مدخل: من الثورة إلى الجماعة، نحو العودة للثورة
ذات “هبة”، “انتفاضة” من خارج مسلمات العملية السياسية التقليدية تبلورت حراكًا ثوريًا تجاوز لدى اشتعاله على امتداد الجغرافيا وسِعة التاريخ المركزيات النمطية سواء طبيعة التنظيم الحزبي أو مضامين المطالب والشعارات المرفوعة.
بدأ الحراك الثوري الراهن متجاوزًا المسلمات السياسية التقليدية ومخترقًا المنظومات الأديولوجية المتشظية أصلًا، وذات “مخاض” بدأ ولم ينته بعد بل يتواصل كسيرورة متقطعة كلما ارتفعت أصوات النخب ومطالبهم على حساب أبجديات الحراك الأولى، ومع بروز “الإسلاميين” كمنظومة أديولوجية وبروز “الإسلامي” كمعطى معرفي – سلم البعض بأننا تجاوزناه بفعل عواصف الحداثة والعولمة – ، فتبين أنه أهم منطلقات المقاومة المجتمعية المختزنة في الضمير الجمعي العام.
لكن صيغة السؤال “الإسلامي” والإجابات عليه من قِبل الحركات الإسلامية الصاعدة نحو “الحكم” ذات انتخابات جائت مستعجلة لا منتظمة، ربما لأن الارتباك أصاب كل المنظومات الأديولوجية مع انتشار الحراك الثوري في رقعة الجغرافيا وتمدده في تفاصيل التاريخ المحلي والعالمي، فانكشفت هشاشة البنى الأديولوجية والتنظيمية سواء بفعل سنوات استبداد الحاكم المحلي وطبيعته الأمنية القمعية أو جراء سنوات الارتهان الجماعي الثقافي والاقتصادي للمستعمر الأجنبي.
إذًا قبلت النخب والأحزاب بإدارة “اللعبة السياسية” من داخل مسلمات النظام العالمي وبمُسَالمة النظام القائم محليًا وكيلًا عن النظام الدولي، مراهنة على “الانتقال السلمي للسلطة” من النظام القديم لنظام جديد منشود، ولكن تَبين أن أكبر مغالطة رددتها النخب القديمة – الجديدة في زمن “مابعد الثورة” (كما يحلو لها تسميته، وكأن الثورة حدث ماضي ومنجز) هو ما اصطُلِح عليه بـ “الانتقال السلمي للسلطة”، فبينما كان هذا الخطاب يكرر على مسامع الشعوب كانت تتم عملية طمأنة النظام القديم المحلي – ومن ورائه النظام الدولي – على مصالحه مقابل تسليم جزء من السلطة “للحكام الجدد”، وهنا كانت المناورة الكبرى.
استلم “الحكام الجدد” سلطة دون أن يكون لهم سيادة فعلية، ورثوا مؤسسات دولة غير قادرين على التحكم فيها، رضوا بهذا الواقع أو تفاجأوا به ليس الإشكال هنا لأنهم أصلاً لم يصعدوا من أجل تحقيق التغيير الحقيقي المأمول وهو المطلب الرئيسي للحراك الثوري، والآن وأمامنا تجربة مصر وإلى أين أدت بفعل التكتيك التقليدي المتبع المتمثل في القبول بقوانين النظام القائم وحتى التحالف معه إذا لزم الأمر (أو هكذا بدا لهم).
هكذا أضاع “الحكام الجدد” في مصر، وهاهم يسيرون نحو ذلك في تونس وغيرها، “لحظة فارقة” في الزمن العربي وتمزقوا بين وعود “تطبيق الشريعة” وخطاب “التدرج” فتبين أنه التدرج للعودة الكاملة للنظام القديم بينما كانوا يسيرون إلى التدحرج نحو الهاوية، آخذين معهم مسار الثورة وطموحات الشعب والجماهير وحتى التنظيم الذي يقف خلفهم، جاءت ضربات مصر قاسية وموجعة، نعم وكارثية مبدئيًا في آثارها.
لكن إذا فهمنا طبيعة الوقائع والأطراف الرئسية في المشهد العام نجد أن الأمر يبدو طبيعيًا، فالقبول بإدارة اللعبة السياسية بقوانين النظام وتجاهل الحراك الثوري ومطالبه لن يؤدي إلا للواقع الحالي خاصة بالنسبة لجماعة الإخوان (أو لسائر الحركات الإسلامية التقليدية الأخرى) التي ليست هذه التجربة الأولى التي تخوضها في إدارة الصراع بهذه الكيفية، ولأن جماعة الإخوان والحركة الإسلامية عمومًا بتنظيمها التقليدي وبنيتها المعرفية الأديولوجية التي لم تستوعب الحراك الثوري (هذا ينطبق أيضًا على البنى الأديولوجية الأخرى) وقفزت لاسترضاء النظام المحلي والمنظومة الدولية بالقيام بتعديلات براغماتية على خطابها وبرنامجها وهو ما بدأ خاصة بعد 2001.
نعم، أضاعت الجماعة/ التنظيم “اللحظة الفارقة” لوجود استعصاء ذاتي تنظيمي ومعرفي فكري، لكن اللحظة الفارقة مازالت سانحة وممكنة أمام جيل الثورة (أي الشباب) فالحراك الثوري كما انطلق شبابيًا لا يمكن إلا أن يستمر ويتواصل شبابيًا خارج منطق العقول المستعارة ووصاية النخب التي سقطت في استدعاء إشكالياتها التي لم تجد لها مخرجًا خاصة لما باغتها الحراك الثوري وطرح تحديًا تجاوز إمكانيات خطابها السياسي أي “إسقاط النظام” .
التيارات الإسلامية وعقدة التنظيم أو العجل المقدس
كانت فكرة التنظيم المركزي الحديدي أحد تعاليم الإخوان (وما يصطلح عليه بالحركة الإسلامية عمومًا) الأولى وأبرز الثوابت الأدبية للحركة وارتبط هذا النمط من التنظيم بواقع الاستبداد السياسي سواء في عهد الاستعمار (فترة الملك فاروق) أو في حقبة الصدام مع الأنظمة الحاكمة المتوالية في مصر (عبد الناصر، السادات، مبارك).
وتطور التنظيم من أداة رئيسية لتنزيل المشروع إلى “عقيدة” للجماعة، مع أن التنظيم حمل من البداية بذور التطور لهذه الحالة التنظيمية، لكن لم يأخذ الشكل النهائي الموغل في الانغلاق والتشديد في المركزية إلا في تفاعل مع واقع الاستبداد وتأثرًا بالتنظيمات السياسية الأخرى التي برزت في نفس السياق التاريخي (الأحزاب الشيوعية والقومية).
وبذلك برزت الجماعة/ التنظيم/ الحركة كمفهوم موحد والآن يظهر باعتباره الحلقة الأصلب التي اصطبغت بها الأدبيات الحركية والممارسة السياسية والاجتماعية للـ “الحركة الإسلامية”.
نتيجة هذا الانغلاق التنظيمي الذي تجاوز التنظيم في بعده الإداري أو الفني والتقني برزت عدة إشكالات ليصبح التنظيم مركز التصور الفكري إلى أن أضحى “الولاء والبراء” يعقد على أساس الانتماء التنظيمي، الأمر الذي انتقل حتى للتنظيمات والجماعات الإسلامية الأخرى، وأضحت الإخوة التنظيمية مقدمة على الإخوة الإيمانية المفترضة، بل الغريب أن الانفتاح لم يكن إلا على بقايا النظام “الفلول” تطبيقًا لسياسات التنظيم المتمثلة في عدم الذهاب في ممارسة سياسية تستوعب مطالب الحراك الثوري، إضافة إلى أن الرهان على الدولة أدى إلى السعي للمحافظة على التنظيم قدر الإمكان بل نقل “عقلية التنظيم” إلى الدولة أي دخول الدولة بـ “الجهاز التنظيمي للجماعة/ الحركة” والحال أن الدولة لها بنيتها المركزية، فقاومت أجهزة الدولة العميقة (التي تتموضع في بُناها القوى الدولية استخبارتيًا وأمنيًا واقتصاديًا وواصلت تموضعها منذ بداية الحراك الثوري واستثمرت الوضع القائم لذلك) عملية تسلل التنظيم/ الجماعة للدولة، معتبرة أن العنصر الإسلامي، سواء التنظيم أو الخلفية المعرفية والأديولوجية للنخب الإسلامية، طارئ على الدولة ولا يمكن أن تسمح له بولوجها مهما قدم من تنازلات وإعلانات حسن نوايا للقوى التقليدية المتنفذة والمسيطرة على البنية السفلى للدولة.
كما أن الإشكالات التي أفرزها التنظيم تبرز في تفاصيل الممارسة الحركية للجماعة، فهي تُخضع جميع الأفراد فيها لسطوة المركز (المرشد أو الشيخ، مكتب الإرشاد أو السلطة العليا فيها) وتقليديًا نجد كتلة قيادية صلبة داخل التنظيم تمسك مفاصل الحركة وتتحكم في القرارات، إلى درجة أن الفرد داخل التنظيم/الجماعة اكتسب قابلية للولاء والطاعة وأي محاولة لمخالفة مقرارت التنظيم المركزي تعني بالنسبة للإخوة في الجماعة شقًا لوحدة الصف وخروجًا على الجماعة، قد يبدو هذا الكلام للمتابع من خارج التنظيم للوهلة الأولى غريبًا نوعًا ما لكن بتأمل طبيعة الممارسة الحركية والمنطق الذي يحركها خاصة شكل الولاء الأعمى الذي يبرز من خلال ما تسميه الجماعة وأفرادها الثقة في القيادة التي جعلت الحركة من خلال الكتلة الصلبة المتنفذة الحاسمة فيها مجرد آلة/ مَاكِنَه لا تقبل أي محاولات لتعديل مسارها أو إصلاحها من الداخل وأي سعي لذلك يقابل إما بالعزل أو الخروج الطوعي أو تقزيم الحجم داخل الحركة/ الجماعة/التنظيم أو حتى الاحتواء من خلال توزيع المواقع، بهذه الكيفية تحول التنظيم إلى فلسفة حركة موغلة في المركزية والانغلاق.
والآن على وقع مراجعة المراجعات وطرح الأسئلة المؤجلة لدى الجماعة وأفرادها: بأي منطق أن يستمر تنظيم كان وليد لحظة تاريخية لها متطلباتها إلى هذه اللحظة لحظة الثورة والتغيير.
إننا وفي هذا السياق الثوري الراهن المتردد مدًا وجزرًا لا يمكن أن نبارك أي خطوة تصدر عن سلطة استبدادية قمعية (الحل القضائي أو الإداري لجماعة الإخوان بمصر أو أي حركة إسلامية تقليدية أخرى داخل مصر أو خارجها)، لكن وأمام الاستعصاء التنظيمي الداخلي للجماعة وعدم القابلية للاستيعاب المعرفي لتحولات السياق الثوري وإصرار قيادات التنظيم على عدم مراجعة مواقفها أو تقييم تجربتها – نذكر أن الداعية الإخواني صلاح سلطان وأحد أعضاء تحالف دعم الشرعية بمصر نشر رسالة اعتذار للشعب المصري “رسالة صلاح سلطان: إعذار إلى الله واعتذار لمصرنا وأهلنا” فتصدى له محمود حسين الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين وأحد الرموز التنظيمية لجماعة الإخوان ليرد عليه بالقول إن موقف سلطان لا يلزم الجماعة ولا خيار إلا رفض الانقلاب والسعي لعودة الشرعية، يذكر أن موقف صلاح سلطان لقي قبولًا وتفاعلًا خاصة لدى الفعاليات الشبابية المختلفة سواء كانت إخوانية أو من خارج الدائرة الإخوانية.
فإذا كان مطلوبًا كسر نمطية التنظيم وإسقاط النزعة القدسية على الممارسة السياسية لقيادة الحركة/ الجماعة، فإن هذه المهمة لا يمكن أن تضطلع بها رموز التنظيم وجيل المحنة الذي تربى على السمع والطاعة للقيادة رغم التجاوزات التي وقعت فيها وإصرارها على مراكمة الخطأ.
فإن جيل الثورة سواء الذي يراوح مكانه على هوامش التنظيم ويعيش حالة من التململ بين مقرارت التنظيم وحقائق الواقع أو الشباب الذي يتحرك خارج إطار التنظيمات والأحزاب كحراك مجتمعي عام سواء الأنشطة المهيكلة أو الخارجة عن أي هيكلة معلنة، هذا الجيل يتجاوز مسلمات الجماعة والتنظيم ويفرض ذلك كواقع اجتماعي متجاوز لأدبيات التنظيمات التقليدية.
ومع تواصل الحراك الثوري في مصر خاصة في بعده الشبابي سواء في الجامعات أو خارجها بالإضافة لحالة ارتباك بنية التنظيم الإخواني (أنباء عن لقاء كل من القياديين الإخوانيين محمد بشر وجهاد حداد بمحمد حسنين هيكل، رسالة صلاح سلطان ورد محمود حسين، تواصل الحراك الشبابي في الشارع والجامعات …) بالإمكان أن تطفو للسطح الأسئلة العميقة والمحرجة بأن يعيد الشباب التفكير في وضعية التنظيم الحالية وأن يواصلوا التَنَظُم وفق واقع الحراك الثوري المنتشر بالأحياء والقرى والأرياف المصرية بصياغة أشكال تحرك مقاومة لاستبداد العسكر وبلورة أشكال تَنَظُم شبكية تستجيب للمرحلة الحالية وتكون قاعدة لتنضيج نمط تَنَظُم قادر أن يحفظ زخم الحراك الثوري وأن يعيد تأصيله في الوعي والممارسة على المدى الآني والإستراتيجي.
وبذلك يمكن تحطيم “العجل المقدس”/ “التنظيم” والعودة للواقع واستقراء حقائقه وصياغة برنامج المرحلة الحالية واستشراف المرحلة القادمة في سياق الحراك الثوري عمومًا، وإعادة بناء مفهوم الحركة الإسلامية باعتبارها جملة الحراك المجتمعي، ومواصلة النشاط في إطار مجموعات عمل وحركات شبابية مفتوحة تتجاوز أي وصاية للأهرامات السياسية النخبوية التقليدية.
البنية المعرفية “الحركية” (للجماعة/ للحركة): عقم الأدبيات التقليدية ومخاض أسئلة الحراك الثوري
جاءت مراجعات الإسلاميين غالبًا تحت ضغط عصا الجلاد “الحاكم المحلي” أو بفعل ضغوطات النظام الدولي أو الخصم الأديولوجي حوارًا وصدامًا ولم تتجاوز مسلمات التنظيم وممكنات الجماعة.
فأزمة مراجعات الإسلاميين أن دوافعها تبقى خارجية أي غير نابعة من أسئلة ذاتية (تلك الأسئلة التي بقيت معلقة)، فكأننا بالمراجعات إجابات عن أسئلة “الآخر المخالف” ولا تطرح السؤال نحو البنية المعرفية الذاتية أي لا تُسائِلُ الأدبيات الحركية التقليدية ومضمونها المعرفي.
ومنذ انطلاق الحراك الثوري سارع الإسلاميون و خاصة الصاعدون منهم للسلطة، إلى فرز الأرشيف وترتيبه بشكل يستجيب لمتطلبات مرحلة الحكم، أو في أقصى الحالات العودة لأهم مراجعات خاضوها على عجل بعد التنكيل والحصار الأمني والمحاصرة الفكرية من قِبل الأنظمة الحاكمة والنخب محليًا وعالميًا.
ويبدو التركيز على مسألة الوسطية وما يترتب عنها – التي استهلكت إعلاميًا بشكل بارز – هي المراجعة الأهم في هذا السياق، التي لم تكن إلا إجابة تلفيقية على أسئلة أعمق طرحت بشكل مزيف ومغلوط، فمسائل كــ “مناهج التغيير” و”الموقف من الديمقراطية” تبلور الموقف منها في شكل “تلفيق معرفي” بين مفهومي “الشورى” و”الديمقراطية” ومرد ذلك أزمة أعمق داخل بينة المعرفة الإسلامية الحالية السائدة، أساسها إشكالات “السياسة الشرعية”/ “الفقه السياسي” وارتباط هذه الأزمة بواقع الاستعمار (التبعية، الدونية …) الثقافي والاقتصادي، فاستعجل الإسلاميون الرهان الديمقراطي والحال أن ما اصطلح عليه بـ “المشروع الإسلامي” واستتباعات تنزيله واقعيًا أوسع من تَسلم إدارة جزء من دولة مرتهنة لدوائر النهب الدولي ومافيات الاقتصاد المحلي.
أي أن الدولة بطبيعة تركيبتها الأمنية والسياسية والاقتصادية لا تستجيب لمشاريع “الأسلمة الشكلية” ولا حتى محاولة اقتسام السلطة مع بنيتها العميقة.
كما أن التغيير المنشود منذ اندلاع شرارات الحراك الثوري يتطلب فهم السياق المجتمعي ومتطلباته وعدم تجاوز مراحل التغيير بعدم استيعاب السنن الكونية للتغيير والسقوط في استعجال الصعود للسلطة، وهو ما سقط فيه الإسلاميون منذ عقود.
فخطاب “الأسلمة الشكلانية” لم ينقذ إخوة التنظيم بالجماعة بقدرما أوقعهم في فخ معرفي شائك من خلال الهرولة نحو محاولة أسلمة المظهر والخطاب دون تعميق الفهم واستيعاب إشكالات الواقع ومتطلبات تنزيل الفكرة في تفاصيل هذا الواقع؛ فتبلور المولود هجينًا معرفيًا، لأن الإشكال اليوم لا يمكن اختصاره في القفز نحو أسلمة الواقع بكل إشكالاته دون فهم هذا الواقع والآليات التي تحركه.
فالسقوط بالقبول بتبني وكفالة تركة الاستبداد والتحالف مع لوبيات الدولة العميقة أحد نتائج غياب رؤية إستراتيجية عميقة سواء تجاه الثوابت الشرعية أو تجاه متغيرات الواقع، بالسقوط في اجترار خطاب “الملاءمة والمواكبة” دون فهم واستيعاب إشكاليات الأزمة التي تعيشها الأمة، والحال أن الحراك الثوري جاء كاشفًا ومُعريًا لهذه الإشكالات نحو إعادة التأسيس والوعي بأزمة الدولة الموروثة عن المستعمر وأهمية المجتمع في مسار إعادة التأسيس.
أي أن اللهث وراء الدولة وهي تركة استعمارية للتغيير من داخل منظومتها خيار اضطراري إشكالي أثبتت التجارب الإسلامية المعاصرة أنها محاولة تنتهي إما بالاندماج في إطار الدولة بأن يحتوي النظام المحلي والمنظومة الدولية “الحركة الإسلامية”، أو الدخول في صدام مسلح كردة فعل مع الدولة دون قراءة العواقب المحتملة لردة الفعل هذه، والحال أن عموم ما يطلق عليهم بالإسلاميين في حاجة لبلورة خيار آخر ينطلق من متطلبات اللحظة الحالية وتقييم التجارب السابقة والمراكمة على التجارب دون السقوط في تكرار الأخطاء التي سبق أن وقعوا فيها، وهنا تبدو العودة لفهم الواقع والجذور التاريخية للأزمة التي يعيشها المجتمع وصياغة حل يكون قاعدته الأساسية المجتمع أمرًا لا مفر منه ودونه خيبة أخرى إذا ما تواصلت حالة مراكمة الخطأ واستمر الاستعلاء على التقييم.
إن الانسياق وراء الدولة يعكس إشكالية أعمق داخل البنية المعرفية للحركة الإسلامية نتجت عن تعطل الاجتهاد وأولوية السياسي في صيغته الحزبية والتقليدية، فالإقرار بضرورة الحل الجذري للأزمة لا يعني تقديم حل جذري سياسي مدخله الدولة، بل إن الحل الجذري المطلوب يتقاطع فيه أساسًا المعرفي/ الفكري في علاقة بإشكالات الواقع، فأحد إشكاليات الأدبيات الإسلامية الحركية أنها لم تعن ببناء المعرفة العلمية وجاءت كردة فعل في سياق انفعالي ولم تتجاوز ردة الفعل.
أما المطلوب اليوم فهم مأزق الحركة الإسلامية التنظيمية التي تشظى خطابها بين الدعوي الوعظي والسياسي البراغماتي، والمدخل لذلك العودة للواقع واستقراء تفاصيله وتأصيل الثوابت الشرعية والسنن الكونية في التغيير والثورات التي دائمًا ما استعلى عليها الإسلاميون، والعمل على تثوير بنية المعرفة التقليدية بفهم أن أحد مداخل إعادة التأسيس استيعاب سؤال المعرفة العلمية.
مما يعني أن الإشكالات التي تطرحها هنا شديدة الارتباط ببعضها البعض فلا يمكن للحركة الإسلامية (وهذا المفهوم في حاجة لإعادة التعريف من جديد بأن يتجاوز التنظيم الجماعة ليشمل كل حراك المجتمع) التفكير في تقديم بديل لأحد عناصر الواقع الحالي (نمط الدولة، النظام الاقتصادي …) دون العودة لتأصيل خطابها المعرفي واستيعاب متغيرات الواقع، أي الحراك الثوري الذي جاء كنتيجة لفشل كل المحاولات النخبوية للنهضة في العالم العربي.
ويبرز هنا خطورة الاختراق المعرفي النيوليبرالي الذي تسلل للحركة الإسلامية من بوابة الاستغراق في السياسي الحزبي التقليدي واعتمادًا على تمشي معرفي تلفيقي وفق منطق الملاءمة والمواكبة بين الأصالة والمعاصرة، فأضحت الانتهازية السياسية والبراغماتية والممارسات الليبرابية الفجة التي نتجت عن ثغرات الخطاب الإسلامي الوعظي التقليدي والسياق الحزبي الاستهلاكي موافقة لمقاصد الشريعة الإسلامية! فعندما عجزت الحركة الإسلامية عن صياغة بدائل مقنعة وعميقة لجأت للمدخل المقاصدي لتستغله كمخرج/ مُنقذ تبريري دون استيعاب المبحث المقاصدي في أصول الفقه وفي نظريات المعرفة عمومًا كمدخل حقيقي لإعادة تأصيل الأصول وهي المهمة المؤجلة بفعل الانسياق وفق “إكراهات” السياسة و”ضغوطات” القوى الخارجية.
وتبدو اليوم الحركة/ الجماعة/ التنظيم غير قادرة على القيام بهذه المهمة لوجود استعصاء بنيوي معرفي وتنظيمي، أمام تحدي “تأصيل الأصول” الذي يمكن أن يكون المدخل الرئيسي للتجديد وإعادة بناء التصورات المعرفية والمشروع السياسي وهو الأمر العسير خاصة زمن عولمة اغتصاب المعني وإدماج الجميع ضمن ديانة السوق.