من منّا لم يسمع بالقدس؟ ومن منا لم يقفز في ذهنه صورة القبة الذهبية عندما يُنادى باسمها؟ كم مُحب في هواها حار، وكم سؤال عن موعد لقاها دار؟ فهلّا مشيتم معي إليها؟!
عند ولوجك الأول إلى المدينة، وعلى واجهة الباب، أربعة أسود لازالوا على وثبتهم الأولى من يوم أن استخلفهم الظاهر بيبرس عند الداخلين والخارجين، المحاربين والحاملين الرايات البيض، أهل المدينة أو من أهّل نفسه فيها رغمًا عن حجارتها، هو باب الأسباط، مدخلك الشرقي للبلدة القديمة، يضاف له ثلاثة عشر بابًا بعضها مفتوح والآخر مغلق، أكبر تلك الأبواب وأكثرها ازدهارًا هو باب العامود أو باب دمشق، الذي يعدّ المدخل الرئيسي للبلدة القديمة، بحيث يصلك بكافة أسواقها: خان الزيت، العطارين واللحامين، وتصل منه للمسجد الأقصى عبر طريق الواد، يحدّ المدينة سورٌ قديم بناه السلطان العثماني سليمان المعظّم في الفترة التي حكم فيها القدس من 1520-1566على أنقاض سورٍ كان قد أقامه الرومان، وداخل حدود السور هناك عدة أحياء: أكبرها الحيّ الإسلامي الذي يحيط بالمسجد الأقصى، ثم يتبعها حيّ النصارى فحيّ المغاربة ثم حارة الشرف التي احتلها اليهود بعد النكسة وحولوها لحارة اليهود، وأخيرًا حيّ الأرمن وهو أصغر الأحياء، وفيه تقع قلعة القدس أو قلعة “داوود” التي بُنيت من أيام الملك هيرودوس والتي مازالت تحتفظ بطراز بنائها المملوكي الإسلامي على الرغم من محاولات تهوديها بعد احتلال المدينة في العام 1967.
ليست القلعة وحدها من هوّدت وهوّد اسمها معها، فكل حجرٍ في القدس اليوم بات معرَضًا للتهويد، فما قد تشاهده اليوم إرثًا إسلاميًا في أحد الأحياء، تعود إليه في اليوم الثاني وقد انقلب إلى مقام لصديق ما قَدِم إلى البلاد قبل مئات السنين، تواجه المقدسات الإسلامية اليوم، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك حملات تهويد وتزييف ضخمة للمعالم بل والمناداة بهدمها، وقد وصل الأمر ببعض المؤسسات العاملة لأجل إعادة بناء “الهيكل” بالتصريح في هدم الأقصى واستبدال صوره في الإعلانات الترويجية بصورة للهيكل، عدا عن بدء تنفيذ مخطط التقسيم الزماني والمكاني بين اليهود والمسلمين، الذي أصبح واقعًا مريرًا على أهالي الداخل الفلسطيني والقدس، بحيث يسمح لعشرات المستوطنين يوميًا بالصلاة فيه ساعات الصباح والظهر، ويضيّق على المسلمين ويُمنع كثيرون من دخوله في هذه الأوقات وتُصدر أوامر إبعاد عنه وتفرض الغرامات المالية، بينما في ساعات العصر ينقلب الأمر ويسمح للمسلمين ويمنع المستوطنون.
أما التقسيم المكاني فهو أن يكون ما تحت الأقصى – شبكات الأنفاق الضخمة – لليهود، وما فوقه للمسلمين، وما يشرعن مثل دعوات التقسيم تلك، هو ازدياد حدة الخطاب اليميني في الدولة، وترأس بعض المتدينين لوظائف مهمة في كافة الوزارات؛ فقد سيطرت وزارة السياحة الإسرائيلية حتى الآن على ما يقارب المائة من مصليات ومساجد إسلامية في المدينة وحولتها إلى كُنس إسرائيلية وعمدت إلى تسيير الرحلات اليهودية إليها من الداخل المحتل والخارج، باعتبارها جزءًا من التراث اليهودي، ناهيك عن عشرات المخطّطات الأخرى التي ترصد لها ملايين الشواكل بهدف تغيير الوجه العربي والإسلامي للمدينة، وعلى سبيل المثال، فقد صادقت بلدية الاحتلال في وقت سابق على مخطط ترميم كنيس سيقام في الحي اليهودي (حارة الشرف المحتلة) على بعد حوالي 200 متر من المسجد الأقصى، وعلى أنقاض مصلى إسلامي مصادر، هذا الكنيس يتكون من ثلاث طبقات فوق الأرض وقبة ضخمة، وسيكون ارتفاعه عن الأرض نحو 23 مترًا، فيما تصل تكلفته إلى حوالي 13 مليون دولارًا، إنجازٌ آخر لبلدية الاحتلال، هو الانتهاء من المرحلة الأولى مما يسمى مخطط “استحداث ساحة البراق” بتدشين شبكة الأنفاق على تخوم المسجد الأقصى، لتفتحها أمام السياح الأجانب واليهود بينما حظرت على الفلسطينيين دخولها، وتعكف البلدية هذه الأيام على دراسة ووضع مخطط عملاق لتنفيذ مشروع تهويدي متعدد ومتفرع، يهدف لإقامة موقف سيارات وحافلات تحت الأرض، قبالة منطقة باب العامود وكذلك إقامة دوّار فوق موقف السيارات المذكور، وبناء مطلة سياحية تطل على القدس القديمة في الموقع ذاته، وتمرير مسار للمشاة بمحاذاة سور القدس القديمة يمتد من منقطة باب عبد الحميد وحتى باب الساهرة، وطالت هذه الحملات تدمير القصور الأموية التي بناها الخليفة عبد الملك بن مروان، والتي تحيط بالمسجد الأقصى وتم تحويلها إلى مطاهر للهيكل المزعوم ومسارًا توراتيًا ضمن أضخم مشاريعهم لتهويد محيط المسجد الأقصى وهو مشروع الحدائق التوراتية.
لم تقتصر الممارسات التهويدية على المقدسات الإسلامية للمدينة فقط، فقد حاولت سلطات الاحتلال الضغط على كنيسة القيامة لدفع فواتير المياه التي تبلغ ملايين الشواكل، وكما هو معروف، فالكنيسة كما سائر أماكن العبادة المسيحية، كانت معفاة من دفع الضرائب منذ العهد العثماني وحتى منذ الاحتلال الإسرائيلي، ولكن شركة “جيحون” التي انتقلت إليها مؤخرًا سلطة شركة المياه غيّرت هذا النهج، ووصل الأمر بها إلى الحجز على رصيد الكنيسة الأرثوذكسية، وهي إحدى الطوائف الثلاث المعنية بخدمة كنيسة القيامة، من أجل الضغط عليها لدفع الفواتير، وفيما يبدو فإنّ عدد المسيحيين في القدس يتجه إلى التناقص مع وصول عددهم إلى 5000 عام 2012.
ويُقابل هذه الحركة التهويدية في البلدة القديمة ومحيط المسجد الأقصى، سعي المؤسسة الإسرائيلية لزيادة أعداد المستوطنات في القدس الغربية وتوزيع المئات من إخطارات الهدم على المواطنين المقدسيين في القدس الشرقية، وتعجيز كل من يسعى لامتلاك رخصة بناء بيت أو شراء قطعة أرض، الأمر الذي يبدو مستحيلاً هذه الأيام عقب قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الأخير بسريان وتطبيق قانون أملاك الغائبين لسنة 1950 في القدس المحتلة – هذه الأملاك التي تعود إلى الفلسطينيين العرب من سكان الضفة الغربية – والتي أشارات أنه يمكنها استخدام قوانين أخرى ضمن هذا السياق، منها قانون امتلاك الأراضي لسنة 1943 أو قانون التنظيم والبناء لسنة 1965 وذلك لمنع أي انتقاد لعملها في نقل هذه العقارات ليهود من دون إذن أصحابها.
أما إنسان القدس العربي، فلا يمرّ يوم واحد عليه إلا واعتقال هنا – بمعدل اعتقالين أو ثلاثة يوميًا – أو اعتداء هناك، تضيق به السبل في الزواج، والسكن والاستقرار، فقد بلغت نسبة السكان المقدسيين الذي هم تحت خط الفقر إلى 70%، عدا عن قرارات الإبعاد عن المسجد الأقصى، مصادرة الممتلكات، الضرائب الباهظة التي يدفعها أهالي القدس للسلطات الإسرائيلية، قمع المظاهرات والاعتداءات حتى على من يصوّر الحدث وينقله للعالم، إما بقنابل صوتية أو استهداف مباشر أو اعتقالات.
هذه هي القدس إذن .. لم تعد أبدًا كما حدثكم عنها الأجداد، فقد أخلي طريق المجاهدين فيها من مجاهديه، ومنع من دخولها من نوى أن يكتب مؤلّفاته مثل الغزالي فيها، ضُيقت أسواقها ودُنست زواياها وهُدمت مقدساتها، وبات من الصعب الحديث عن لذة كعكها وجمال آثارها وجلال أزقتها، لقد أصبحت كلها دروبًا لآلام المسيح وأحزان محمد، دروبٌ انتهت بجندي على الباب منعني وإياكم من المشي إليها.