إلى نبيه،
فريد وفريدة،
بادرينو، وذاك الشاب الذي نحبه لسيرته ولا نحب نقده الفني، طارق عثمان.
Whiplash هي الجروح الناتجة عن ضربات مفاجئة ومتكررة، ويُستخدم هذا التعبير عند قيام أحد الأشخاص بضرب جبهته بحائط ما عدة مرات بسبب غضب شديد اعتراه، ومقطعا الكلمة يشيران إلى ضربات السوط وهي ضربات تتسم بالمفاجأة والتكرار أيضًا، إلا أن هناك معنى آخر يحمل نفس هذا المضمون لكن مع تخصيص الحالة وهو الـ musical whiplash؛ ويُقصد به الصدمة المتكررة التي تحدث للمستمع عند التنقل بين عدة مقاطع موسيقية مختلفة تمامًا وغير متجانسة، لذلك فهو اسم مناسب تمامًا لإيقاع المقطوعة التي عُزفت في الفيلم الذي يحمل نفس الاسم، إلا أن محور هذا المقال ليس الحديث عن فيلم Whiplash تحديدًا وإن كان الفيلم هو الدافع الرئيسي لكتابته.
يتألف أي منتج إنساني من عدة عناصر، أهمها هو المفهوم concept، بالإضافة إلى اللغة التي يُنتج بها هذا العمل، ومجموعة أخرى من العناصر التي تتضافر لتُنتج الشكل النهائي، والتي تختلف باختلاف المجال وطبيعة العمل نفسه، إلا أن المشترك الرئيسي الذي لا يختلف دائمًا هما عنصري المفهوم واللغة، يظهر المفهوم في الأعمال الفنية أو الفكرية أكثر مما يظهر في الأعمال التي تبدو موضوعية ولا تخضع إلا للحقائق العلمية، وإن كنت أعتقد بشكل شخصي أن الموضوعية هي من إنتاج المتخصصين، وليست أمرًا حتميًا مرتبطًا بمجال بعينه، هناك فيلم آخر تقاطع مع هذه الفكرة هو فيلم Birdman والذي يحمل اسمه عنوانًا فرعيًا على غرار الأبحاث العلمية وهو the unexpected virtue of ignorance، وهي جملة تعني “الفضيلة أو الميزة غير المتوقعة للجهل”، وقد ظهر فيه متخصص يحتقر بطل الفيلم لأنه ليس من أهل التخصص، قامت بذلك الناقدة المسرحية تابيثا محتقرة ريجان لأنه ممثل سينمائي وليس ممثلاً مسرحيًا من أهل برودواي.
ينظر البعض إلى هذا الفيلم باعتباره استنساخًا لفيلم البجعة السوداء Black swan بسبب التشابه الشديد في الكثير من تفاصيل الفيلم، وحتى أحد أكثر الأفكار مركزية، كإصابة البطل نفسه في سبيل إتقان عرضه لأعلى درجة ممكنة، إلا أننا نذهب إلى رأي آخر مخالف لهذه النظرة على الرغم من إقرارنا بوجاهة هذه الزاوية للنظر.
يمثل المفهوم الرئيسي للعمل المرحلة الأهم في مراحل إنتاجه، فهي التي ينبني عليها كل شيء يأتي لاحقًا، وبسببها يفقد بعض الفنانين أنفسهم إلى درجة الإصابة بالاكتئاب وأحيانًا الانتحار، كحالة الممثل هيث ليدجر على سبيل المثال، إلا أن هناك خلطًا كثيرًا ما يحدث بين ما يحمله الفنان من فكر ينطبع في كافة أعماله، وبين مفهوم العمل في ذاته بوصفه عملاً مفردًا، لذلك لا أحب قراءة النقد الذي يذكر تاريخ المخرج ويقارن بين أعماله كلها، مستخرجًا السمات المشتركة بينها وتفسير لغته من خلالها، كالقول بأن فيلم ما أو لوحة ما تحمل أفكارًا إلحادية! حسنًا إذا كان الصانع ملحدًا بالفعل فما الذي يجب أن نتوقعه في منتجه! بالتأكيد سيحمل أفكارًا إلحادية، على هذا المنوال تم تأويل لجوء كريستوفر نولان مثلاً إلى وضع نظريات فزيائية نظرية في المركز من غالبية أعماله إلى أن الفيلم يناقش الحداثة أو ما بعد الحداثة أو مركزية الأديان إلى آخر هذه العناوين والأفكار العامة، أو تأويل استخدامه سمة متكررة في كل أفلامه بمعنى محدد، ثم مناقشة الفيلم بالاعتماد على هذا التأويل، مثل ملاحظة عرضه لمستوى رأسي يتعامد على مستوى الحياة الذي نتحرك فيه كما حدث في فيلم Inception في مشهد طي المدينة ومشاهد أخرى من بقية أفلامه، ثم تفسير مشهد الموجة المرتفعة في فيلمه الأخير Interstellar بالاعتماد على ذلك، على الرغم من أن هذا المشهد قد يكون خارج السياق أو غير مفهوم وواضح في فيلم بعينه على العكس من فيلم آخر، لذا أعتقد أنه من الخطأ في نقد الأعمال الفنية معرفة الفنان قبل المشاهدة، فإذا كانت الأفكار المعروضة مفتعلة أو غامضة في سياق العمل نفسه؛ فسيصعب تمييز ذلك إذا كنت أشاهده بينما أستحضر لغة المخرج التي أعرفها جيدًا، هكذا ينصب التقييم على الفنان وليس الفن.
وهكذا فإن كل فيلم له مفهومه المركزي الذي يقع في محوره، وتقوم كل تفاصيل الفيلم على الإشارة إليه بوصفها لغته، وما نقصده باللغة هو الفكرة الإجرائية المرتبطة بكيفية استخدام الأدوات الخاصة بالمجال في خلق قصة أو صورة أو لوحة أو سيناريو، تقوم هذه الأدوات بعرض مفهوم مركزي يتسم في الغالب بكونه فكرة نظرية، اللغة هي قصة الفيلم وصورته وموسيقاه وكل عناصره، التي تدور حول المفهوم النظري للفيلم وتساعد بتكاملها على تحديد هذا المفهوم والإشارة إليه، ولإيضاح هذه الفكرة بشكل أفضل سأقوم باستخدام مثال لفيلم قصير للمخرج التركي حسن تولجا بولات.
انتشر هذا الفيلم على موقع فيسبوك بشكل كبير في سياق الدعوة لفعل الخير، حيث يبدو المفهوم الرئيسي للفيلم هو أن الخير يدور دورة كبيرة يترك خلالها آثاره على من يمر بهم ليعود مرة أخرى إلى الفاعل الأساسي، إلا أن هذا غير صحيح، فالمفهوم الذي يناقشه الفيلم كان أثر رسم الابتسامة على وجوه الناس وقد استخدم المخرج في هذا أدواته الخاصة بالمجال مثل التصوير؛ حيث اهتم بتصوير كادرات قريبة للأوجه تظهر فيها ابتسامة كل شخص ظهر في الفيلم بشكل واضح، هكذا تبدو عملية إنتاج هذا الفيلم كالتالي: البدء بمفهوم نظري وهو كما ذكرنا أثر الابتسامة، ثم التفكير في لغة خاصة بهذا الفيلم تحمل هذا المفهوم، حيث يمكن التعبير عنه بعدد كبير من الأفكار والأساليب، وكانت لغة هذا الفيلم تتكون من ثلاثة عناصر، قصة تحوي عنصر الابتسامة بشكل متكرر، والموسيقي التصويرية، ثم أخيرًا تصوير ابتسامة الأشخاص الذين يتأثرون بدورة الخير تصويرًا مقربًا، هكذا كان اسم الفيلم “ابتسامة”.
اذا اعتمدنا هذا الأسلوب في النظر إلى الثلاثة أفلام التي ذكرتها في بداية المقال، ويبلاش والبجعة السوداء والرجل الطائر، سنجد أن الفيلمين الذين يتشابهان في المفهوم الذي يعرضانه هما فيلم البجعة السوداء وويبلاش وهو مفهوم هوس الكمال، أما الرجل الطائر فليس له أي علاقة بهما، فقد كان المفهوم الذي يعرضه، كما يتضح في عنوانه على الأقل، هو ميزة الجهل غير المتوقعة! لذلك يعتبر تشابه البجعة السوداء والرجل الطائر على مستوى اللغة فقط، وهو تشابه إجرائي مرتبط بكيفية التعبير عن الفكرة وليس ماهية الفكرة نفسها، فقدم كلاهما بطلًا فصاميًا قلقًا يصل به قلقه إلى الهوس بإتقان فنه، بينما عرض ويبلاش لغة أخرى هي المعلم الذي يبدو شريرًا إلا أنه يحاول إخراج كفاءات من طلابه تفوق تصوراتهم عن أنفسهم.
كان المحور الرئيسي لفيلم الراجل الطائر، هو محاولة ممثل سينمائي اشتهر بأدائه لدور أحد الأبطال الخارقين، لإخراج وتأليف وبطولة معالجة جديدة لرائعة رايمنود كارفر “ما نتحدث عنه عندما نتحدث عن الحب”، وهو ما فاق قدرة الناقدة المسرحية تابيثا ديكنسون على التحمل، إلا أن ما ظهر للكثير من مشاهدي الفيلم أن محور الفيلم هو هوس الوصول بالعمل إلى درجة الكمال إلى الحد الذي تطلب تضحية كبيرة، كأن يصيب البطل نفسه برصاصة حقيقية أثناء أدائه العرض، لهذا السبب تحديدًا لم أحب الرجل الطائر لأن لغته كانت من الكثافة والحضور حتى إنها طغت على مفهوم الفيلم، وكما أوضحنا سابقًا فدور اللغة هو أن تكون وسيطًا بين المشاهد والمفهوم، احتاج أليخاندرو جونزاليس، مخرج الرجل الطائر، إلى بطل قلق مهووس بإتقان عمله لأن هذا هو الظرف الذي يمكن فيه للجهل أن يكون مساعدًا على الإبداع، ويؤيد ذلك في وجهة نظري أن تلك الرغبة في الإبداع لم تبد أصيلة، حيث كان مبعثها هو تحقيق مجد مفقود على العكس من الفيلمين الآخرين، وعلى العكس من دور الممثل المساعد في نفس الفيلم، إدوارد نورتون المهتم بالفن نفسه ساخرًا من فكرة الشهرة، وهو ما لم أفهم موقعه من السياق إطلاقًا! ماذا كان موقع إدوارد نورتون من الفيلم بالضبط؟
في مراحل ظهور نورتون الأولي في الفيلم بدا حضوره طاغيًا على مايكل كيتون، فهو من يرتجل ويأخد المبادرة أثناء أداء الأدوار، واكتفي كيتون بدور المخرج الذي لا يستطيع السيطرة على ممثليه، إلا أن هذا الحضور، ولسبب ما غير واضح أو مبرر، اختفي في الثلث الأخير للفيلم ليحل محله كيتون، لذا بدا لي حضور نورتون في الفيلم مشوشًا غير متزن، فهو يظهر مهيمنًا على المشهد في تصاعد سريع ثم يختفي فجأه، بالإضافة إلى أن دوره كمحفز لكيتون – وهو نفس الدور الذي تلعبه تابيثا في نفس الفيلم، وسايمونز في ويبلاش، وميلا كونيس في البجعة السوداء – كان مختلفًا عن بقية هذه الأدوار، فقد اشتركت هذه الأدور جميعًا في مواجهة البطل بكونه غير كفء بما يكفي ما دفع الأبطال إلى المزيد من العمل ومحاولات تحقيق أعلى كفاءة ممكنة، أما نورتون فلم يظهر كمنافس أو ناقد بقدر ما ظهر في موقع يضطر كيتون إلى المزيد من محاولات التحكم والسيطرة على المشهد، مع مشاهد عابرة فرعية يظهر فيها بوصفه ناقدًا، كمشهد سخريته من المسدس غير الحقيقي الذي حمله كيتون، وهو مرة أخرى تأكيد على عدم أصالة رغبة كيتون في الكمال إنما كانت رغبته تلك من أجل تحقيق النجاح وليس من أجل الفن للفن.
يضاف إلى ما سبق أن وجود بطلين مختلفين يتشاركان نفس النمط ولو ظاهريًا في فيلم يتحدث عن شىء آخر تمامًا هو عامل سلبي بالتأكيد؛ يؤدي ذلك إلى سيطرة النمط الذي يجمعهما على المشهد على حساب البطل نفسه، بسبب تنازعه صدارة المشهد مع ممثل آخر، لذلك بدا انسحاب نورتن وتحوله إلى مجرد ممثل مميز يشارك في العرض غير مبرر وسببه الوحيد، في رأيي، هو إفساح المجال لبطل الفيلم الرئيسي، وقد تسبب ذلك أيضًا أن مفهوم الفيلم لم يتضح في أحداث الفيلم بشكل مناسب على الإطلاق حيث سيطر النمط الذي يجمع الاثنين، وهو الرغبة في الكمال، على حساب المفهوم الرئيسي وهو التناقض الكامن في كون الجهل عاملًا مساعدًا على الإبداع، وربما تم اللجوء إلى إضافة الجزء الثاني للعنوان عندما شعر أليخاندرو بعدم وضوح مفهوم الفيلم الأساسي، ولست من محبي طرح المفاهيم في صورة نصية مباشرة سواء على لسان بطل فيلم أو حتى في العنوان، وقد حدث هذان الأمران في الرجل الطائر.
على الطرف الآخر قدم ويبلاش والبجعة السوداء، لغتين مميزتين مختلفتين جذريًا لنفس المفهوم، ففي البجعة السوداء ظهرت ناتالي بورتمان في دور راقصة باليه ذات شخصية هشة محاطة بسيطرة والدتها وتحكمها، يتم اختيار هذه الشخصية لتقوم بدورين متناقضين؛ أحدهما لبجعة بيضاء ذات شخصية هشة تشبهها تمامًا، والآخر هو النقيض، دور البجعة السوداء اللعوب المثيرة، وقد تكرر نمط المدرب أو المعلم القاسي الصارم في الفيلمين، ودور الفنان الطموح الساعي نحو الكمال، إلا أن بورتمان استطاعت بدورها السيطرة على المشهد تمامًا بفصاميتها وتطور شخصيتها عبر الفيلم، ومحاولاتها القلقة للسيطرة على نفسها في سبيل إتقان الدور، تارة من أجل تحقيق طموحها، وتارة أخرى مدافعة عن طموحها ضد ميلا كونيس الراقصة التي تملك طاقة سلسة ومثيرة تناسب دور البجعة السوداء بشكل أفضل كثيرًا، هكذا استمر الصراع على هذين المحورين طوال أحداث الفيلم يتداخلان أحيانًا؛ فتظهر بورتمان وهي تحدث ميلا ثم تتحول إلى الحديث مع نفسها وهكذا، حتى تخيلها لإقامة علاقة عاطفية مع ميلا غريمتها المثيرة، إلا أننا لم نلمح تطورًا نفسيًا تدريجيًا لشخصية بورتمان عبر الفيلم حتى لحظة أدائها للدور في النهاية، فقد ظلت في هذا الصراع تتحرك بشكل أفقي لا تحرز أي تقدم يذكر عبر أحداث الفيلم كلها، إلا في المرحلة التي قررت فيها أن تثور على تدخل والدتها في حياتها، ثم عندما بدأ العرض النهائي للمسرحية، والذي يخبرها فيه مدربها توما أن الوحيد الذي يعيقها هو نفسها، فنرى صراعها الذي انتهي بإصابتها لنفسها في محاولة للانتصار على تلك التي تعيقها عن أداء الدور بشكل جيد.
هكذا يقدم الفيلم صراعًا نفسيًا داخليًا ينتهي بانتصار مادي عن طريق إصابة بقطعة مرآة مكسورة، لتؤدي بعدها بورتمان مشهد البجعة السوداء ويعتلي وجهها ملامح شريرة متحكمة ومسيطرة، وهو منطقي كتطور نفسي في ظل نشأتها في منزل والدتها، فيظل عامل التحكم والسيطرة هو الثابت، وهو ما يختلف تمامًا عن المطلوب حقيقة لأداء الدور، حيث طلب توما من بورتمان أن تصبح أكثر استرخاءً، موضحًا أن الأمر ليس مرتبطًا بالتحكم والسيطرة بل بالسلاسة والإغواء، لذلك بدت لي ميلا كونيس أكثر ملاءمة للدور من بورتمان طوال أحداث الفيلم، ولم أجد أداء بورتمان النهائي مقنعًا.
كان توجيه توما لبورتمان بأن تسترخي بدلاً من السيطرة والتحكم هي نفس الجملة التي وجهها سايمونز لتيلر في ويبلاش، حيث أشار إليه بأن “مفتاح النجاح هو الاسترخاء”، إلا أن التطور التدريجي لتيلر، الذي يلعب دور نيمان الشاب الطموح، كان أكثر وضوحًا ومنطقية وتتابعًا، قدم ويبلاش فليتشر، الذي يلعب دوره سايمونز، بوصفه معلمًا عظيمًا يعمل في أفضل معهد موسيقي في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه يظهر كشخص شرير للغاية، وحسب ما أوضح فليتشر في الفيلم فما يحاول فعله هو الضغط على العازفين محاولاً إخراج ما يفوق تصوارتهم عن أقصى قدراتهم، وقد تسبب هذا الضغط النفسي في انتحار أحد هؤلاء العازفين والذي تميز بعزف رائع، كما وصفه فليتشر نفسه، يبدو هذا النمط من البشر مبالغًا فيه إلا أنه موجود بالفعل! لم يهتم فليتشر سوى بالكمال، بالفن كفن، هكذا نشعر طوال الفيلم وكأنه يتعامل مع كل مشكلة على محمل شخصي، إلا أنه لم يكن يفكر سوى في رفع مستوي العزف، حتى المشهد الختامي الذي قرر فيه إحراج نيمان على الملأ ثم هدده مرة أثناء عزفه، إلا أنه في النهاية ساعده على ختام المقطوعة متبادلاً معه ابتسامة قبل إنهائه لها.
هنا يبدو تطور شخصية نيمان أكثر تدرجًا ومنطقية من البجعة السوداء؛ حيث بدأ فليتشر بالضغط الشديد في سبيل تعلم نيمان للجوانب التقنية للعزف كسرعة الإيقاع، ووضعه في هذه المرحلة في حالة من الصراع الدائم مع تانر وراين العازفين البديلين له للحفاظ على موقعه، ثم نقله إلى الصراع مع نفسه مؤكدًا على أن المهارة وحدها لا تكفي إنما الانضباط أيضًا، هكذا انتقل إلى مرحلة إقصاء نيمان تمامًا عندما ظن أنه يمتلك الدور بسبب مهارته فقط، عندها أصيب نيمان بالإحباط وترك العزف تمامًا بعدما نحاه فليتشر، إلى أن التقاه بعد ذلك بفترة مصادفة، ليدعوه فليتشر للمشاركة في حفل جاز رسمي بعد إقصائه عن التعليم في معهد شافير بسبب تقرير نيمان ضده، هكذ يبدو أن فليتشر كان يحاول الانتقام من نيمان عندما أخبره على المسرح أنه يعرف أنه كان السبب في فصله ثم اختياره لمقطوعة لا يعرفها نيمان، إلا أن هذا غير صحيح، فما قام به فليتشر هو استمرار لاستفزاز مشاعر نيمان المستمر طوال الأحداث إلا أن البدء بمقطوعة لا يعرفها نيمان هو أعلى مرحلة يصل إليها عازف الجاز، مرحلة الارتجال! فأهم سمة لموسيقي الجاز على الإطلاق هي الارتجال، هكذا لا يوجد في عالم الجاز “مقطوعة موسيقية” بقدر ما يوجد “عزف لعازف محدد في حفلة بعينها”، هكذا تطورت شخصية نيمان من مشروع عازف موهوب إلى عازف ذي مستوى تقني عال، ثم إلى عازف محترف، وأخيرًا عازف جاز كامل، عندما عاد نيمان إلى المسرح مرة أخرى بدأ العزف مجبرًا فليتشر على مقطوعة بعينها، كارفان، وهو ما يمثل محاولة للانتصار في صراعه مع فليتشر لاستحقاق مكانه كعازف، وهي المرحلة التي مر بها مع تانر وراين، ثم تقديم مستوى تقني رائع لعزف مقطوعة كارفان، ثم أخيرًا، وبعد انتهاء المقطوعة كما يفترض، قام بارتجال فترة طويلة من العزف الفردي كما فعل بادى ريتش بالضبط عام 1982 في حفلة الأمريكتين بعد انتهاء نفس المقطوعة، مما دفع فليتشر لمساعدته على إنهائها مع بقية الفرقة، على عكس ما حدث مع بادى ريتش الذي أنهي المقطوعة وحده، إلا أن فليتشر أدمج عزفه الفردي مع بقية المجموعة متبادلاً معه ابتسامة تحمل تهنئة وكأنه يقول “لقد نجحت”، منهيًا بذلك المقطوعة والفيلم كله.