كرداسة التى يزيد سكانها عن ربع مليون نسمة، وقام أكثر من 80% ممن لهم حق التصويت فيها باختيار “مرسي” رئيساً للجمهورية، إذا بأهاليها البسطاء يفاجئون بين يوم وليلة بعزل رئيسهم، وعودة “الداخلية” للبطش بهم. و”كرداسة” كغيرها من المناطق والإقاليم المصرية (مثل: سيناء، دلجا)، التى جرى الجدل حولها كثيراً خلال الأيام الماضية. ووسط التباين الشديد في الآراء حول حقيقة ما يحدث، فإن أفضل وسيلة ارتأيناها للتعرف أكثر عن الحقيقة ومن قرب، هي النزول إلي (كرداسة) لتوثيق
ما جرى، ويجري فيها، وتقصي الحقائق وتسجيل الشهادات لإبراز رواية “الشارع” للأحداث في مواجهة رواية “السلطة”.
وتسهيلاً للقارئ، نكتفي هنا بعدم الإسهاب في التفاصيل لنعرض موجز ما توصلنا إليه، وتحققنا منه في شكل نقاط سريعة:
1- لم تبدأ الأزمة في “كرداسة” بالحادثة البشعة التى تم تداولها إعلامياً من قتل بعض ضباط وجنود القسم عشية فض اعتصامات “النهضة” و “رابعة العدوية” في 14 أغسطس 2013، بل بدأت قبل ذلك بكثير وتحديداً في 3 يوليو 2013 مع إعلان الفريق “عبد الفتاح السيسي” عزل الرئيس “محمد مرسي” بعد مظاهرات حاشدة في أغلب ميادين مصر مطالبة ب”انتخابات رئاسية مبكرة”.
2- بدأت الأحداث في “كرداسة” بنزول الأهالي تلقائياً للشوارع مع بيان “السيسي” حيث يحظى “مرسي” بشعبية واسعة بين أهالي منطقة “كرداسة” والتي يتجاوز عددهم ربع مليون نسمة، واكتسح “مرسي” في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، حيث تجاوز نسبة ال 80 % من الأصوات هناك.
3- يقع قسم “كرداسة” في مدخل المدينة، وأمامه موقف “الميكروباصات” الآتية من القاهرة، والذاهبة إليها. وقد احتشد العشرات من الأهالي أمام “القسم” مطالبين من فيه بالرحيل، ومرددين هتافات مناوئة للنظام.
4- من أبرز ما قيل مساء 3 يوليو أمام القسم وأكده لنا شهود العيان أن النائب السابق بمجلس الشعب عن كرداسة “عبد السلام بشندي” قال للضباط وجنود القسم عبر الميكروفون ضمن الجموع المحتشدة أمام القسم “أهم حاجة عندنا هي دمكم، لأن دمنا ودمكم حرام على بعض، الناس هنا مش عاوزاكم، فأرجوكم امشوا بكل سلمية، المباني ممكن تتحرق، إنما أهم حاجة دمكم ودمنا” فكانت الإجابة من داخل القسم، بالرفض والاستهزاء.
5- في فجر اليوم التالي (4 يوليو 2013) وصلت إمدادات كبيرة لقسم “كرداسة” مكونة من حوالي 14 سيارة أمن مركزي، بالإضافة إلى 4 مدرعات جديدة، ومدرعتيتن حديثتين من نوع “الهامر” مثبت علي ظهرها مدفع رشاش ثقيل. وبدأت المطاردات والمناوشات مع شباب المنطقة، حيث كانت المدرعات تطارد الناس في الشوارع، وكادت أحد المدرعات الهامر الحديثة أن تنقلب عند دخولها أحد الشوارع الجانبية في المنطقة، وتم فتح النار من الرشاشات الثقيلة على الجميع!
6- وأسفرت اشتباكات هذا اليوم (4 يوليو 2013) عن مقتل 7 مواطنين مصريين على أيدي قوات “الداخلية”، 2 من مركز كرداسة نفسها، والبقية من ضواحيها (2 قرية بني مجدّول، 3 ناهيا). وذلك دون أي إصابات أو وقوع قتلى في صفوف الشرطة، سوى حرق مدرعة واحدة.
7- وضمن هؤلاء الضحايا، سقط ضحية من قبائل العرب، على أيدى ضباط وجنود وزارة الداخلية، وهنا أيقن الكثيرون من أهالي “كرداسة” أن القسم سيتم حرقه، لأن العرب لا يعرفون سوى الثأر لقتلاهم.
8- ومن حينها اشتعلت نيران الثأر مجدداً بين أهالي “كرداسة” على وجه العموم، وبين قوات القسم، من جنود وضباط، حيث لم تكد حتى الآن تلتئم جراح الأهالي من بطش وزارة “الداخلية” بهم، وهو ما عبروا عنه بجلاء في حرقهم التام للقسم عشية جمعة الغضب في يناير 2011. ومن رصدنا لأغلب مداخلات وشهادات الأهالي، فإن هناك غضب كبير من الممارسات القمعية الممنهجة لضباط قسم “كرداسة” والتى لم تتغير كثيراً بعد الموجة الأولى من الثورة، ولم تختفي أيضاً في عهد “مرسي”.
9- في صبيحة يوم الأربعاء (14 أغسطس 2013) استيقظ أهالي “كرداسة” على خبر فض اعتصامي “النهضة” و”رابعة العدوية” ومقتل أكثر من 500 شخص حتى الساعة الثامنة والنصف صباحاً فقط، فقاموا بعفوية بتجميع أنفسهم للذهاب لمساعدة ورعاية المعتصمين والمصابين هناك، ولأن محطة الميكروباصات تقع أمام القسم بالضبط، فإنه وبتجمع الشباب لركوبهم إلي القاهرة، ما كان من قوات “القسم” إلا أن أطلقت النار عشوائياً على تجمعاتهم. ومات على إثر ذلك خمسة مواطنين نتيجة إطلاق قوات الداخلية النيران على الجموع، وهو ما استفز الأهالي أكثر، فقرروا الاستمرار في تصعيدهم السلمي، المشابه كثيراً لما قاموا به في جمعة الغضب 28 يناير 2011، وهو ما أسفر عنه حرق قسم “كرداسة” تماماً في صبيحة التاسع والعشرين من يناير.
10- وقد استخدمت قوات “الداخلية” صبيحة يوم فض اعتصام “رابعة العدوية” غازات مسيلة للدموع أكثر تطوراً، حيث يتضاعف تأثيرها، دون أن يكون لها دخان مرئي، فتنتشر دون أن يشعر بها أحد، وقد وجد الشاب ه.. خريج كلية الهندسة، بنت صغيرة مفارقة للوعي، وملقاة في الشارع ضمن الحرب الصغيرة الدائرة، فما كان منه إلا أن أسرع نحوها لينقذها، لكن ما حدث هو أن طغى عليه تأثير قنابل الغاز، فسقط بجانبها.وقد سقط منذ التاسعة صباحاً وحتى الثانية ظهراً خمسة مواطنين قتلى، برصاص قوات الداخلية التى انتشرت وتوغلت من أمام قسم “كرداسة” للعديد من المناطق بداخل المدينة.
11- وبعد الثانية ظهراً، وسط انتشار تأثير قنابل الغاز المسيلّة للدموع الكثيفة، وانتشار الإصابات ووقوع القتلى بين أهالي “كرداسة”، واستمرار الشباب والرجال في مناوشاتهم، مع قوات “الداخلية” واعتمادهم على إلقاء الحجارة في مواجهة الرصاص الحي. تغيّر المشهد، مع قدوم عناصر مسلحة ملثمة. وقد أكّد أغلبية من قمنا بتوثيق شهاداتهم على أن هؤلاء ما هم إلا مجموعات من “العرب” الموتورة من ضباط “الداخلية” نتيجة مقتل أحد شبانهم على إيديها، بينما ذهب آخرون إلي أنهم “جنائيين” مختبئين بالجبال جاؤوا لتصفية حساباتهم مع قسم الداخلية، والتى لم تترك مواطناً إلا وأشعلت في داخله شعوراً بالغضب والثأر تجاههم. اختلفت الأقاويل لكن الثابت الذي خرجنا به وتحققنا منه، أن هذه العناصر من خارج مركز “كرداسة” والذي تقوم فيه الدولة الآن بعملياتها القمعية.
12- وهنا بدأت موازيين قوى المعركة في التغير، فقبل دقائق كانت قوات “الداخلية” تقتل وتصيب جموع المواطنين السلميين من أهالي “كرداسة” بالرصاص الحي وإطلاق النار العشوائي، وتواجهها الجموع ب”الحجارة” بينما أحكمت قوات “الداخلية” سيطرتها على الشارع، وذكر شهود عيان أن آخر لحظة قبل تغير الأمور، شهدت قيام ضباط وجنود “القسم” بالرقص الاستفزازي لأهالي المنطقة أثناء ما كانوا يطلقون نيرانهم، وإشاراتهم بأصابعهم إشارات خارجة ومسيئة. وفي هذه اللحظة تسللت مجموعة المسلحين لتقترب من “القسم” ومرت أثناء اقترابها بالعديد من الوحدات الحكومية، ومنها مدرسة ابتدائية بجوار القسم، حيث أكد الشهود، قفز هؤلاء المسلحين من أعلى سور المدرسة، ثم استقرارهم بعدها بقليل، وقاموا بإطلاق قذائف آر بي جي على القسم. وإطلاق الرصاص بكثافة، وهو ما أجبر قوات “الداخلية” على الانسحاب من المناطق السكنية ب”كرداسة” والتقهقر نحو “القسم”.
13- بعد معركة سريعة لم تدم طويلاً، نجح المسلحون في إحكام الحصار حول قسم “كرداسة” والذي احتمى فيه الضباط والجنود الذين أغرقوا المنطقة بوابل نيرانهم والتى قتلت منذ قليل خمسة مواطنين، وقتلت قبلها سبعة منذ أربعين يوماً. وأصابت العشرات، وكان الاتجاه الغالب للجموع المحتشدة أمام قسم “كرداسة” هو حرق “القسم” وطرد “الضباط والجنود المعتدين” بينما كان للمسلحين رأي آخر في اتجاههم نحو تصفية كل الضباط والجنود تصفية جسدية.
14- وقد نجح العديد من كبار المنطقة، وأهالي “كرداسة” في الحيلولة دون فتك المسلحين بضباط وجنود القسم، الذين يزيد عددهم عن 50 فرداً. ومن المفارقة هنا، أن أحد كبار رجال المنطقة المعروفين، وهو المواطن “محمد نصر” الذي أفرج عنه عقب الإطاحة بمبارك، وأثناء حكم المجلس العسكري، في مايو 2011، وذلك بعد قضاءه 18 عاماً في السجن، من أصل عقوبته المقررة بخمسة عشر عاماً فقط (أي ثلاثة أعوام إضافية). كان يقوم هذا الشخص وهو من المعروفين في المنطقة (والقيادي القديم بالجماعة الإسلامية) بالتهدئة بين جموع الثوار، وقسم الشرطة، حيث قام بجمع الأموال من الأهالي لترميم القسم بعد حريقه الأول في يناير، وهو ما تم بالفعل. وما حدث الآن أن قوات “الداخلية” قامت في السبت 21 سبتمبر بحرق منزله، بعد نهبه تماماً، كما أطلقت نيراناً من مدافع ثقيلة دون سابق تحذير على منزل أخته، ومنزل ابن أخته الجديد يومها، والذي كان مقرراً أن يكتب كتابه على عروسته في يوم الجمعة التالي، وقد صمم الشاب (حسين) على عدم الاستسلام للقمع والإحباط، وعقد قرانه الجمعة القادمة، بالرغم من اقتحام قوات “الداخلية” منزله الجديد، وتحطيم الأثاث الحديث، وبالرغم من عدم كونه ناشطاً سياسياً، أو أي شئ من هذا القبيل، فكل تهمته حتى الآن كما يخبرنا الأهالي هو أن خاله هو الحاج “محمد نصر”.
15- وقد قامت المجموعة المسلحة في النهاية بإطلاق سيل من النيران في الهواء لتفريق جموع المواطنين من أهالي “كرداسة” والذين كانوا يحولون بينهم وبين الفتك بمن في القسم. وبعدها قاموا بجريمتهم، وغادروا المنطقة بأسرها سريعاً.
16- أكدّ جميع شهود العيان من الأهالي بالرغم من اختلافاتهم إدانتهم لهذه الجريمة التى انتهى بها المشهد، من قتل بشع لبضعة الجنود وضباط القسم. ولكن في نفس الوقت فإن ذلك لا يبرر ما قاموا به، ولا ما يقوم به الإعلام من شيطنة لأهالي “كرداسة” ووصمهم ب”الإرهاب”.
17- في الخميس 19 سبتمبر قامت قوات العمليات الخاصة من “وزارة الداخلية” بمعاونة فرق “الصاعقة” من الجيش بشن حملة أمنية ضخمة على “كرداسة” صاحبتها إنتهاكات قصوى لأبسط حقوق الإنسان، فبعد أن كان أغلب أهالي “كرداسة” ينتظرون حملة أمنية دقيقة تلقي القبض على المجموعة المسلحة التى هبطت على “كرداسة” وارتكبت جريمتها، إذا بهم يفاجئون ب”عقاب جماعي” مارسته الدولة بأجهزتها الأمنية عليها. واستعرت بالطبع مع مقتل لواء الشرطة أثناء دخولهم المدينة.
18- اتسم دخول قوات الجيش والداخلية ل”كرداسة” بأسلوب مهين للأهالي، فقد أجمع كل شهود العيان على أن دخول قوات “الداخلية” على وجه الخصوص للشوارع الجانبية، كان يصاحبه مشاهد درامية تعيسة، من رفعهم السلاح وإطلاق النار في الهواء مع صياح الضباط في أهالي المنطقة “ناموا .. ناموا” وتعالي صوت أحد الضباط من المدرعة “ناموا يا منطقة مفيهاش راجل، هننيمكم من العصر، وننام مع حريمكم من المغرب، ويخدموا علينا”!@
19- ألقت قوات “الداخلية” القبض على ما يزيد من 300 مواطن من أهالي “كرداسة” منهم مجموعة من الشباب كانوا قد قاموا بوقفة تأييد ل”السيسي” قبل أسبوعين، حيث تم إلقاء القبض العشوائى على جموع مختلفة من المواطنين منهم المأذون الشرعي للمنطقة. وقد قامت قوات “الداخلية” بمداهمة منزل مدير المدرسة التى اقتحمها المسلحون وعبروا منها، وفوجئ ضباط “الداخلية” بأن الرجل المقصود (المدير) قد مات منذ أيام، فقاموا باعتقال ابنه!
20- قامت قوات “الداخلية” بحرق قرابة ال 10 منازل بجميع محتوياتها، كما قامت بمداهمة وتفتيش، بل وسرقة عشرات المنازل حيث أكد لنا جميع الشهود على أن سرقة قوات “الداخلية” للأموال وذهب السيدات أصبح قاعدة تمارسها، كما قامت بالاعتداء على رجل مسن يتعدى عمره السبعين عاماً وهو الحاج (سعد عميرة) والذي أخبرنا الأهالي بأن “مقامه لدينا كمقام (وزير الداخلية) لديهم”. وقد كانوا يبحثون عن ابنه لرغبتهم في اعتقاله، وبعد عدم عثورهم عليه في منزل الأسرة الكبير، قاموا بالاعتداء على الحاج (سعد) وسحله، ودهسه بالبيادات، أمام مرأى ومسمع أهالي المنطقة. وقاموا بسرقة (20 ألف جنيه) من منزل عائلة الحاج، إضافة إلى مقتنيات أخرى. ثم أحرقوا المنزل بأكمله في النهاية، ومنعوا محاولات الأهالي إطفائه، وإلى الآن يجلس جموع من نساء وأطفال القرية أمام منزل الحاج (سعد) المحترق وهم يلبسون الثياب السوداء، وليس لدى الأطفال ملابس سوى التى يرتدونها، بعد أن فقدت الأسرة بأكملها كل شئ. وبعد أن لم تكتفي قوات “الداخلية” بإهانة الحج وضربه، وحرق منزلهم، بل واعتقلته أيضاً، وهناك أنباء تفيد عن كسر رجله إزاء الاعتداءات الوحشية.
ملاحظات وتوصيات أخيرة:
– يعيش أهالي “كرداسة” في رعب وهلع حقيقين، لذا تعمدنا في الغالب عدم الإشارة إلي أسماء شهود بعينهم، خوفاً من التنكيل بهم.
– إن اتساع دوائر الصراع بعد أن كان محسوراً داخل العاصمة “القاهرة” وامتداده لإقليم كامل مثل “سيناء” ومنطقة مثل “كرداسة” شمال الصعيد وجنوب “القاهرة” ودلجا في محافظة “المنيا” وسط الصعيد، والاشتباكات الشديدة التى شهدتها محافظة “أسوان”، وما صاحبه من إمعان قوات “الجيش” في التصعيد واستخدام العنف المفرط في “سيناء”، والقسوة والإهانة وحرق المنازل الذي اتبعته “الداخلية” في “كرداسة” يهدد بالطبع بما قد يكون أسوأ من سيناريو “التسعينات”. وهنا لا ننكر وجود بعض العناصر المسلحة في المشهد، ولكن الحقيقة الواضحة، أن “الإرهاب” الذي تمارسه الدولة، وسياسة “العقاب الجماعي” على المناطق هي المتسيدة، وهى التى تهددنا جميعاً بأن ينتج عنها عشرات القنابل الإرهابية الموقوتة القابلة للانفجار والتى سلبت الدولة منها حقوقها، وامتهنت كرامتها. وبالتالي ندخل في الدائرة المفرغة والثقب الأسود الذي يكاد يكون ابتلع من هي أكبر بكثير من دولتنا، وهي “الولايات المتحدة الأمريكية” التى خاضت الحرب على ما سمته ب”الإرهاب” منذ أكثر من 12 عام ولم تخرج منها إلى الآن.
صور من كرداسة قام بتصويرها الباحث شريف محيي الدين كاتب المقال: