بعد حوالي قرن على نشأة الحركة الإسلامية، وإثر اندلاع الربيع العربي وما تلاه من بدايات انهيار المظومة القائمة، والمضطربة منذ مولدها على يد الاستعمار الأوروبي، تبدو العلاقة بين الديني والسياسي هي العامل الأبرز الذي شكّل، ولا يزال، الأفكار والصراعات الرئيسية في منطقة الشرق الأدنى على مدار تلك الفترة، بدءًا من الصحوة الإسلامية في مصر في السبعينيات، والثورة الإيرانية عام 1979، ثم صعود طالبان في التسعينيات، ثم القاعدة والنموذج التركي مع مطلع القرن الجديد، وأخيرًا حركات الإسلام الديمقراطي والحركات المسلحة في بلدان عربية شتى بعد الثورات الأخيرة، وأبرزها بالطبع داعش.
لا يسع المرء أن يتجاهل التماثل الشديد هنا مع التجربة الأوروبية، والتي مرت بمرحلة مشابهة لما نعيشه الآن منذ بضعة قرون، حيث كانت المذاهب والفرق السياسية المتصارعة حول ماهية العلاقة بين الديني والسياسي هي القوة الرئيسية في القارة، وهي التي شكلت في نهاية المطاف الخريطة السياسية والفكرية لأوروبا بعد أن وضعت كل تلك الحروب أوزارها، بل ولا تزال الخطوط العريضة لها تشكل جذور ما نبت من أيديولوجيات وأفكار في أوروبا.
المقارنة مع أوروبا: آفاقها وحدودها
يمقت الكثيرون محاولة المقارنة بين ما يدور منذ سنوات في المنطقة، خاصة الربيع العربي وظهور الإسلام الديمقراطي، وبين الإصلاح الديني والنهضة في أوروبا لأسباب كثيرة، بل وأحيانًا ما تصدر تلك الاعتراضات عن المتخصصين بشؤون المنطقة في الغرب، وهي أسباب وجيهة بالطبع متعلقة باختلافات لا حصر لها بين الدينَين الإسلامي والمسيحي، وبين الظروف التاريخية هنا وهناك، إلا أن هذا لا يمنع النظر إلى ما يمكن أن تجود به التجربة الأوروبية من دروس دون السقوط في محاولات إقحام الإسلام أو الحركة الإسلامية في سياق الفكر الأوروبي، لا سيما وأن المشترك كثير بين العرب والأوروبيين، مقارنة بحضارات أخرى في آسيا.
وجه الشبه الأول، هو أنه بقدر ما كانت الصراعات في أوروبا مستوحاة من المسيحية، ولم تعكس، على الأقل في القرون الأولى للإصلاح والنهضة، خلافات حيال المسيحية نفسها كدين، تُعَد الخلافات السياسية والفكرية الجارية منذ قرن في العالم الإسلامي مرتبطة بظاهرة الإسلاميزم أو الإسلام السياسي، بكافة مذاهبه وتجلياته، لا بالدين مباشرة، إذ لا يبدو أن هناك خلاف على الإسلام نفسه كدين في المنطقة، ولكن يدور الخلاف حول الدور الذي يلعبه الإسلام في المجال العام، وعلاقته بالمؤسسات السياسية والاجتماعية، وهو صراع اكتسب بُعدًا مذهبيًا نظرًا للتوتر المتزايد بين السنة والشيعة في مناطق عدة، تمامًا كما اكتسب بعدًا مذهبيًا في أوروبا في إطار الانقسام بين الكاثوليك والبروتستانت.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الكثيرين يتناسون أن الإسلاميزم بحد ذاته كأيديولوجيا جزء من عالم الأيديولوجيات غربي المنشأ، أكثر منه تطور طبيعي لفكر إسلامي تقليدي، وهو ما يجعل من تاريخ أوروبا السياسي والفكري شديد الأهمية في فهم هذه الظاهرة دون غيرها في المنطقة، بشكل لا يقل عن فهم جذورها في التاريخ العربي والإسلامي، فالحركة نشأت في ظروف أكثر شبهًا بالأيديولوجيات الغربية؛ في المدن الحديثة لحظة تحوّلها نحو الصناعة، وفي غمرة تأسيس المؤسسات الحديثة والتوتر مع الأفكار الغربية التي شكلت في الحقيقة توترًا مشابهًا قبل خروجها من بلدها الأم.
علاوة على ذلك، وبالنظر للظروف التاريخية، يتجلى لنا وجه ثان للشبه بين أوروبا الوسيطة وحاضرنا اليوم، وهي الظروف السياسية التي نشأت إثر انتشار موسّع لصحوة دينية في بلدان عدة كانت تجليًا لفقدان المنظومة السياسية القائمة الممثلة في البابوية لشرعيتها، وقد كانت الأفكار الكالفينية، الأكثر شهرة آنذاك، أيديولوجيا سياسية في مراحلها المبكرة بقدر ما كانت مذهبًا دينيًا جديدًا، وإن كانت أوجه الشبه قليلة بين الكالفينية والحركات الإسلامية المعاصرة من ناحية التحوّل العقائدي نحو مذهب جديد، كما يشير دومًا الكثيرون من نقاد “القص واللصق” الذي يحاول تحقيق “إصلاح إسلامي” على خطوط بروتستانتية، فإن أوجه الشبه السياسية في الحقيقة لا يمكن إغفالها، إذ أن الحراك الجاري الآن بشتى أنواعه ناشئ بالأساس بوجه منظومة قومية أشبه بالبابوية في استبدادها تفقد شرعية وجودها تدريجيًا، وهو ما يجعل الجوانب التاريخية والسياسية في الحقيقة أكثر أهمية من التركيز على الجانب الفكري أو العقائدي للإصلاح في أوروبا.
تباعًا، تبدو “الحروب الدينية” التي نشهد بوادرها اليوم في منطقتنا تجليًا لتوترات جغرافية وتاريخية أكثر مما يبدو، بالضبط كما كان الحال في أوروبا، فرُغم أهمية العقيدة والمذهب في الصراعات الأوروبية في تلك المرحلة، إلا أن الجيوسياسي ظل يلعب دوره في أحيان كثيرة متخفيًا بغطاء الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت تارة، وبين الإصلاح والبابوية تارة أخرى، ولا نبالغ إن قلنا أن هذا هو الواقع بالضبط فيما يخص الأزمة اليمنية التي تخفي صراعًا جيوسياسي بين السعودية وإيران تحت ستار المذهبية، وفيما يخص الكثير مما يجري بين السنة والشيعة في العراق والشام، وأيضًا في ليبيا.
بهذا الشكل، يمكن أن نقول بشكل عام أن التاريخ، وإن لم يتكرر، إلا أنه يتشابه في أحيان كثيرة، وأن تاريخ أوروبا يلقي بظلاله بالفعل على ما يدور بالشرق الأدني، وأن العلاقة بين الديني والسياسي، والصراعات القائمة حاليًا حول ماهية الحُكم وعلاقة الدين بالدولة وشرعية المنظومة القائمة، هي وجه الشبه الرئيس بين ماضي أوروبا وحاضرنا، وليس التحوّل العقائدي للدين كما جرى مع المسيحية، وكما قد يتمنى البعض أحيانًا، ووجه الشبه هذا يدفعنا إلى النظر والتدقيق في ذلك الجانب من تاريخ أوروبا الوسيط، والاستفادة من كافة الدروس التي يمكن أن تعيننا على فهم أكبر لما يدور، وتوقع ما يمكن أن يؤول إليه.
ماذا يقول لنا تاريخ أوروبا؟
إحدى الصلوات في ميدان التحرير أثناء الثورة
الدرس الأول المستفاد مما جرى في أوروبا على مدار بضعة قرون، وفي تلك النقطة التي لم تكد تمر فيها سنوات قليلة على بدء حراك الربيع العربي، هو أن الأفكار الإصلاحية والثورية لا تموت بتلقي ضربة واحدة، بل وأنها لا تموت أبدًا، بل تعود في أشكال مختلفة، بدءًا من الشكل المتطرف والانتقامي من المنظومة القائمة، وهو ما قد ينطبق على داعش، وحتى الشكل المسالم والمتعاون بأقصى حد لكسب ما يمكن كسبه من تلك المنظومة، وهو ما قد ينطبق على تجربة النهضة في تونس.
في قول آخر، لا يمكن الالتفاف على حراك واسع بهذا الشكل يعبّر عن مطلب حقيقي في تحوّل الوضع القائم، ولو تم الانقلاب عليه لبُرهة من الزمن، فالحراك الثوري العربي، مثله مثل الحراك الإصلاحي في أوروبا، كان يعكس تيارًا حقيقيًا كبيرًا، لا مجرد مجموعة حزبية صغيرة، وقد تلقى ضربات كثيرة لا واحدة فقط، ولكنه نفذ في النهاية على مدار عقود طويلة إلى بنيان الدولة والمجتمع، في صورة الأنغليكانية في بريطانيا، ثم اللوثرية في إسكندنافيا، ثم خلق تنويرًا مُفرطًا في علمانيته وعقلانيته في فرنسا بعد أن تعرّض للذبح (يمكنك أن تبحث عن مذبحة سانت بارثولوميو للبروتستانت) وهكذا.
مرة أخرى، لا يعنينا هنا العقائدي والمذهبي، فلن يكون هناك إسلام بروتستانتي أو أنغليكاني، ولكن هناك خطوط عامة يبدو وأنها تتكرر فيما يخص الحراك السياسي وردود الفعل المختلفة تجاهه وكيفية تشكيلها له، فالتعامل المفتوح من قبل الملكية في المغرب مع حزب العدالة والتنمية يشي لنا بطريق “بريطاني” يسير فيه الإصلاح هناك، بدون أي تغيير في العقيدة، ولكن فقط تشابه سياسي بين الحالتين، حيث توجد ملكية عريقة تمتتع بشرعية قوية جنبًا إلى جنب مع حركة إصلاحية تعتمد على الدين هي الأخرى بشكل أو آخر، وعلى الناحية الأخرى يمكن القول أن رد الفعل العنيف تجاه الإصلاح في فرنسا، والذي خلق حتمية الثورة الدموية ووصل لذروته مع اليعاقبة، قد يماثل في أوجه مختلفة ما يجري مع داعش، فالدواعش هم يعاقبة المسلمين إن جاز القول، وهم إحدى نتائج الربيع العربي شئنا أم أبينا كما كان اليعاقبة نتاجًا للثورة الفرنسية، بل هم نتيجة حتمية للعنف المضاد للثورة والإصلاح كما ذكرنا في الحالة الفرنسية.
ما يقوله التاريخ الأوروبي أيضًا هو أنه مهما تكن الجذور السياسية والجغرافية لصراع مفتوح بهذا الشكل، ويبتلع منطقة بأكملها في طور إعادة التشكّل، فإن الدين يظهر للسطح شئنا أم أبينا، في صورة غطاء مذهبي، أو في صورة سجال فكري بين أنماط مختلفة من الإسلام السياسي، كما يجري في ليبيا وسوريا مثلًا، وهو سجال سيؤثر وإن بدرجات متفاوتة على التيارات الدينية العامة لقرون مقبلة، بغض النظر عن درجة تأثير ذلك على مفهوم العقيدة عند الناس، والذي تحوّل بالكامل في معظم أنحاء أوروبا، ولا يبدو أنه مرشّح لتحوّل كامل بهذا الشكل في الشرق الأدني نظرًا لاختلافات معروفة بين الإسلام والمسيحية كما ذكرنا.