ترجمة وتحرير نون بوست
كان حلمًا بسيطًا لبثِّ الحياة في أرواح الكثيرين المتعطشين للأمل، فمنذ أن وضع الفرنسيون أقدامهم على شواطئ مصر في عام 1798، أصبحنا في قبضة الماضي الذي انسلخ عن تاريخه، وأطبقت علينا أزمة هويتنا التي اُنتزعت من الذاكرة، ودام منها ومضات فخر يسحقها الشعور العميق بالمهانة.
وهنا جاء الربيع العربي، حيث اعتقد كثيرون أنه فرصة سانحة لإعطاء المنطقة حق تقرير المصير، وكان يُرجى منه أن يحوّل وجهة النظر العالمية عن العرب بعيدًا عن محورية النفط وإسرائيل، الشبحان التوأمان اللذان لازما القضية العربية منذ زمن، لينظر العالم للعرب أخيرًا بعيدًا عن العنصرية وإلى الإسلام بعيدًا عن التعصب.
الربيع العربي كان احتجاجًا مدويًا ضد كل شيء؛ ضد فساد الشركات الغربية المقربة للأنظمة العربية التي تستغل موارد المنطقة الطبيعية لينعموا بممالكهم الفارهة، وضد الاحتلال الأجنبي، وضد مشاعر الخزي والعار التي كانت تنهال على كل تسول له نفسه على الاعتقاد بأن لديه الحق في المقاومة؛ فالربيع العربي كان يتمحور بالكلمة السحرية “الحرية”، والتي كان لها مدلولات مختلفة لدى مختلف الأشخاص، ولكن على الأقل كانت الحرية لدى الجميع تعني التحرر من الظلم والعبودية والاستغلال والفساد والذل.
ولكن الربيع العربي كان كجنين يحاول الولادة في عيادة للإجهاض، فلم تتسن له الفرصة ليرى الضوء ويتنفس الحرية.
أولًا: لماذا تم إجهاض الربيع العربي؟
ببساطة لأن الشرق الأوسط الديمقراطي يحمي بقاء الأنظمة العسكرية والطفيلية ومشيخات النفط العفنة، والتي عملت على مدى عقود بلا هوادة للقضاء على أي مساحة صحية لتطوير المؤسسات المدنية التي يمكنها غرس ورعاية نمو القيم المدنية، فهذه الأنظمة المستبدة لا يمكنها أن تحكم وتستمر في ظل دولة المواطنة، بل إنها تحكم وتتحكم بدولة العبيد.
في الحقيقة تنفس الكثير من الساسة والمثقفين في الغرب والعالم العربي الصعداء إثر فشل ثورات الربيع العربي، لأنهم نجحوا في تفادي خطر ما يسمى بالإسلام السياسي، وبالفعل، أعلن العديد من المفكرين بابتهاج أن ظاهرة الإسلام السياسي ماتت واندحرت أخيرًا بعد إزهاق حياة الربيع العربي.
في مصر، أكبر دولة عربية، ما أعقب ثورة الربيع العربي أصبح نمطًا مألوفًا ومتكررًا منذ الاستعمار: باسم الحداثة والتقدم، مارست الدولة سلوكًا قمعيًا شديد المستوى، واضطهدت الإسلاميين، وحظرت الأحزاب الإسلامية، وأعلنت الحرب على كل تعابير الإسلام التي تعتبرها سياسية، حتى إن عبد الفتاح السيسي ساوى ما بين الإسلام السياسي والإرهاب، وفي مقابلة له مع صحيفة فرنسية، طُلب منه التعليق على حماس، فأجاب أن الإسلام السياسي بكل أسمائه وأشكاله هو واحد ومتماثل، وفعلًا كانت هذه الإجابة تنذر بتحولات المستقبل، حيث أعلنت مصر رسميًا بعدها أن حماس هي منظمة إرهابية، ولكن على ما يبدو، ووفقًا للسيسي، فإن حكومة نتنياهو – التي ارتكبت جرائم حرب وتحتل الأراضي الفلسطينية بشكل متواصل وغير قانوني – هي كيان صديق ووفي.
لا خلاف حاليًا على أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت اشتروا لأنفسهم ثورة مضادة في مصر واليمن وليبيا، ففي هذه الدول تشكلت تحالفات رجعية لاستعادة الأنظمة القديمة البائدة والفاسدة والمنحلة أخلاقيًا، وفي كل دولة على حدة، قامت هذه الدول الخليجية بإغراق الكوادر الفاسدة واليائسة من ضباط الجيش بنقود تكفي لشراء وكلاء لهم داخل البلاد قادرين على التعبير عن القلق الأناني لهؤلاء الطغاة.
بناء عليه، وبدلًا من التفكير بالتحرر والحرية، أصبح جل التركيز الآن ينصب على محاربة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار والأمن، هذه الديباجة التي تستخدمها البلدان المذكورة آنفًا كوسيلة مشفرة ولكنها واضحة للقول: لا يجرؤ أحدكم على أن يحلم بحق تقرير المصير والحكم الذاتي، لأن الإسلام السياسي هو بعبع حاضر دائمًا ومستعد للعودة بكم إلى عصور أو عقود الظلام مرة أخرى.
ولكن هذا التحذير والتهديد هو عجيب وغريب ومجنون بتركيبته اليائسة، ففي المقام الأول هل أخرجت المجالس العسكرية والمشيخات الحاكمة منذ عهد الاستعمار المنطقة من العصور المظلمة أساسًا؟ وما هو بالضبط مفهوم دولة الرفاه المتنورة الحالية التي يجب على المسلمين أن يخشوا من خطر فقدانها بمواجهة الإسلام السياسي؟ وما هي بالضبط الثمار المباركة الموجودة في الدول الديكتاتورية ومشيخات النفط التي يقف البرابرة على أبوابها مهددين باغتصابها؟
ويبقى السؤال الأكثر جوهرية، ما هو هذا الإسلام السياسي الذي يتساوى مع الرجعية وعصور الظلام والهمجية والإرهاب؟
ثانيًا: الإسلام المعتدل والإسلام السياسي
يتم استخدام الإسلام ومذاهبه ورمزيته ودلالاته وبنائه اللغوي باستمرار من قِبل دول الخليج لإضفاء الشرعية على حكمهم والحفاظ على هيمنتهم على السلطة، فاستغلال الدين كوسيلة لإبقاء النخبة المحافظة والمستغلة في السلطة هو العنصر الرئيس في الحياة اليومية ضمن دول الخليج، وكل دولة من تلك البلدان تمتلك وترعى وتحافظ على فئة من رجال الدين العاملين في المؤسسات الدينية التي تخدم كقوة شرعية محافظة للإبقاء على الوضع الراهن لهذه الدول، والذي يتمثل باستغلال العمال الأجانب، وبالشكل المفرط من نخبوية القومية الخليجية.
هذه القومية الخليجية المسلمة والمتزمتة، تتجلى في كثير من الأحيان بممارسات عنصرية وإثنية، تعمل على تعميق جذور عدم المساواة الاجتماعية والسياسية، كما ترسخ بشكل فاجر وفج لحكم المؤسسات الأبوية وللاستبداد السياسي وللسلطوية، ومن الأمور الحاسمة لاستمرار هذه الديناميكية هو أن تقوم الدولة بتحديد وتنظيم وإملاء التعبير الديني وأمور العقيدة، كما يتم استغلال الدين أيضًا في مناحٍ سياسة مختلفة من حكم الدولة، مثل توجيه العداء نحو إيران الشيعية وحلفائها الشيعة الآخرين.
حتى السيسي في مصر والذي يلعب دور حامي العلمانية في المنطقة، لا يسمح بأي تعبير عن القيم الدينية يخرج عن المساحة المحددة والمعرفة من قِبل الدولة، فالدولة تتحكم بنوع دور العبادة التي يتم تشييدها، وتتحكم بموقع هذه الدور، وبالنسبة للدين الإسلامي، تفرض الدولة الخطب التي يجب أن تُتلى في المساجد، وتضع ضوابطًا على الشيوخ فوق المنابر، وتعتمد على رجال الدين المأجورين التابعين للأزهر للدفاع عن شرعية الدولة وعقيدتها الإسلامية في وجه أي معارضة، وجدير بالذكر أن جميع أملاك الأوقاف الخيرية الإسلامية التي توجد في مصر تم وضعها تحت سيطرة الدولة وتم نهبها لاحقًا بسبب الفساد والمحسوبيات، وعلى الاتجاه المقابل لاتزال الأوقاف الدينية المسيحية القبطية تحت سيطرة الكنيسة، بفضل القوانين التي وضعتها القوى الاستعمارية.
استغلال السيسي لدعم الأزهر والكنيسة القبطية لم يتوقف عند حدود جعل هذه المؤسسات تسبح بحمده وتثني على سياسته، بل عمد أيضًا قبيل مجزرة مسجد رابعة العدوية، إلى جمع تشكيلة من رجال الدين لإلقاء محاضرة بضباط الجيش ليشرحوا لهم كيف حض الإسلام على الإطاحة بالحكومات المنتخبة ديمقراطيًا، وللترويج إلى أنه سواء قام عناصر الجيش بالقتل أم تم قتلهم، فإنهم في كلتا الحالتين، سيباركهم الله ويغدق عليهم بجناته ونعيمه.
وفي ذات السياق الهزلي لاستغلال الدين، قامت جامعة الأزهر الموقرة في يوليو من عام 2014 بمنح الملك المتوفى عبد الله بن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية درجة الدكتوراة الفخرية في الفقه والشريعة الإسلامية، علمًا أن الأزهر هو أقدم جامعة في العالم، ويفترض أن يكون أكبر وأعرق مؤسسة إسلامية عالميًا، وبدافع الغيرة ربما، عمدت جامعة المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية إلى منح الملك عبد الله درجة الدكتوراة الفخرية في العلوم السياسية، على الرغم من أن الجامعة ليس لديها قسم علوم سياسية، ولا تقدم شهادات في هذا المجال.
ولكن هل تم تقديم شهادة الدكتوراة الفخرية للملك الراحل بسبب علمه الذي لا ينضب بأحكام الشريعة الإسلامية؟ أو ربما بسبب أخلاقه الإسلامية المعصومة والمتميزة بالرحمة والتراحم والعدالة؟ بالطبع لا، فهذا التقليد الشرفي هو مظهر آخر من مظاهر تسخير الدين لخدمة الدولة، وإن قرار منح الملك السعودي الدكتوراة الفخرية هو عمل سياسي واضح ولا غبار عليه، يظهر بحق الكيفية التي يتم من خلالها استغلال الإسلام لخدمة المصالح السياسية.
وفي خضم الفوضى العارمة التي تعيشها مصر الآن، يخال السيسي نفسه -على ما يبدو – مصلحًا إسلاميًا من نوع آخر، وقرر استخدام موظفي الأزهر البليدين والمتجمدين فكريًا كرواد لحركة الإصلاح المفترضة، ففي خطاب ألقاه في جامعة الأزهر في 1 يناير من عام 2015، عكس السيسي سرد سادته الفكري، بإعلانه أن الآن هو الوقت المناسب لـ1.6 مليار مسلم في العالم للكف عن كونهم مصدرًا للمتاعب في العالم، ومن خلال هذا السرد، لم يسيء السيسي فقط لتيار المسلمين الذي يدعي أنه يخاطبهم، بل لعب أيضًا دور العميل النمطي والتقليدي الذين يبني خطاباته ومعتقداته من خلال الثقافة العنصرية لسيده المستعمر، وهو بذلك لم يعد لديه القدرة على رؤية نفسه من خلال أعين أولئك الذين يقاومون ويرفضون التبعية للقوى الاستعمارية، بل يقيم نفسه من خلال نظرات استنكار أو استحسان أسياده الذين رهن نفسه لهم.
وفي ذات الخطاب، دعا السيسي للتمرد على النصوص المقدسة، ومن ثمّ ارتد إلى موظفيه العاملين في الأزهر وكلّفهم بمهمة تعريف “الإسلام المعتدل”، ولكن ما هو مظهر هذا الإسلام المعتدل؟ وما هي أسسه المعرفية وافتراضاته الفلسفية؟
للإجابة على هذا السؤال يجب علينا أن نعود لنستذكر عددًا من الأدلة التي توضح لنا هيكلية وماهية هذا الإسلام المعتدل، فمن الدكتوراة الفخرية الممنوحة لملك السعودية الراحل، لقيام السيسي بحظر أي ملصقات تدعو للصلاة على روح النبي محمد في مصر، إلى إغلاق جميع الزوايا وأماكن العبادة الإسلامية المملوكة للأفراد في مصر، ولا بد لنا أن نمر أيضًا على الذهنية المقيتة للإسلام الوهابي الذي يبغض التشيع والمهووس بالسيطرة على مساحة الحرية الشخصية وبالهيمنة على تنظيم الممارسات الدينية بالشكل الذي يلائمه، ويظهر هذا الإسلام أيضًا من خلال المفاصل المجتمعية الأخرى مثل مدينة دبي ملعب القذارة العالمي وعاصمة الإتجار بالبشر، ومكة المكرمة التي أصبحت نموذجًا مبتذلًا على التحول الصارخ إلى النمط الاستهلاكي ورأسمالية العم سام، وكذلك الرياض والقاهرة، اللتان أصبحتا نموذجًا لأسوأ أشكال الدولة البوليسية في العصر الحديث.
إذن، ما هو المشترك بين جميع هذه النماذج من الإسلام المعتدل؟ على ما يبدو، فإن الشيء الوحيد المشترك هو أن هذا النوع من الإسلام تعرفه وتضع حدوده وتقوده الدولة، فهو إسلام مسيس بشكل كامل، وهذا النوع من الإسلام المعتدل يمكن حتى أن يُمارس من دولة دينية تنتهج النموذج الوهابي، ويمكن أن يكون استبداديًا، بطريركيًا، سلطويًا، استغلاليًا، قمعيًا، متزمتًا، يمكن أن يكون كل شيء طالما يتفق الجانب السياسي منه مع مصالح الحرس القديم وحلفائه الغربيين، وطالما أنه يُطبق على نوع معين من الضحايا، لذلك، وعلى سبيل المثال، يسمح هذا الإسلام بالإتجار بالعمال من سريلانكا والفلبين أو الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال، لكنه لا يسمح أن يكون هؤلاء من المتعاقدين الأمريكيين في العراق أو من الإسرائيليين في الأراضي المحتلة.
وهنا يستوقفنا سؤال مهم: إذا كان تعريف الإسلام المعتدل يعتمد على الجانب السياسي البحت، فلماذا إذا يتم تصوير مفهوم الإسلام السياسي كفزاعة للعامة؟ ببساطة شديدة يمكننا القول إن نوع الإسلام السياسي الصديق والودود والمقبول من قِبل السيسي والأزهر والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي وحلفائهم، هو الإسلام الذي تصبح فيه الدولة بمثابة الله، فهي تحدده وتعرفه وتديره، وهي تميّز التدين الجيد عن التدين السيء، والدولة تقول لنا ما يريد الله وما لا يريد، لذلك تكون طاعتها واجب قانوني وأخلاقي، والانصياع لها فضيلة أخلاقية.
بالطبع، فإن كل ما تقدم يبقى صحيحًا طالما تصادف أن الدولة التي تطبق الإسلام المعتدل هي الدولة صاحبة الحق في تطبيقه، أما إذا كانت دولة شيعية أو موالية لإيران أو عدوة لإسرائيل أو رافضة للمصالح الغربية في المنطقة، فمن ثمّ يصبح العصيان والتمرد هما الفضيلة الأخلاقية، بل وربما حتى الفريضة الإسلامية، والإسلام السياسي من هذا المنطلق يمكن تشبيهه – نوعًا ما – بالإرهاب، فإذا تم استخدامه من قِبل الدولة المناسبة للغرض المناسب، فهو ببساطة تطبيق لوسائل عنيفة لتحقيق غايات جليلة، ومن ناحية أخرى، إذا تم تطبيقه من قِبل نوع خاطئ من الأشخاص لغرض غير مناسب، فمن ثمّ يصبح استخدام العنف غير قانوني وغير أخلاقي وموجه لترويع الأبرياء.
بناء على ما تقدم، فإن الإسلام السياسي يجب أن يتم تعريفه بأنه أي شكل من أشكال التعبير عن الإسلام بشكل لا يتوافق مع أغراض الأنظمة العسكرية الموالية للغرب ومشيخات النفط في المنطقة، وإذا أردنا الغوص في التفاصيل يمكننا القول إن الإسلام السياسي هو الإسلام الذي يحرض ضد الحكام ورجالات السلطة، أو هو الإسلام الذي يحرض لتخريب امتيازاتهم واستحقاقاتهم الاعتيادية.
بالمحصلة يجب علينا أن ندرك أن مفهوم الإسلام السياسي هو ماهية غير متماسكة بجوهرها، لأن نشر تسمية “الإسلام السياسي” هو محاولة ذات دوافع سياسية تهدف إلى التشويش على هذا المفهوم.
ثالثًا: تصعيد الخوف من الإسلام السياسي
عندما زرت الولايات المتحدة لأول مرة، تعرفت لأول مرة أيضًا على عبارة أصبحت بمثابة تعويذة النوم بالنسبة لي على مدى السنوات الثلاثين المقبلة، وهي “إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، هذه العبارة جعلتني أفكر مليًا وبشكل دائم بإسرائيل، فهي ليست الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط المدعومة مباشرة من الغرب فحسب، إنما يمكن اعتبارها أيضًا ثمرة عضوية من الغرب ولكنها بنفس الوقت ليست الغرب ذاته، هذا الواقع يقودنا إلى أسئلة أشد تعقيدًا، فإلى أي مدى يساعد هذا الواقع على تهدئة المخاوف الغربية حول الطريقة الدينية التي تعتمدها إسرائيل لبناء هويتها، وإلى أي مدى يُنظر إلى إسرائيل على أنها امتداد للحضارة اليهودية المسيحية البيضاء في أوروبا، أو ما يمكن أن يُطلق عليه اسم الحضارة اليهودية المسيحية الغربية؟ وإلى أي مدى يثير تعبير “الإسلام السياسي” القلق الغربي جرّاء تهديد بناء الحضارة الإسلامية؟
في إسرائيل اليهودية السياسية واضحة وفعّالة وجارية على قدم وساق، فالأحزاب الدينية – وحتى الأحزاب الأشد تعصبًا وتطرفًا – تشارك في الانتخابات، وتفوز بمقاعد في الكنيست، وغالبًا ما تشكل جزءًا من الحكومات الائتلافية الحاكمة، وهذه الأحزاب الدينية لها منشوراتها ومطبوعاتها ووسائل الإعلام الخاصة بها، والتي لا يمكن نكران تأثيرها على العملية التشريعية في إسرائيل، علمًا أن إسرائيل لا تملك دستورًا مكتوبًا، وعادة ما يتم تفسير القواعد الدستورية من قِبل قضاة المحكمة العليا العلمانيين، ولكن التقاليد والإيمان اليهودي يوفران الأساس المعياري والإلهام الأخلاقي للعديد من الأطراف السياسية الفاعلة داخل إسرائيل وخارجها، وقبل عام 1948 وبعده.
وبالمثل، هناك أكثر من خمسين حزبًا سياسيًا مسيحيًا نشط في أوروبا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وأسيا، بما في ذلك حزب التراث المسيحي في كندا، وتجمع الشعب المسيحي في المملكة المتحدة، والاتحاد الديمقراطي المسيحي في أوكرانيا، والحزب الديمقراطي المسيحي في إندونيسيا، والحركة الديمقراطية الألبانية المسيحية في ألبانيا، وفي أستراليا بالطبع يوجد الحزب الديمقراطي المسيحي المثير للجدل.
كل هذه الأحزاب والأطراف تتعلق بالهوية المسيحية أو اليهودية وتُعرّف عن ذاتها من خلال هذه الهوية، ولكن مع ذلك لا يتحدث أي منها باسم اليهودية أو المسيحية، وليس هناك شخصًا – مهما حاول أن يبدو خطيرًا – يمكن أن يجرؤ على الإشارة إلى أن هذه الأحزاب السياسية المسيحية أو اليهودية تجمع أو تجسد الخبرات الاجتماعية والتاريخية الدقيقة، المعقدة، ومتعددة الطبقات لليهودية واليهود، أو للمسيحية والمسيحيين، ولكن المفارقة الغريبة هي أن عكس هذا النهج هو الشيء الوحيد المشترك الذي يجمع المملكة العربية السعودية والسيسي والأزهر والدولة الإسلامية (داعش)، وهو أنهم جميعًا يدّعون أنهم يتحدثون باسم الإسلام.
مع تعدد الأصوات المتضاربة والمتناقضة والتي تزعم أنها المتحدث الوحيد باسم الإسلام الحقيقي والصحيح، عمد الكثيرون في الغرب إلى عدم الانصياع أو الاقتباس من أي من هذه الأصوات، بل أسسوا فهمهم للإسلام من خلال استنتاج مفهوم معارضة الذات، بمعنى: بنى الغرب فكره عن الإسلام عن طريق نسب كل صفة ليست بالغرب ولا يرغب بأن يمتلكها للإسلام، وبهذه الطريقة بالضبط بزغت عبارات مثل الإسلام السياسي، فهذا النوع من الإسلام كالإرهاب تمامًا يصعب علينا تعريفه، ولكننا نستطيع أن ندل عليه بمجرد أن نراه، وهذا بالتحديد هو السبب الذي يجعل الكثير من النقاد قادرين على مراقبة فظائع داعش ليعلنوا بعدها بمشاعر متبلدة؛ نعم، هذا هو الوجه الحقيقي للإسلام السياسي!
ولكن مع ذلك، فإن هذه التوجهات قد تفسر كيف تحولت المخاوف الغربية إلى منصة لولادة عبارات مثل الإسلام السياسي، الإسلام المتشدد، الإسلام الراديكالي، الإسلام الجهادي، وجميع الأشكال الأخرى ذات الصلة بالإسلام، وهذه التوجهات أيضًا هي السبب الذي جعل جميع العبارات ترتبط بالمفهوم العام للإسلام بدلاً من ارتباطها بالمسلمين، والفرق بين الحالتين يظهر واضحًا عندما نعالج عبارة “الإسلام المتشدد” ونقارنها بعبارة “المسلمين المتشددين”، فنحن بالحالة الأولى نطبق الوصف على المفهوم العام، أما بالحالة الثانية نخص الوصف بفئة من المفهوم العام.
يمكننا ملاحظة أن جميع المصطلحات الأكاديمية المرتبطة بالإسلام تثبت القلق المستمر والخوف من الإسلام، ولكن هذا التوصيف لا ينطبق على الحكومات الغربية، ولا يفسر سبب اعتماد هذه الحكومات على ذات المصطلحات المثقلة بالقلق لما يصفونه بالإسلام السياسي، كما لو أن الغرب ينتمي بأكمله لحضارة واحدة تقبع في مواجهة حضارة أخرى متمثلة بالإسلام السياسي.
ولتفسير هذه الظاهرة لا بد لنا من الانطلاق من نقطة بداية، وهذه النقطة تتمثل بكون اقتباسات وتصرفات النخبة الحاكمة في مجتمعات ما بعد الاستعمار تنبع من الصراعات الحضارية التي لم تجر ضمن ثقافاتهم الخاصة، إنما ضمن ثقافة أوليائهم وحماتهم الغربيين، وهذا هو حال دول الخليج في الشرق الأوسط على وجه الخصوص؛ فسواء في السنوات التكوينية عندما كانت هذه الدول مؤسسة حديثًا أو في العقدين الماضيين، دول الخليج باتت تمثل الحالات المتطرفة والقصوى من الدول الاستعمارية الحديثة، فبموجب القانون الدولي هذه الدول هي ذات سيادة معترف بها دوليًا، ولكن هامش سياساتها وفهمها وتعاطيها المستقل مع النظام العالمي هو هامش ضيق جدًا، والنخبة الحاكمة في هذه المجتمعات لا يمكنها تصور عالم لا يكون فيه مستعمريهم السابقين – والغرب عمومًا – ليسوا قوة مركزية لهم ولغيرهم في المال والمصارف، التكنولوجيا، الأسلحة، المنتجات الاستهلاكية، تخطيط المدن، التعليم العالي، الترفيه والتسلية، وعمليًا كل شيء آخر.
في الواقع إن دول الخليج تدرك تمامًا القلق الغربي حول الظاهرة التي اخترعها الغرب وطورها والمعروفة باسم “الإسلام السياسي”، حيث تم استيراد هذا العبارة بالكامل، وتم تبنيها عمليًا في جميع العالم الإسلامي، كما لو أنها مصطلح حقيقي متعلق بالإسلام، وعلى الرغم من عدم هشاشة مفهوم العبارة، بيد أنه تم استخدامها على نطاق واسع من قِبل دول مجلس التعاون الخليجي ومصر لسحق الحماس الثوري العربي.
ولكن في خضم استباقها لخطر الإسلام السياسي، هل تصرفت مصر ودول الخليج انطلاقًا من الشعور بالوعي الزائف الذي تم غرسه في نفوسهم من قِبل قوى الاستعمار الغربي؟ من وجهة نظري، يمكن القول إنه منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، هذه هي المرة الأولى التي قادت بها مصر ودول الخليج العالم الغربي، بدلًا من أن ينقادوا له، فهذه الدول استعملت بكل صراحة مصطلح “الإسلام المخيف” ليلعب دورًا وظيفيًا مفيدًا جدًا بالنسبة للنخبة الحاكمة العربية، فالسرد الذي اعتمده الجيش المصري ومشايخ الخليج، خاصة في تعاملهم مع الولايات المتحدة وبريطانيا، ركز باستمرار على إستراتيجية أهون الشرين، وهذه السياسة تقوم بالأساس على قول: نعم، نحن سيئون، ولكن البديل أسوأ بكثير.
هذا المبدأ البراغماتي والوظيفي كان يقف بتناقض صارخ بمواجهة الشعور الغربي، الذي يزعم حمله للواء الخير وتقديسه للقيم الإنسانية والحضارية، وللتغلب على هذه الأزمات ركزت الأنظمة العربية “البديلة” على تعزيز الأفكار المسبقة والمخاوف والقلق الغربي من طَرق البرابرة لأبواب الغرب، والأهم من ذلك كله، كان يجب على البديل أن يطرح سياسة القمع الصريح – مثل السيسي والحكومة السعودية – كإستراتيجية أساسية في المنطقة مقابل الخوف من المجهول في أحسن الأحوال.
وبشكل أكثر تحديدًا ودقة، هناك مجموعة متزايدة من الأدلة على أن داعش هي وحش أُطلق له العنان من قِبل المخابرات السعودية وحلفائها، والأمير سلطان بن بندر لعب دورًا رئيسيًا في هذا الموضوع؛ ففي عام 2011، واجهت السعودية وضعًا مقلقًا إزاء سلطتها الملكية، حيث تم الإطاحة بأصدقاء التاج السعودي في تونس ومصر، وتم قتل غريم السعودية الأبرز في ليبيا معمر القذافي، وأنظمة اليمن والبحرين وسوريا كانت تحت الحصار، وفي ذاك الوقت دارت تكهنات واسعة حول النظام الاستبدادي الذي سيتبع هذه الأنظمة على القائمة.
وعقب التدخل العسكري في البحرين الذي قمع بعنف الانتفاضة الشعبية هناك، أصبحت المملكة العربية السعودية وحلفائها بحاجة لإقناع البيت الأبيض بضرورة قيادة انقلاب لاستعادة النظام القديم في مصر، ويُقال إن الأمير بندر هو الذي تولى مسؤولية خلق تهديدات كبيرة بما فيه الكفاية في الشرق الأوسط لإقناع الإدارة الأمريكية العنيدة بأمرين: الأول هو تهديد الجماعات الإسلامية الشعبية بإنشاء أنظمة حكم في العالم العربي؛ والثاني هو ضرورة التدخل الأمريكي العسكري – إذا لزم الأمر – لقمع الحماس الثوري الذي كان يتفاقم في المنطقة آنذاك، وحماية النظام السعودي إذا تعرض للتهديد.
المملكة العربية السعودية وحلفاؤها كانوا على معرفة بالتحفظات السياسية والاجتماعية العنيفة في الولايات المتحدة حول نشر القوات الأمريكية على الأرض مرة أخرى، وللتغلب على هذه التحفظات كان على المملكة أن تصعّد مخاوف بعبع الإسلام السياسي إلى حد تصبح معه الحضارة اليهودية المسيحية البيضاء مستعدة للتضحية بكل شيء لإخلاء المنطقة من شياطينها، وليس من قبيل الصدفة أن يتزامن كل ما سبق مع إعلان أبو بكر البغدادي نفسه خليفة للمسلمين بهذه الطريقة العلنية والهوليودية، آخذين بعين الاعتبار ألا شيء يداعب مواطن الضعف في الخيال الغربي مثل شبح عودة جحافل المسلمين متّحدين خلف راية الخليفة لفرض حصار على أبواب فيينا مرة أخرى، ولكن مقامرة داعش جاءت بنتائج عكسية سيئة، وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن، ووجد السعوديون أنفسهم وحلفاءهم في نهاية المطاف مهددين بذات الوحش الذي ابتدعوه.
وعقب النتائج العملية التي نجمت عن هذه الأحداث، اضطر البيت الأبيض لإقحام يديه ضمن النار المستعرة، ولكن انقلاب داعش لم يكن وحده ما يسوء السعوديين وحلفائهم، بل أيضًا إصرار البيت الأبيض على عدم إعادة إرسال قوات برية إلى العراق، كما أفادت بعض التقارير، أن عزل بندر كان شرطًا لبدء الحملة الجوية المتصاعدة والعمليات السرية ضد داعش.
رابعًا: المَعِين الفكري والمنهجي لبزوغ الدولة الإسلامية
تم تداول الكثير من الروايات ونسج الكثير من الأحداث حول إسلامية داعش المفترضة، لذا أعتقد أنه من المفيد أن نوجز التعليق على أيديولوجية وذهنية التنظيم، وهنا لا بد لنا من الرجوع إلى بدايات ظهوره في العراق؛ فمن المعروف أن تنظيم الدولة الإسلامية منشق أساسًا عن تنظيم القاعدة في العراق، والعديد من ضباط التنظيم هم أعضاء سابقون في الجيش العراقي الذي حلّته القوات الأمريكية في مايو 2003، وتأسس التنظيم في بداياته استجابة لمزاعم استيلاء الشيعة على جنوب العراق والأكراد على شماله.
فكريًا، وبالإضافة إلى تبني التنظيم الفكر الوهابي كمنهجية أساسية له في الشرع والشريعة، فقد ثبت وجود كتابين كان لهما بالغ الأثر على فكر الجماعات الإسلامية المتشددة في العالم العربي، بما في ذلك تنظيم القاعدة وداعش؛ الكتاب الأول بعنوان إدارة الوحشية (2004) لمؤلفه أبو بكر ناجي، والثاني هو دعوة المقاومة الإسلامية العالمية (2005) لمؤلفه أبو مصعب السوري.
الكتاب الأول “إدارة الوحشية” هو أشبه بدليل مكتوب من قِبل الألوية الحمراء – منظمة إرهابية سرية متطرفة في إيطاليا – وبعيد كل البعد عن شكل الأدب الإسلامي المعروف، يبدو المؤلف – كما يظهر في الكتاب – على معرفة وثيقة بالكتّاب الغربيين كما يتضح من إشاراته إلى بول كينيدي وغيره، كما يعكس الكتاب التأثير الفكري لكبار العلماء الغربيين مثل أرنولد توينبي، مؤلف كتاب دراسة للتاريخ الذي يفسر فيه صعود الحضارات وسقوطها، وصموئيل هنتنجتون، مؤلف كتاب صراع الحضارات، ويقدم المؤلف سردًا لتاريخ الحضارات التي تتنافس باستمرار وتتشابك وتصعد وتسقط، ووفقًا للمؤلف، عندما تصعد الحضارات إلى ذروة قوتها وتحقق الهيمنة الكاملة على العالم، فإنها تدخل في فترة من الوحشية التامة والمتعمدة، وهي قادرة عندئذ على إلحاق الأذى بمن تريد وقتما تريد، وتعمل على القضاء على أي جماعة تتحدى نفوذها المهيمن.
الكتاب شحيح جدًا بمحتواه الديني، ويمكن تلخيصه بأنه دليل حركي لممارسة الفوضى عن طريق ترسيخ الخطوط العريضة لإستراتيجية مفصّلة تعتمد على قيام جماعات المقاومة الإسلامية بالاشتباك مع الحضارة المهيمنة في عصرنا – أي الحضارة الغربية – في حرب استنزاف طويلة، والغرض من هذه الحرب هو إجبار الحضارة الغربية لتكشف عن وجهها المتحيز والهمجي الحقيقي؛ مما سيؤدي إلى تسريع انهيار هذه الحضارة لتعويلها على العسكرة والقوة الغاشمة بدلًا من تظاهرها بالتمسك بالمثل المدنية العليا.
أما الكتاب الثاني لأبي مصعب السوري فيمكن اعتباره دينيًا وفقهيًا أكثر أهمية وتركيزًا، ويقع الكتاب في مجلد واحد مؤلف من 1600 صفحة يزعم فيه المؤلف توثيقه لتاريخ العدوان الصليبي والغربي ضد المسلمين والرسالة الإسلامية، ودلالة الكتاب على التاريخ تنبع بشكل قاطع من نظرة دوغماتية عميقة مفادها أن المسلمين كانوا دومًا ضحايا لفظائع لا تعد ولا تحصى، ارتكبها بحقهم الغرب الجاني المتغطرس والمتوحش.
الكتاب يسلط الضوء بشكل كبير على تبعية المسلمين الحالية ونفسيتهم الانهزامية، ويصور زعماء المسلمين كخدم لمصالح أسيادهم الغربيين، وعلاوة على ذلك، يرى المؤلف أن جميع المصلحين المسلمين مثل محمد عبده (توفي في 1905) ومحمد إقبال (توفي في 1938) هم منافقون ومرتدون، والغريب أن الكاتب استشهد لإثبات ذلك في كثير من الأحيان بمصادر غربية تطعن في مصداقية وإخلاص القناعات الإسلامية لهؤلاء المصلحين المسلمين.
يزعم المؤلف أن الإسلام الحقيقي هو الذي ينتهج ويتبنى المعتقدات الدقيقة للعقيدة الوهابية، وهو بهذا يصم الصوفيين والشيعة والعقلانيين والفلاسفة وأي مذهب ديني آخر – مثل الأشاعرة والماتريديين – ينحرف عن العقيدة الوهابية، بأنه بدعة وضلالة وردة، وعلى الرغم من أن العقيدة الوهابية نابعة من الحركة الوهابية التي نشطت وتمردت وساعدت على تقويض حكم الخلافة العثمانية، بيد أن المؤلف لم يتوسع بتاتًا في شرح مفهوم الحركة التاريخي واقتصر على الدعوة إلى اتباع المنهج، ولكنه مع ذلك وصف ابن سعود بأنه خائن وعميل للبريطانيين، كون آل سعود تحالفوا في بداياتهم مع الحركة الوهابية، ولكن في نهاية المطاف تحالف ابن سعود مع البريطانيين وأفسح لهم المجال لذبح المحاربين الوهابيين والمعروفين باسم الإخوان.
أبو مصعب السوري لا يتورع عن البوح باعتقاده أن الحل الوحيد للمأزق الإسلامي هو التمرد المسلح، ويرى أن حرب الاستنزاف الطويلة ضد الغرب ومصالحه وحلفائه هي السبيل الوحيد لانهيار التفوق الغربي في نهاية المطاف، ويذكر بوضوح عدم وجود أية تحفظات حول قتل المسلمين الآخرين، فمن وجهة نظره معظم المسلمين كفار في الواقع، كما يرى أن الشيعة والمجموعات الطائفية الأخرى أشد خطورة وأكثر استحقاقًا للذم والقتل من المسيحيين أو اليهود، وعلاوة على ذلك، يقر أبو معصب – مثله كمثل الكثير من المفكرين المتطرفين – أن النضالات العظيمة تتطلب تضحيات عظيمة، وهذه التضحيات لها جميعها ما يبررها بقاعدة “حكم الضرورة” الفقهية.
ولكن من وجهة نظري، أعتقد أن الجزء الأكثر أهمية في كتاب أبو مصعب، هو السؤال الذي يطرحه بعد استعراضه لواقع القهر والذل والاضطهاد الذي يعاني منه مسلمو العالم، ويتمثل هذا الطرح بقوله: ما هي البدائل المعقولة لإحداث التغيير الفعاّل؟ الإجابة على هذا السؤال لدى أبو مصعب استتبعت نفيه للكثير من المفاهيم، فهو يزعم أن الصلاة والتصوف وحدهما لن يغيرا شيئًا، ويشير أيضًا أن جميع الذين آمنوا بقوة الكلمة، أو سعوا وراء المعرفة، أو اقتنعوا بضرورة التغيير التدريجي ثبت عقم منهجهم وانعدام فعاليته.
ولكن الأهم من ذلك، هي الحملة الشعواء التي شنها أبو مصعب على الجماعات الإسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين، والتي تعمل في إطار العملية السياسية وتتقبل المثل العليا للديمقراطية وسيادة الشعب، فبالنسبة له، جماعة الإخوان المسلمين هي جماعة مهرطقة وكافرة لقبولها المشاركة في العملية السياسية، وجهودها في هذا المجال عبثية وعقيمة، واستتبع هذا قيامه بتوثيق الدمار أو الاضطهاد أو الانحراف الذي شاب جميع الحركات الإسلامية التي ظهرت في التاريخ الحديث.
بناء عليه – وبعد نقد وتفنيد جميع الحركات الإسلامية الحديثة – يخلص أبو مصعب أن الحل يتمثل بعملية ذات شقين: أولًا يجب الاشتباك مع الغرب والحكومات العميلة التي تتبع له في حروب استنزاف تمتد لفترات طويلة، وثانيًا يجب العمل في نهاية المطاف على إنشاء دولة الخلافة، التي من شأنها أن تصبح وطنًا لجميع المسلمين الحقيقيين في شتى أنحاء العالم، وستعمل كحامٍ حقيقي لهم ولمصالحهم حول العالم.
ويبقى الشيء الوحيد الذي يظهر واضحًا وبشكل لا لبس فيه في أدبيات كلا الكتابيين الراديكاليين هو أنهما لا يعترفان بمؤسسات الأمم المتحدة أو قواعد القانون الدولي، ويزعمان أن الحكام الديكتاتوريين هم الذين قاموا بصياغة وتأسيس هذه القواعد والمؤسسات.
هذا المنهج الفكري يسمى بعقيدة الموت وهي عقيدة يتبعها من قنط من العثور على كرامته واستقلاله الذاتي وتحقيق ذاته وتقرير مصيره على الأرض، بحيث يجد معنى لكل ما تقدم في كونه قاتلًا أو مقتولًا، ويمكننا في الواقع أن نجد هذه النماذج في كل مجتمع مدني من حولنا، وأضف إلى هذه الذهنية، عقد من الوحشية التي مارسها الاحتلال الأجنبي العنصري والمتعصب في العراق وأفغانستان، وستة عقود من العيش في مخيمات اللاجئين التي لا تقدم شيئًا سوى الأيس، وستحصل على حل للغز انضمام هذا العدد الكبير إلى عقيدة الموت، ولكن مايزال اللغز الحقيقي والمحير يتمثل بسبب اختيار داعش بالتحديد للانضمام إلى عقيدة الموت، وهي جماعة تنكّر لها تنظيم القاعدة، وظهرت فجأة على الساحة بنجاحها اللوجستي والعسكري المذهل وبمهاراتها المهنية والمرتفعة المستوى في التنظيم والاتصالات.
خامسًا: قيامة الحرية
لست متيقنًا بتاتًا أن ما يسمى بدولة الخلافة سوف تختفي فجأة كما ظهرت بمجرد ملل مبتدعيها من اللعب بالنار، ولكن يمكننا الجزم حقيقة أن داعش حققت بالفعل الكثير من تطلعات أسيادها المختفين وراء الكواليس؛ فالتنظيم نجح بشكل تام في إجهاض الحماس الثوري العربي الذي حلم ذات مرة بالحرية، كما نجح أيضًا في استعادة الاستقطابات القديمة بين السنة والشيعة والأكراد والأتراك والفرس والعرب، ناهيك عن نجاحه الحتمي في تحقيق المزيد من التهميش للفلسطينيين في محنتهم، ومساعدة نتنياهو على إعادة النجاح في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة.
داعش ساعد أيضًا على ترسيخ موضع قدم الأنظمة البائدة ومشايخ النفط الفاسدين والطغاة العسكريين في السلطة، ولكن الأهم من ذلك كله، هو أن ظهور التنظيم عمّق الهوة ما بين العلمانيين المعتدلين والإسلاميين المعتدلين في العالم العربي، وجسر هذه الهوة وإصلاح هذا التمزق بحاجة إلى جهود للتوفيق ما بين الهوية الإسلامية المتجذرة عميقًا في قلب المجتمع العربي، والشعور الحالي الذي ينشد التعافي من الجراح والتقدم.
نعم، استطاع القادة العرب الفاسدون والحكومات الغربية الجشعة والعنصرية كسر وإحباط الجماهير العربية، كما أن أشباه الأميين وبعض المثقفين المهجرين والمهرجين المحبطين المغرورين الذين يتصورون أنهم يستطيعون التحدث باسم الإسلام، خدموا ويخدمون – بقصد أو بدون قصد – السعي السعودي لاجتثاث الربيع العربي.
أما بعد، فإلى كل أولئك الذين أزعجهم التظاهر بالحزن والتعاطف مع دماء آلاف الشهداء الذين لقوا حتفهم في سعيهم نحو الحرية، لا تستعجلوا ثقتكم بانهيار صرح الحرية والكرامة، فالحرية هي النظام الطبيعي للأشياء، وهي كالحياة ذاتها، وسوف ينبت الربيع العربي مرة أخرى حتمًا، وسيشع في حرارة الصيف العربي المحرقة، أو في رياح الخريف العربي الدافئة، أو في برد الشتاء العربي القاسي.
المصدر: أستراليان برودكاستينغ كوربريشن (هيئة الإذاعة الأسترالية)