يقال في الإخفاقات مثل ما قد قيل في الإنجازات، فقد يخفق المستشرق وهو حسن النية كما تشهد بذلك باقي كتاباته ومواقفه، وقد يسيء من حيث أراد أن يحسن.
وإخفاقات الاستشراق – كما نراها – تنقسم إلى ثلاثة جوانب: إخفاق في المنطلق، وإخفاق في القدرة، وإخفاق في الغاية.
1. إخفاق في المنطلق
“لقد مال المفكرون والمؤرخون الأوروبيون، منذ عهود اليونان والرومان، إلى أن يتبصروا بتاريخ العالم من وجهة نظر التاريخ الأوروبي والتجارب الثقافية الغربية وحدها، أما المدنيات غير الغربية فلا يعرض لها إلا من حيث إن لوجودها أو لحركات خاصة فيها، تأثيرًا مباشرًا في مصائر الإنسان الغربي” [1]. أو ربما لم يجدها تستحق الاهتمام أصلاً كما فعل رونالد سترومبرج وهو يؤرخ للفكر الغربي فيقول: “علمًا بأن تلك الكنوز (فلسفة اليونان) قد تضاءلت كَمًّا بعض الشيء نتيجة لغزوات البرابرة التي فصلت عالم البحر المتوسط عن أوروبا، ابتداءً من القرن السادس حتى القرن الحادي عشر” [2]، إن سترومبروج يرى في الحضارات الأخرى حضارات “فاترة الهمة بطيئة الخطى مكبلة بأغلال التقاليد والعادات، بينما حضارتنا (الغربية) بالغة القدرة على التبدل والتفكير” [3].
فمن كان هذا منطلقه كان أحرى به أن يخفق في فهم الآخرين، وأن يرسم عنهم صورة تحقق ما يستقر في ضميره لا ما هو مستقر في الواقع.
لقد سجل د. مصطفى السباعي خلاصة لقاءاته مع المستشرقين في قوله: “لقد كنت كتبت عن المستشرقين كلمة موجزة في كتابي “السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي” قبل أن أزور أكثر جامعات أوروبا عام 1956م وأختلط بهم وأتحدث إليهم وأناقشهم، فلمّا تم لي ذلك ازددت إيمانًا بما كتبته عنهم واقتناعًا بخطرهم على تراثنا الإسلامي كله، سواء كان تشريعيًا أم حضاريًا، لما يملأ نفوسهم من تعصب ضد الإسلام والعرب والمسلمين” [4].
ولو نجا المستشرق من التعصب الديني، وظل على قناعته بأن الغرب هو ممثل الحضارة دون غيره [5]، فإن ذلك أحرى أن يوقعه في ذات الفخ، فخ الإسقاط الذي يريه ما في ضميره لا ما هو في الواقع، ومثال ذلك ما شاع في إنتاج المستشرقين من تفسيرات مادية أو تفسيرات قومية للتاريخ الإسلامي [6]، وازورار أعينهم عن خصوصيات وظواهر تتنافى مع هذه التفسيرات، هذا إن لم يتكلفوا تأويلها لتؤدي إلى أغراضهم.
إن الذي ينطلق من أن الغرب هو خلاصة الحضارة، لا بد أن ينبش ما استطاع ليحاول إيجاد علاقة بين الشريعة الإسلامية وبين القانون الروماني كما فعل جولدزيهر وشاخت وجاتيسكي! وقد يتكلف من يؤمن بهذا أن يزيل كل الفوارق بين الإسلام والمسيحية ليقرب الإسلام من الغربيين كما فعل إميل درمنغم، وإن الذي لا يريد أن يصدق بأن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – يتلقى الوحي من ربه، يتكلف البحث عمن قد يكون قد أعطاه هذا القرآن ولو كان رجلاً عبر به للحظات في سفر وقت أن كان في الثانية عشرة من عمره، كما فعل جوستاف لوبون ومونتجمري وات!
وهكذا تفعل سائر المنطلقات إذا لم تكن حقائق راسخة!
2. إخفاق في القدرة
ويتجلى هذا لدى تصديهم للكتابة فيما هو شديد الخصوصية كاللغة والأدب والتفسير والفقه، وهي أمور تحتاج إلى ملكة يعسر أن يحوزها أعجمي لم ينشأ في بيئة عربية يستقيم فيها ذوقه، إلا أننا نجد كثيرًا منهم اجترأوا على هذا فصدرت عنهم عجائب وغرائب، وهذا إذا أعملنا غاية الحسن ولم نفترض وجود الغرض.
وقد أفاض الشيخ محمود شاكر في بيان أمر اللغة والثقافة وكيف أنها من الخصوصيات التي لا تستقيم لمن يدخل فيها بعد الكبر، ويكرر د. عبد العظيم الديب استشهاده بقول المستشرق الروسي كراتشوفيسكي: “اللغة العربية تزداد صعوبة كلما ازداد المرء دراسة لها” [7] كثيرًا، وهذا برغم أن كراتشوفيسكي من أساطين الاستشراق وجهابذته، وقد أطال نُقَّاد الاستشراق في ذكر الأمثلة على هذا بما تغني شهرته عن إيراده، إلا أن المثال الأبرز والأقوى هو إخفاقهم جميعًا في وضع ترجمة واحدة دقيقة للقرآن الكريم، وهو الكتاب الأول والأساس في الإسلام! فظل المسلمون يستدركون على هذه الترجمات ويرصدون عيوبها مهما كان المستشرق الذي أصدرها معروفًا بإنصافه ونزاهته.
كذلك ثمة جانب آخر مهم في مسألة الإخفاق في القدرة، وهو إخفاقهم في التحرر من شبكة المصالح التي تمول الاستشراق لتجني ثماره، يقول إدوارد سعيد: “من المحال تفهُّم الأفكار والثقافات والتاريخ، أو دراستها دراسة جادة، دون دراسة القوة المحركة لها، أو بتعبير أدق دون دراسة تضاريس القوة أو السلطة فيها، فمن المخادعة الاعتقاد بأن الخيال وحده قد فرض خلق صورة الشرق، فالعلاقة بين الغرب والشرق علاقة قوة وسيطرة ودرجات متفاوتة من الهيمنة المركبة، ولم يكن سبب اكتساب الشرق للصورة التي رسم بها يقتصر على أن من رسموه اكتشفوا أنه يمكن أن يصبح “شرقيًا” بالصورة الشائعة لدى الأوروبيين العاديين في القرن التاسع عشر، ولكنه يتجاوزه إلى اكتشاف إمكان جعله كذلك، أي إخضاعه لتلك الصورة الجديدة للشرق” [8].
ولذلك فقد دفع بعضهم ثمن إنصافه مع الإسلام فعانى من الاضطهاد في العمل أو النفور من أقرانه المستشرقين أو تلقي الهجوم الشديد لكتاب منصف ألفه، مثل الألماني يوهان رايسكه [9] والإنجليزي توماس أرنولد [10] والفرنسي رجاء جارودي.
3. إخفاق في الغاية
فمثلما أخفق الاستشراق في رسم صورة حقيقية للشرق، فقد أخفق كذلك في محاولة ترويضه وإدراك أسراره وتحقيق الهيمنة الكاملة عليه، ويبدو واضحًا أن المجهود الرهيب والإمكانيات الضخمة التي بذلت للاستشراق ثم للجيوش التي تحركت لتنفيذ توصياته لم يحقق شيئًا يناسب ما بُذِل، فما من جيش نزل أرض المسلمين صراحة إلا وهُزِم أو يعاني من جهاد شرس فلا يقر له قرار، وما من فرصة تتاح لاختبار اختيارات الشعوب وإرادتها إلا وتأتي بممثلي الفكر الذي قضى الاستشراق كل هذه القرون ليحاربه ويضع فكرًا غيره في مكانه، وقد تقع المفاجآت التي تجعل تقارير الخبراء والمستشرقين لا تساوي الحبر الذي كتبت به!
إن القدر القليل الذي أتيح للمسلمين من قدرات البحث العلمي مكنهم من نسف الأساطير الاستشراقية، وإنزال قوم من كبارهم من المنازل العالية التي وُضِعوا فيها إلى منازلهم التي يستحقون، وكُشفت عمليات التزييف والتشويه ومناهجها وطرائقها، حتى صارت كلمة “الاستشراق” ملوثة كما قال برنارد لويس، وصار التتلمذ على المستشرقين نوعًا من التهمة يدفعه صاحبه عن نفسه، من بعد ما كان في قبل نصف قرن شيئا مثيرا للفخر.
لقد فشل الاستشراق – كأداة للاحتلال والهيمنة – في سوق الشعوب نحو وحدة الثقافة التي حملها كرسالة يريد لها أن تسود، وما زالت المقاومة مستمرة، والجهاد ماضيًا إلى يوم القيامة.
[1] محمد أسد (ليوبولد فايس): الطريق إلى الإسلام ص 15.
[2] رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص 18.
[3] رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص 19.
[4] د. مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص 65.
[5] قال أرنولد توينبي: “ظل التعصب المسيحي ضد المسلمين حيًا في عقول كثير ممن نبذوا المسيحية نفسها”.
[6] د. فاروق عمر فوزي: الاستشراق والتاريخ الإسلامي ص 9 وما بعدها.
[7] كراتشوفسكي: مع المخطوطات العربية ص 7.
[8] إدوارد سعيد: الاستشراق ص 49.
[9] عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين ص 300.
[10] د. مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص 32.