في الأيام القليلة الماضية و خلال اجتماعي مع أكثر من جمعية إغاثية كان جل الحديث ” من أين نجمع التبرعات الآن ؟ “
الكل يشعر بالأزمة ، يشعر بالواجب ، أهل في الداخل بحاجة إلى غذاء و دواء و كساء ، مشاريع يجب أن تستمر ، شهداء خلفوا عائلات وراءهم ، معتقلين دفعوا الغالي و النفيس ليخرجوا من الجحيم و هم بحاجة إلى من يدعمهم ليقفوا على أرجلهم ، عمليات نادرة مكلفة في الخارج ، حالات سرطان لا معالج لها ، حالات ولادة في دول الجوار ، أهالي بحاجة لشقة تؤويهم في إربد و طرابلس و الريحانية ، أطباء في مشافي الداخل بحاجة لإنترنت فضائي مكلف ليكون صلة وصلهم الوحيدة بالعالم ، و آخر ما وصلني طفلة عمرها ٣ سنوات أصابها الصمم في أذن الوحيدة التي تعمل جراء القصف المتواصل فصارت بحاجة إلى زرع قوقعة في أذنها الأخرى بتكلفة تقارب ٤٠ ألف دولار !
مصائب و حاجات لا تنتهي … و فوق ذلك كله عمل محفوف بالمخاطر من كل اتجاه ، فالذي يجمع المال يجمعه في بلد لا تسمح بجمعه و يهربه عبر مطارات لا تسمح بمروره و بنوك أقفلت الطريق في وجهه ، كل هذه تضعه في خطر الترحيل أو السجن أو التأديب …
و الذي يستلم المال لا يعلم من أين يأتيه الخطر … هل هو من نظام يعتقله … أو كتائب ” تشوّله ” … أو محتاجين يتهمونه باختلاسه و التعيش منه ؟
كنت قد كتبت منذ عام و نصف تقريباً أن أكبر خطر على العمل الإغاثي السوري هم السوريون أنفسهم ، استغرب البعض مني ذلك القول حينها … و لكني أراه اليوم أمامي واضحاً .
لا شك أن هناك تآمر دولي واضح على السوريين لإخضاعهم و تجويعهم و كسر عزيمتهم ، فأمريكا التي تتبجح بقولها أنها دعمت السوريين بمليار دولار قامت في الوقت نفسه بمنع عشرات المليارات من الوصول إلى السوريين عبر قوانين هي وضعتها و هي تراقبها و هي تعاقب من يتجاوزها أشد العقاب .
لا شك أيضاً أن هناك تبلد حسي عربي و إسلامي تجاه ما يحدث في سوريا و لكن اتضح لي أن التبلد هو أساس الطبيعة البشرية … فهل تعلمون أن هناك أكثر من مليار مسلم حول العالم يعيش على دولار أو اثنين يومياً فقط ؟ من رأى هؤلاء من قبل ؟ السوريون لم يروهم بلا شك ! … بل علينا أن لا نبتعد كثيراً ، فالمعضمية التي يموت أطفالها من الجوع لا تبعد عن قلب دمشق العامر بالمقاهي و المطاعم سوى دقائق قليلة بالسيارة .
إن أردنا الوصول إلى حل فعلينا النظر في أنفسنا و أعماقنا …
عندما بدأت الأزمة هب الكثيرون لدعمنا و التخفيف عنا … فماذا فعلنا بالمقابل ؟
هتافات متواصلة على التلفاز عبر الفيسبوك ” ما شفنا شي ؟ ما عم يوصل شي ؟ فلان نصاب ، فلان لص ، فلان ركب سيارة ، فلان نزل في فندق ، الجمعية الفلانية استملت كذا و كذا و لم يصل شيء ، الشيخ الفلاني استلم المبلغ الفلاني ، و الله أعلم ماذا حل بالمال ؟ “
كلها أو معظمها اتهامات ظنية نادراً ما دعمت بدليل … فماذا كانت النتيجة ؟
وصم العمل الإغاثي السوري و تلوث اسمه … فصار المتبرع يتوجه إلى فقراء حيه و بلده و إفريقيا و جنوب شرق آسيا ، فهناك المليارات من البشر الذين بحاجة إلى مساعدة أيضاً ، و سيصل المال على الأغلب !
عندما حاولت الجمعيات توثيق ما تصرفه … قيل لها … كفاكم رياءً ،
قيل لها … هذا مال الثورة و ليس مالكم لتتحكموا بطريقة صرفه ،
قيل لها … اذا بدكم تعطونا المال عطونا … بس مافي توثيق … و الله الغني … ، الله الغني حقاً و هو المغني و المنعم … و لكن الجهة الإغاثية عندما تجمع المال عليها أن توثق لمانحها أين ذهب المال لتحمي نفسها …
فوقعت هذه الجمعيات في حيرة من أمرها … من يتبرع لها يطالبها بطريقة صرف و توثيق معينة و من يستلم قد لا يستطيع تنفيذ هذه الشروط او قد لا يرغب . ففترت العلاقة بين الأطراف مع مرور الوقت و تعب الأعصاب .
لا أريد من هذا المقال أن أشيع التشاؤم و اليأس … بل أرغب في أن نبحث عن حل … مصيبتنا ستطول و علينا أن نجد حلولاً بعيدة المدى …
الحل برأيي يبدأ بالتوقف عن الاستجداء … و خاصة من الدول العظمى … فهي لن تعطي إلا الفتات و ستصرفه على مشاريع معينة استراتيجية لها و سوف تدفعه مباشرة عبر وسطائها في المنطقة و لن تعطيه للجمعيات الأهلية السورية .
لذلك علينا أن نتوجه إلى الجاليات السورية المغتربة حول العالم فهي تقدر بالملايين ، نسوق لها المشاريع الصغيرة التي لا ترهقها و لا تشكل عبأً على ميزانيتها ، مشاريع تكلف مائة دولار شهرياً لكل عائلة ، هذه المشاريع يجب ان تكون في غاية الشفافية بحيث يستطيع ان يرى المتبرع نتائجها الواضحة أمامه … عليه أن يشعر أنها تذهب إلى طفل أو امرأة او شيخ يعرفه أو يتعرف عليه … عليه أن يشعر أن هذا الطفل او تلك المرأة قد تنام الليلة و هي تشعر بالبرد و أنها لم تستطع الاستحمام منذ أسبوعين … عليه أن يتخيلها تنظر إلى أطفالها الجائعين النائمين بعيون دامعة ، عليه أن يستطيع رؤية كل ذلك ، عليه أن يشعر و كأنه زار أولادها في خيمتها عبر جمعياتنا ، عليه أن يشعر أن المال لن يهدر ، لن يضيع ، عليه أن يشعر و كأنه يفعل كما فعل الفاروق عندما حمل اللحم على ظهره و أشعل النار بنفسه ليطبخه للأطفال الجائعين في البادية …