ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
في الحي الجامعي “مدينة العرفان” في الرباط، تمتد المباني الجديدة على مساحة تناهز الثلاثة هكتارات، وتوجد في هذا الحي مبان إدارية، ويجب المرور عبر ساحات وأفنية عديدة، مشيدة على الطراز المعماري التقليدي، للوصول للمنطقة المخصصة لتلقي الدروس، حيث توجد قاعات محاضرات مزودة بأحدث وسائل الإيضاح، وعشرات القاعات الإعلامية.
ويحتوي هذا المجمع الذي كلف حوالي 230 مليون درهم، أي ما يعادل 21 مليون يورو، على مسجد يتسع لحوالي 1250 مصلي، وملاعب رياضية، وعن هذا المجمع يقول مديره السيد عبد السلام لزعر بكل فخر “إنه أُنجز بكل حرفية، وتم تشييده في ظرف تسعة أشهر فقط”.
بعد أن تم الإيذان ببدء العمل عليه قبل سنة، تم افتتاح “معهد محمد السادس” المخصص لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات في الـ 27 من مارس المنقضي على يد الملك شخصيًا، ومنذ ذلك التاريخ فتح هذا المعهد أبوابه لأول ضيوفه، بطاقة استيعاب تصل إلى ألف مكان، ولكن يستقبل هذا المعهد في الوقت الحاضر 700 طالب فقط، منهم 250 مغربي و450 أجنبي (212 من مالي و37 تونسيًا و100 من غينيا و22 فرنسيًا تم إرسالهم من قبل “اتحاد مساجد فرنسا”).
الفهم الخاطئ للدين
يتقاضى كل طالب في هذا المعهد منحة شهرية تقدر بألفي درهم، كما أن الأجانب يتم تجميعهم حسب جنسياتهم ومنحهم كل ما يلزمم من سكن ومأكل خلال فترة التكوين التي تستغرق سنتين، ويقول السيد عبد السلام لزعر إن “البرنامج التكويني موحد، وتضاف إليه بعض التعلمات على حسب البلد، وكل طالب ينتظر منه أن يكتسب العلوم المتعلقة بالدين الإسلامي، والعلوم الإنسانية، والتاريخ ووسائل الاتصال الحديثة، والهدف من وراء كل هذا العمل هو مكافحة الفكر المتطرف والتأويل الخاطئ للنصوص الدينية”.
ويُعد تأطير الأئمة شيئًا غير جديد عن المغرب، فعلى إثر تفجيرات الدار البيضاء في سنة 2003، والتي خلفت 45 قتيلاً، وضعت المملكة يدها بكل حزم على المجال الديني، وبعد أن كان التحكم في هذا المجال يتم بشكل غير رسمي، ظهرت مؤسسات مختصة في هذا الشأن، وفي هذا السياق يؤكد أحمد توفيق، وزير الشؤون الدينية، أن “هذا التدخل في الشأن الديني لم ينطلق منذ 2003، ولكن في ذلك التاريخ تم تحويله إلى أمر رسمي”.
وتكوّن المغرب كل سنة 150 إمام و50 واعظًا، وتوفر للخمسين ألف إمامًا الناشطين في مساجد المملكة تكوينًا مستمرًا يتلقونه على امتداد يومين في كل شهر، والهدف الأساسي للسلطات من كل هذا الجهد هو حسب تعبيرها “نشر إسلام وسطي ومعتدل يعتمد على المذهب المالكي، أحد المدارس الأربعة السنية، يتمحور حول قيادة الملك للمؤمنين”، ويقول السيد توفيق إن المملكة تسعى اليوم إلى “تحصين نفسها أمام التهديدات الخارجية والمساهمة أيضًا في تحصين العالم ضدها”.
وبينما تتساءل بعض الدول الأخرى عن كيفية عزل الفكر الديني المتطرف، تقدم الرباط “مثالاً مغربيًا”، ويقول عالم الأنثروبولوجيا محمد الصغير جنجار في هذا الإطار إن “الدين كان منذ الاستقلال ورقة هامة في الدبلوماسية المغربية وعلاقاتها مع القارة الأفريقية، كما أن التطورات التي شهدتها القارة مؤخرًا أعطت بعدًا آخرًا لهذه المقاربة”.
فمنذ سنة 2001، أجرى الملك محمد السادس خمس جولات في القارة السمراء، وهو يستعد لإجراء جولته السادسة في الفترة القادمة، ورغم أن الرهانات الاقتصادية تبدو على رأس لائحة أهداف هذه الزيارات، فإن الجانب الديني أيضًا أصبح محوريًا في ظل تصاعد التهديدات الإرهابية، ويذكّر السيد جنجار بأن “المملكة تعوّل على علاقاتها التاريخية والتي لم تنقطع مع دول جنوب الصحراء الأفريقية”، فبالإضافة إلى الإشعاع الكبير الذي تحظى به المدرسة المالكية في أفريقيا، تتمتع المؤسسة الملكية المغربية بعلاقات ضاربة في القدم مع الطرق الصوفية المنتشرة في ربوع القارة.
بين الضغوطات والتنازلات
تم إبرام أول اتفاق على تكوين 500 إمام في سنة 2013 مع الرئيس المالي المنتخب حديثًا، إبراهيم بوبكر كايتا، وكان يتم استقبال الأئمة القادمين من العاصمة باماكو في المدارس القديمة في الرباط، ومع تزايد الطلبات للالتحاق بالدراسة في المملكة اقتنع “القصر” بجدوى تشييد مؤسسة جديدة، لاستقطاب الطلبة من ساحل العاج، تونس، غينيا، التشاد والنيجر، بالإضافة لبعض البلدان الأوروبية مثل بلجيكا وهولندا وإيطاليا.
وبالنسبة للمملكة المغربية التي تريد الظهور كبلد رائد في مكافحة الإرهاب، تمثل هذه الخطوة نجاحًا كبيرًا في تعزيز صورتها في الخارج، كما أنها أداة للتسويق لنظامها السياسي، فقد قرر النظام الحاكم في المغرب مواجهة الحراك الاجتماعي والسياسي الذي رافق الربيع العربي بجملة من الإجراءات، تراوحت بين القمع وتقديم التنازلات.
ويقول السيد عبد السلام لزعر إن “الطلبة يتعلمون خلال مدة التكوين كيف يكونون في خدمة الدين والوطن والشعب، ومن لا يخضعون لهذا المبدأ لا مكان لهم في هذا المعهد”، أما الأئمة المتدربون، القادمون من بلدان تعاني من الاضطرابات، فإن أكثر ما يثير إعجابهم هنا هو “الاستقرار المغربي”، ويفسر مامادو عيسى كوليبالي، ممثل وزارة الشؤون الدينية المالية المتواجد في الرباط، هذه النظرة بأن مالي على سبيل المثال تعاني منذ سنوات من مشاكل متعلقة بالإرهاب، دون أن تجد حلاً بينما نجحت المغرب في التعامل مع هذه الظاهرة”.
ويبقى التساؤل حول مدى فاعلية هذه المقاربة في القضاء على التطرف الديني الموجود في المغرب التي تشير التقديرات فيها إلى أن 1200 شاب سافر للالتحاق بالجماعات المسلحة، ويقول محمد الصغير جنجار: “نحن اليوم نواجه قوى عابرة للحدود تتبنى أنماطًا دينية جديدة، تستهدف الشباب المتعلم وتصل إليه عبر الإنترنت، بعيدًا عن الأنماط التقليدية للتدين التي تنطلق من العائلة والإمام والمسجد، ولذلك يجب دراسة مدى فاعلية هذه التجربة المغربية ومدى تأثيرها بإيجابية على أرض الواقع”.
المصدر: صحيفة لوموند الفرنسية