars of Creation، نظرًا لطولها واحتوائها على الآلاف، وربما الملايين، من العمليات المستمرة في تشكّل النجوم التي قد تحتوي مستقبلًا على حياة مماثلة لكوكبنا.
صورة سديم النسر الشهيرة، أو “عواميد الخلق” كما تُعرَف
هابل وثورة فهمنا للكون
رُغم تلك الصور المذهلة، كانت مهمة هابل الرئيسية، والتي استحوذت على عقول علماء الفيزياء والكون، هي قياس معدل تمدد الكون الذي اكتشفه هابل، وتحديد “ثابت هابل” بدقة، وهو الرقم الذي يشير بالضبط لمعدّل تمدد الكون، وبالتالي التمكّن من تقدير عُمر الكون بشكل دقيق، وهو ما نجح فيه التلسكوب بالفعل، حيث توصل العلماء مع مطلع القرن الواحد والعشرين إلى معدّل تمدد يبلغ 72 كيلومتر في الثانية لكل مليون فرسخ (تم تحديثها مؤخرًا لـ71)، وأن عُمر الكون هو حوالي 13.7 مليار سنة (تم تحديث هذا الرقم مؤخرًا إلى 13.8 بعد بحوث تلسكوب بلانك الأوروبي).
بالإضافة إلى ذلك، كان هابل محوريًا في اكتشاف وتحليل المستعرات البعيدة Supernovae (المستعرة هي الضوء والطاقة المتولدة عن نجم بعد موته وانفجاره) عام 1998، وهي دراسات أوصلتنا إلى أن الكون لا يتمدد فقط، بل إن معدل تمدده يتزايد، وهو ما يشير إلى مصدر مجهول تأتي منه هذه الطاقة والتي سمّاها العلماء الطاقة المُظلمة، وقد حصل العلماء المسؤولون عن هذه البحوث على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2011.
صورة لعنقود باندورا من المجرات، والبُقعة الملونة باللون الأزرق تشير لمكان تواجد المادة المُظلمة
لم تكن الطاقة المظلمة التي تسري في الكون، وتعمل وكأنها “منفاخ كامن” يطلق العنان لتمدد الكون السريع، هي الاكتشاف الوحيد لهابل، حيث ساهم التلسكوب أيضًا في البحوث الخاصة بما يُعرَف بالمادة المظلمة، وهي مادة مماثلة للمادة المرئية التي نتعامل معها يوميًا ونراها في الفضاء، والمجسّدة في العناصر الكيميائية، ولكن مكوناتها الأساسية مجهولة لنا، ولا تتفاعل أبدًا مع المادة العادية، وهي موجودة في الكون بكميات تفوق المادة العادية حوالي أربعة مرات، وقد تمكن هابل من تعقب تأثير تلك المادة، والتي تُحدِث آثارًا جاذبية مثلها مثل أي جسم ثقيل مكون من المادة العادية، ونجح في رسم خرائط لتواجدها.
بالطبع لم يفت العلماء توجيه استخدام التلسكوب نحو الثقوب السوداء، واحدة من أكثر المواضيع إثارة في عالم دراسات الفيزياء والكون، وقد نجح هابل في هذا الصدد بمسح عدد كبير من تلك الثقوب، ليثبت العلماء بدراساتهم أن كل المجرات تقريبًا تحتوي على ثقب أسود في مركزها بحجم يعتمد على كمية النجوم والكتلة الموجودة فيها، كما أنتج لنا هابل ما يُعرَف بالمجالات العميقة Deep Fields، وهي سلسلة من الدراسات لأعماق الكون، والتي نجح عن طريقها هابل في كشف معدلات تشكّل النجوم في مراحل الكون المختلفة بتفصيل شديد لم يكن متاحًا من قبل، ورصد مجرات وليدة بعيدة تجاوز عددها المائة مليار مجرة.
ما بعد هابل
صورة المجال العميق لهابل، والتي تظهر المئات من المجرات في أعماق الكون البعيد، والتي من المتوقع أن تتجاوزها صور تلسكوب جيمز ويب القادم
“رُغم مرور ربع قرن على إطلاقه، يظل هابل أعظم تلسكوب إلى اليوم نظرًا لصوره شديدة الاستقرار والوضوح، وقدرته على التقاط صور بأطوال موجية من الضوء غير متاحة من الأرض بالكامل، مثل الأشعة فوق البنفسجية التي يحجب الغلاف الجوي جزءًا منها، وهو ما كان كافيًا ليُحدِث هابل ثورة في معرفتنا عن الكون، وهي ثورة مستمرة حتى الآن،” هكذا يقول الفلكي أفي ماندِل، الباحث بمركز جودارد للفضاء التابع لناسا في ولاية كاليفورنيا.
بالطبع، لا يعني استمرار إنجازات هابل أن العلماء سيكتفون به، إذ يتطلعون للمزيد من التقدم في دقة وحجم التلسكوبات الفضائية، والتي يُتاح ماليًا تصنيعها وإنتاجها مقارنة بما تنفقه المؤسسات الأمريكية على مجالات أخرى مثل الدفاع، فتلسكوب هابل على سبيل المثال تكلّف في تصنيعه ومهمات إصلاحه كلها وتسيير دفته حتى الآن ما كانت تكلّفه الحرب الأمريكية على العراق كل أسبوعين (!)، ولنا أن نتخيل إذن كم تلسكوب من حجم هابل كام يمكن تصنيعه بتوفير تلك الأموال، ناهيك عن المجالات الأخرى التي احتاجت لميزانية ضخمة كتلك مثل البنى التحتية والخدمات العامة.
لذلك، يتأهب علماء الفيزياء والفلك حاليًا لإطلاق تلسكوب فضائي آخر، هو تلسكوب جيمز ويب James Webb Space Telescope (JWST)، والذي يتوقع أن ينطلق لمداره حول الأرض في أكتوبر 2018 ليقدم لنا الجيل الثاني من التلسكوبات الفضائية، ويتيح صورًا ودراسات لم يتحها حتى تلسكوب هابل، إذ يفوق قطر مرآته مرآة هابل مرة ونصف، وهو مشروع تشارك فيه وكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء الكندية، ويجري تصنيعه منذ منتصف التسعينيات ليطأ أرضًا لم يطأها تلسكوب من قبل: النظر في مراحل مبكرة جدًا من الكون عن طريق الغوص إلى أبعد ما يكون، والتقاط صور لأقدم نجوم ومجرات نستطيع الوصول لها في الكون.