محاولات مستميتة للنظام العسكري في مصر لتشويه الملف الحقوقي المصري، سواء أكانت تلك المحاولات باختلاق أتباع النظام المندسين بين القوى المعارضة له القصص المزيفة لانتهاكات تقوم بها قوات الأمن بحقهم، ومن ثم يخرجون على الفضائيات الموالية للانقلاب نافين حدوث تلك الانتهاكات من الأساس، واصفينها بأنها فبركات وادعاءات للمعارضين يقومون بها لكسب التعاطف معهم، وإن كانت مثل تلك الانتهاكات تحدث بالفعل، ولكنها محاولة لتكذيب أي وقائع حقيقية مشابهة لها، يتم ذلك أيضًا بادعاءات الداخلية المصرية بأنها تحترم حقوق المعتقلين وتنفي عن نفسها شبهة القيام بأي انتهاكات عن طريق البيانات التي تخرج بها يوميًا أو ببعض الإجراءات كالإفراج الصحي عن معتقلين، رغم أن العشرات مازالوا يعانون من ظروف صحية غير آدمية تودي بحياة بعضهم يوميًا واحدًا تلو الآخر، وربما كذلك تكون بادعاءات احترام حقوق الإنسان من قبل منظمات هي بالأساس فروع للداخلية تنافح عنها في محافل حقوق الإنسان دوليًا رغم أن الواقع يكذبها بتعرض المئات يوميًا للتعذيب في أماكن احتجاز غير آدمية بالمرة على مرأى ومسمع من الجميع.
الواقعة الأخيرة التي أثارتها الفتاة “فاطمة يوسف” مثال واضح لمثل تلك المحاولات، بعدما خرجت الفتاة في برنامج على قناة المحور الموالية للسيسي تتحدث عن استغلال الإخوان لها للادعاء بأنها اُغتصبت على يد رجال الشرطة أثناء اعتقالها في قسم المرج، متهمةً الإخوان بأنهم من أملوا عليها أن تخرج سابقًا على فضائية الشرق المحسوبة على المعارضة وتتدعي تلك الترهات، رغم عدم نفي وقوع القناة في خطأ مهني بعدم التثبت من الحالة، ومع اشتعال مواقع التواصل الاجتماعي بعد الواقعة الأولى بخروجها على فضائية الشرق وخروج عدد من الطلاب مؤكدين أنها تخرج معهم في التظاهرات منذ فترة لا بأس بها، لكنهم أكدوا أيضًا أن الفتاة تسببت في تسليم عدد كبير من زملائهم للشرطة، وأنهم يشكون في حقيقة انتمائها، مطلقين عليها وقتها وصف “الأمنجية”.
بدا جليًا أن قصة تلك الفتاة هي محاولة لنفي جريمة الاغتصاب عن رجال الشرطة، لإظهارهم في دور ضحايا اتهامات وافتراءاتٍ كاذبة، بيد أن الأرقام والوقائع التي سجلت حول حالات الاغتصاب التي تجاوزت الـ 50 حالة اغتصاب، خاصةً وأن حركة نساء ضد الانقلاب قد أعلنت في وقت سابق أنها وثقت بالأوراق والتقارير الطبية أكثر من 20 حالة اغتصاب قام بها رجال الشرطة بحق فتيات ونساء بسبب انتمائهن السياسي تكذب تلك القصص المختلقة.
واقعة اغتصاب فتاة الترعة البولاقية بالقوة من قِبل رجال الشرطة في سيارة نجدة، والتي أثبتها بالفعل الطب الشرعي، حُبس على إثرها أميني شرطة في قسم الساحل 4 أيام في ديسمبر الماضي، قبلما يتم الإفراج عنهما في تعتيم إعلامي واضح على القضية، وكذا الواقعة التي سردتها الطالبة الأزهرية ندى أشرف بنفسها عن تعرضها للاغتصاب داخل مدرعة للشرطة بالحرم الجامعي أثناء اقتحام الجامعة أواخر ديسمبر الماضي على يد ضابط شرطة.
فبركة المواقف ومحاولة تشويه الحقيقية ليس وحده السلاح الذي حاول به الموالون للنظام العسكري إفشال الملف الحقوقي وتكذيب الانتهاكات الموثقة به، بل أيضًا إن بعض الإجراءات التي يقوم بها النظام والتي تبدو وكأنها إنسانية لدرجة بعيدة كالإفراج عن بعض الطلاب والحالات الصحية الحرجة، هي محاولة أخرى في الحقيقة لاستخدام ذلك كديكور إعلامي لإبطال مصداقية الملف الحقوقي بالكامل، كإصدار النائب العام قرار بالعفو الصحي عن عشرات المعتقلين في قضايا سياسية، قبل أيام، بالرغم من تخطي عدد الحالات المرضية بأمراض مزمنة داخل السجون المصرية الـ 5000 معتقل، دون أن ينظر إليهم أحد.
تزامن مع تاريخ صدور القرار وفاة المعتقل الشاب “وليد علي طغيان – 25 عامًا” في مقر احتجازه بسجن جمصة، بعد تدهور حالته الصحية داخل السجن لمرضه بالسرطان، فيما حرم من دخول الدواء أو الرعاية الصحية المناسبة، كما لم ينظر إليه في هذه الإفراجات الديكورية، ليكون المعتقل رقم 23 الذي يلقى حتفه بسبب الإهمال الطبي داخل السجون المصرية في العام 2015.
إصدار مصر تقريرًا في الاستعراض الدوري الشامل بالأمم المتحدة بشأن احترامها للحريات وحرية التعبير والتظاهر، وتجريم كافة أشكال العنف بحق المرأة وتأكيدها على اعتبار التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم، والتزامها بضمانات المحاكمة العادلة، في تقريرها الصادر لمجلس الأمن بالأمم المتحدة بشأن قبولها 224 توصية من أصل 300 من توصيات الدول المطروحة في الاستعراض الشامل، كل ذلك يثير نوعًا من الكوميديا الساخرة بشأن إصدار هذا التقرير.
الأمر في الواقع بدا مختلفًا تمامًا؛ فاحترام حقوق المرأة وتجريم أشكال العنف الممارس بحقها لم يكن بالتأكيد في اعتقال نحو 3000 امرأة منذ انقلاب الثالث من يوليو وتعرض عدد كبير منهم للتعذيب النفسي والبدني خلال فترة الاعتقال، فيما زال أكثر من 50 منهن قيد الاعتقال في ظروف احتجاز غير مناسبة، أو في قتل أكثر من 90 امرأةً خارج إطار القانون في التظاهرات المعارضة للنظام العسكري، وبالتأكيد لا يبدو احترام الحريات والحق في التظاهر بقتل نحو 50 مواطنًا في تظاهرات مناوئة للنظام في الأشهر الثلاثة الماضية فقط بالتزامن مع تقرير مصر الصادر للأمم المتحدة، هذا بينما لن نتحدث عن المجازر التي ارتكبت في حق المعارضين منذ انقلاب الثالث من يوليو.
ولم يظهر قبول مصر توصيات الدول بشأن اعتبار التعذيب جريمة محرم استخدامها، في وفاة مئات الحالات داخل أماكن الاحتجاز تحت آثار التعذيب، آخرها وفاة المحامي “الإمام محمود إمام عفيفي” قبل أيام في قسم شرطة المطرية على إثر التعذيب المستمر الذي تعرض له، وكان القسم ذاته قد شهد أكثر من 10 حالات وفاة منذ بداية العام الجاري بالتعذيب.
وكذا لم تكن توصية ضمان مصر المحاكمات العادلة في إحالة مئات المدنيين للمحاكمات العسكرية وإصدار أحكام بالجملة لعشرات السنوات، أو أحكام الإعدام التي تجاوزت الـ 1000 حكم بالإعدام.
“الداخلية تهيب بالمواطنين التواصل معها بشأن أي واقعة أو تجاوز لحقوقهم وذلك في إطار حرص الوزارة على العلاقة القوية بين الشرطة والمواطنين ورفضها لكل أوجه التجاوز أو القصور في الأداء، والتي قد تصدر من بعض رجال الشرطة كسلوك فردي لا يعبر بأي حالٍ من الأحوال عن إستراتيجية وزارة الداخلية”، جزء من أحد بيانات وزارة الداخلية المصرية الذي صدر مطلع الشهر الجاري.
فبالطبع جرائم الداخلية المتشابهة في الجرم وآلية التنفيذ والمتكررة على مستوى الجمهورية هو سلوك فردي من رجال الشرطة، ولابد ألا نسمح لخيالنا المريض بالتشكك برهة في كون تلك الممارسات نهجًا قمعيًا للوزارة، فاختطاف 3 طلاب في الشرقية وقتلهم بالرصاص الحي وتفجير قنبلة بجوارهم لاتهامهم بالإرهاب سلوك فردي لرجال الشرطة، لا علاقة له باختطاف مواطن في المنوفية وقتله بالرصاص الحي، أو بقتل آخر في منزله بالجيزة تحت ذريعة انتمائه لجماعات إرهابية، لا يربطه علاقة بتاتًا بقتل غيره في منزله بكرداسه أو تصفيه آخر بشقته في الإسكندرية، أو اختطاف منتمٍ للإخوان بالقليوبية وتعذيبه حتى الموت، أو تفجير 5 آخرين من المعارضين بالقنابل في بني سويف لإلصاق نفس التهم الواهية بهم، ولا يجب علينا كذلك الربط بين وقت مقتلهم جميعًا خلال الشهرين الماضيين بعد تولي مجدي عبدالغفار وزارة الداخلية، فهو بالتأكيد سلوك فردي لكل رجال الشرطة.
ولأن الوزارة أشارت في تقريرها أن منهج العمل داخل كل قطاعات الوزارة، يعتمد على العدالة والمساواة بين المواطنين والحفاظ على كرامتهم وعدم المساس بحرياتهم وحقوقهم الشخصية، فكان لزامًا عليها العدالة لكن في التنكيل بالكرامة والحرية والحقوق الشخصية للمعتقلين، سواء أكانوا في سجون طرة وأبوزعبل وبرج العرب ومديرية أمن الإسكندرية وقسم شرطة المطرية، وأيضًا في أقسام شرطة ميت سلسيل وجمصة ومحلة الدمنة في الدقهلية، ومعسكر الكيلو 10.5 الموجود على طريق “مصر – إسكندرية” وسجن العقرب وشبين الكوم بالمنوفية، والأبعادية في البحيرة، وغيرها من عشرات السجون وأماكن الاحتجاز فقُسِم التعذيب والتنكيل والتضييق على معتقلي تلك السجون والأقسام بالعدل كما تقول الوزارة.
باتت المحاولات لإفشال الملف الحقوقي وتكذيبه كثيرة وواضحة للعيان، ولكن الأرقام والوقائع تكذبها، فإظهار النظام العسكري وأذرعه الأمنية أنهم ملائكة الرحمة للشعب المصري لن تجدي نفعًا، فأذرع النظام الإعلامية تقول على صفحات جريدة الأهرام الحكومية إن من لم يمت بالتعذيب في أقسام الشرطة، مات بالغاز، وكذلك تقول صحيفة أخرى إن ثمة ثقوب في البدلة الميري في تحقيق يُدين ممارسات الشرطة، هذا ما يقوله النظام على النظام، فما أدراك بحقيقة الكارثة الإنسانية التي حلت بمصر.
هذا وإن كان الملف الحقوقي لدى المعارضين للحكم العسكري العاملين في هذا الشأن ضعيف التوثيق ويفتقر إلى الاحترافية، فإن هذا الأمر لن ينفي مطلقًا بشاعة ما تمارسه السلطات المصرية بحقهم، كذلك صمت بعض من يلصقون أسمائهم بجوار كلمة حقوق الإنسان في المنظمات القومية التي تقتات على موائد الدولة، لن يغير من حقيقة أن ثمة إرهاب للدولة يمارس على كل مختلف معها.