تدخلت الأمم المتحدة مؤخرًا محاولة رأب الصدع في ليبيا بين أطراف النزاع المسلحين، لتفادي الدخول في دوامة العنف والعنف المضاد بما سيدمر المصالح الغربية في ليبيا، خاصة مع ازدياد صعود موجة الهجرة إلى الغرب عن طريق بوابة ليبيا، التي تفتقد لبسط النفوذ والسيطرة على هذه الأخطار التي ينظر إليها الغرب بعين الاعتبار.
كذلك المخاوف متزايدة من نزوح داعشي إلى ليبيا؛ بسبب الضغط على التنظيم في العراق وسوريا، حيث إن أنسب بيئة لاحتواء التنظيم ستكون ليبيا، إذا ما اضطر التنظيم لفتح جبهة جديدة تكون أكثر خطرًا على المصالح الغربية، وتهددها بشكل مباشر.
كل هذه العوامل والتحليلات دفعت الغرب لعدم التورط في عملية عسكرية لحسم الصراع في ليبيا، لاسيما وأن عامل القوة العسكري متوازن إلى حد كبير بين القوتين المتنازعتين، كما أن رؤية الغرب للدعم المصري الإماراتي لطرف بعينه لم يُحدِث تغييرًا منشودًا، بل زاد الأمور تعقيدًا.
تخوفات الغرب تنشأ من وجود حركات مسلحة طفيلية تنمو على إثر هذا الصراع، ولا يمكن ضبط حركتها نهائيًا، عكس ما يمكن فعله مع قوات “فجر ليبيا” أو القوات الموالية للواء خليفة حفتر، لذا رؤية المواجهة الغربية أرادت أن تقدم المصالحة بين القوتين اللتين يمكن ضبطهما، وترشيد استخدامها للعنف؛ بحيث توحد بينهما في حكومة ائتلافية، تتمكن من مواجهة هذه الجماعات الطفيلية في وجهة نظر الغرب والتي من أبرزها بالطبع قوى داعش على الأرض، الأخذة في النمو والانتشار في هذه البيئة المناسبة.
الغرب لم يستبعد تدخله العسكري نهائيًا لكن استبعده مؤقتًا، فرئيس المجلس الأوروبي “دونالد توسك” تحدث عن ذلك بأنه لا يستبعد عملية عسكرية أوروبية في ليبيا، لكنه اعتبر أنه يجب أن تكون مرفقة بخطة ما بعدية للأمر، بحيث لا تنتهي العملية مع وجود نفس الفرص لنمو جماعات مسلحة متطرفة أخرى.
خيارات المصالحة مازالت مطروحة على الساحة الليبية ولكن في المغرب، بعدما نجح المبعوث الأممي بإقناع أعضاء من المؤتمر الوطني وآخرين من برلماني طبرق بالاجتماع في أقصى الغرب الليبي بمدينة “غدامس”، ثم انتقل بهم كمرحلة ثانية إلى جنيف، ثم بالنهاية إلى المغرب.
هذه الجولات والمراحل دائمًا ما كانت مهددة بالفشل بسبب التصعيد بين الجانبين على الأرض، كما أن قوى إقليمية ودولاً جارة تعمل على تأجيج هذا الصراع وعلى السير في طريق غير النهج الأممي لحل الأزمة، لكن رغم كل العقبات التي تواجه المصالحة والتسوية في ليبيا إلا أن احتمالية تقدمها مازالت قائمة.
الحوار الليبي الحالي يحاول إقناع الأطراف المتنازعة بمجموعة من الأفكار أهمها التوافق الوطني لإنهاء عملية الانقسام الحادثة وإنهاء حالة العنف التي تسود هذا البلد، وقد نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن بيان أصدرته البعثة الأممية التي ترعى هذا الحوار: “أن هذه الأفكار جاءت بعد نقاشات مع كافة الأطراف، وفي ضوء الوضع العسكري المتدهور بليبيا، وتُشكل ركيزة يمكن للأطراف العمل بالاستناد إليها”.
هذه الركيزة أدت إلى الانتقال إلى حديث أكثر عملية، وتحديد نقاط للدخول في مناقشات لحسمها وتنفيذها على الأرض لإنقاذ الوضع، فكان أبرزها تشكيل مجلس رئاسي مكون من شخصيات مستقلة وحكومة وحدة وطنية من الكفاءات.
تخلل هذه الجلسات الحوارية تلكؤات من جانب ممثلي برلمان طبرق، جعل ممثلو المؤتمر الوطني يتشككون في جدية هذه الحوارات، وسط أحاديث عن انحياز أممي لطرف بعينه، إذ أتت هذه العثرات بالتزامن مع تجدد اشتباكات عسكرية بين الطرفين على الأرض، وهو ما جعل الأمم المتحدة تتحدث عن الإسراع في هذه الجلسات الحوارية؛ لأن احتمالية فشلها آخذ في التزايد، بسبب تدهور الوضع على الأرض، الذي إذا تطور لن يدعم أي تحركات سياسية.
ومن الخيارات الأخرى المطروحة أيضًا، غير هذه المصالحة والتسوية المتعثرة والتي تُحارب من جهات إقليمية، هو خيار آخر مدعوم من نفس هذه الجهات التي ترى تصعيد الاقتتال هو الحل الأنسب، فاللواء خليفة حفتر، الذي أعادته حكومة برلمان طبرق للخدمة العسكرية ليتولى قيادة القوات الموالية للبرلمان، يرى إطلاق “عاصفة حزم” في ليبيا، مرحبًا بذلك، وهو بالتأكيد اقتراح مصري إماراتي صرف، سعت له القاهرة، لكن الحليف السعودي رفضه رفضًا باتًا لانشغاله بقضية اليمن وسوريا، كما حاولت القاهرة أيضًا التحرك تحت رعاية دولية، وهو ما قُوبل بالرفض بسبب تبني خيار الحوار مؤقتًا.
فحفتر يرى ضرورة أن تكون السيطرة من القوات التي يقودها فقط، وتكون هي الجهة الشرعية التي يجب أن تتحكم في مصير البلاد، وهذا التصور الذي لا يخفيه الجنرال، بالتأكيد سيعوق أي مساعٍ للتسوية يقودها سياسيون في برلمان طبرق، وهذا جانب آخر من القضية لا يركز عليه أحد، ألا وهو بداية ظهور تفككات بين مكونات حكومة برلمان طبرق، إذ إن العسكريين بدأوا في التغول على القرار السياسي ما نتج عنه بطء تقدم جلسات الحوار.
كما أن حفتر ينتقد في تصريحاته الإعلامية موقف مجلس الأمن الرافض لرفع حظر التسليح عن الجيش الليبي، فالرجل يريد خوض الصراع ولكنه يطلب من الغرب وأد خيار التسوية السلمي، وإعطائه أدوات الصراع التي لا يمتلكها بالكلية لحسم الصراع على الأرض، كما أنه ينتهز سعي أوروبا لاستصدار قرار لضرب المهاجرين غير الشرعيين بالبحر، بترديده أن حل المشكلة يكمن في تسليح قواته، مع عدم الكف عن استخدام فزاعة داعش التي يتهم كافة الأطياف المعارضة له بالانتماء إليها، وهو ما يعرف الغرب عدم صحته نهائيًا.
على الجانب الآخر فإن فجر ليبيا ستدخل في صراعات قريبة جدًا مع الجماعات الطفيلية التي خرجت على المؤتمر العام، وبدأت العمل في إطار آخر، لا يرى وجوب قتال حفتر فحسب، ولكن رؤية للصراع من ناحية أيديولوجية، فبايعت هذه الجماعات داعش وبدأت ترى أن كل من حفتر وفجر ليبيا أعداء، ودخلت هذه الجماعات إلى مربع التفجيرات التي تتم داخل طرابلس، كان آخرها الهجوم المسلح الذي استهدف السفارة المغربية بالعاصمة الليبية طرابلس، تزامن هذا مع انطلاق عملية أطلقتها “فجر ليبيا” لاستعادة السيطرة الكاملة على مدينة سرت من الجماعات التي بايعت “تنظيم الدولة”.
بهذا تبلورت الخيارات بوضوح أمام الجميع في ليبيا؛ إما سيناريو المضي في التسوية، أو الدخول في اقتتال داخلي، لن يكون هذه المرة بين القوات الموالية لحفتر وبرلمان طبرق أمام قوات فجر ليبيا الموالية للمؤتمر الوطني فحسب، ولكن هناك أعضاءً جدد، على الجميع أن يقبل بهم في لعبة العنف التي يريد بعض الأطراف استمرارها.
فكل هذه الخيارات يجب أن يدرك الغرب أنها انعكاسات لتضاد بالرؤية الإقليمية العربية للصراع، فمصر والإمارات تدعم قوات خليفة حفتر بشكل مؤكد، وتحفزه لإفساد عملية الحوار، حيث يرى عبدالفتاح السيسي، قائد الانقلاب في مصر، أن خصومه الإخوان المسلمين في مصر لهم امتداد ليبي قد يشكل خطرًا عليه، أما السعودية كقوة إقليمية منشغلة عن ليبيا الآن بتأمين حدودها من خطر النفوذ الإيراني، ومن جانب آخر فإن قطر والسودان وتركيا يرون أنهم حلفاء للمؤتمر الوطني، ولكنهم يقبلون بتسوية لا تستبعد حلفائهم أو تقصيهم من المشهد، على عكس الرؤية المصرية الإماراتية التي تريد إقصاء طرف نهائيًا من المشهد، بينما تفضل الجزائر وتونس اعتزال التدخل المباشر في الصراع واللجوء إلى الوساطات الدبلوماسية.
الغرب أدرك أن ما يحدث في ليبيا هو انعكاس لتلك الرؤى المتضاربة، والخيارات في ليبيا تعتمد على مدى التوفيق بين هذه الرؤى الإقليمية، وليست القضية الليبية من الداخل فحسب، وإذا كان هناك أملًا في التسوية والمصالحة الليبية، على الغرب أن يُجبر الأطراف الإقليمية أن تنصاع لرؤية ما للحل، لكن سير الجهود الأممية في اتجاه، والصراعات الإقليمية في اتجاه آخر، لا يُعطي معنى لما يفعله الغرب، ويجعله في إطار ضعف وتخبط غربي وعدم امتلاك رؤية للحل، رغم إدراكهم الصحيح لحقيقة ما يحدث في ليبيا.
فعلى سبيل المثال يتحدث مسؤول أمريكي عن الرؤية المصرية للصراع في ليبيا معلقًا بقوله “إن المشكلة مع مصر في ليبيا هي مشكلة نرجسيتها المفرطة، إذ تنظر إلى صورتها في بركة من الماء، وترى ليبيا انعكاس لها، لذا تصاب بالرعب وتتصرف على أساسه، ونحن ندرك أن ليبيا ليست مصر”، هذا الحديث يؤكد أن الغرب يدرك طبيعة ما يحدث على الأرض وإذا أراد أن يكون هناك حلاً جذريًا للأزمة ليبيا عليه أن يتعامل وفق مبدأ فصل الصراع الليبي عن الصراع الإقليمي، الذي غرقت فيه دول عربية لدرجة أنها تريد جر كل الصراعات إلى هذا المستنقع، الذي لا يبشر بأي حل قريب إذا نزله الصراع الليبي.