عرف المغرب جدلًا كبيرًا مند سنوات يهدف إلى تعديل ترسانته القانونية وملاءمتها مع التشريعات والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب أمميًا وتعهد بملاءمتها مع تشريعه الداخلي، بالإضافة إلى الدينامكية التي يعيشها المغرب مؤخرًا، إذ كان لزامًا فتح ورش إصلاح العدالة تماشيًا مع متطلبات المجتمع والسلم الأهلي.
ومؤخرًا وتوافقًا مع المبدأ التشاركي الذي تنتهجه الوزارة الوصية على القطاع تم الإفراج عن مسودة القانون الجنائي المقترح للنقاش من أجل إبداء الرأي حول مضامينه وإن كانت خطوة إعادة النظر في التشريع الجنائي المغربي مهمة جدًا، بالنظر إلى أن هذا القانون لم تطرأ عليه أي تعديلات جوهرية منذ 1962 (أي منذ بداية الاستقلال إلى الآن)، فقد عرف الرأي العام تباينًا في مواقفه حول النص المقترح، بحيث اختلفت بين مؤيد ومعارض حسب انتماءات أصحابها ومرجعياتهم الحقوقية أو القانونية أو السياسية، بالإضافة إلى ملامسة بعض التيه الذي لوحظ في توجهات مشروع المسودة والذي مزج بين الصفة المحافظة والحداثية، مما نتج عنه نص هجين ومشوه لا يلائم تطلعات المهتمين في المجال القانوني والحقوقي.
عمومًا تأتي أغلب مستجدات مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، في إطار تنزيل توصيات الميثاق الوطني حول إصلاح منظومة العدالة التي كانت نتاج حوار وطني، حيث تم تنزيل حوالي 29 توصية من الميثاق تتعلق بالمنظومة الجنائية، داخل أحكام المشروع وبعض المستجدات الواردة في المشروع فرضتها ضرورة الملاءمة مع أحكام دستور المملكة لسنة 2011، وكذا الملاءمة مع العديد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان ومكافحة الجريمة التي صادق عليها المغرب وتم نشرها بجريدته الرسمية.
وفي نفس السياق وبلغة الأرقام، فالمسودة أدخلت 500 تعديل على القانون الجنائي الجاري العمل به حاليًا، في حين تم حذف 40 مادة، وإضافة 187 مادة.
إذن فمسودة مشروع القانون الجنائي حملت في طياتها عددًا من المستجدات الإيجابية التي لا يمكن نكرانها أو تقزيمها، من بينها تجريم الامتناع غير المشروع عن تنفيذ الأحكام الذي يمكن اعتباره مستجدًا أساسيًا ومهمًا بغرض المساهمة في تسريع وتيرة التنفيذ وإضفاء المصداقية والفعالية على تنفيذ الأحكام لزجر كل الممارسات التي تحقر الأحكام القضائية سواء كانت صادرة عن الأشخاص أو الإدارات العمومية، يضاف إليها مسألة الإقرار بتجنيح تشريعي للعديد من الجرائم، التي كانت في السابق إما غير مجرمة أو تحمل تكييفًا جنائيًا، وتبني العقوبات البديلة بدل العقوبات الحبسية.
من هنا وجب التنويه بهذا الاتجاه الإيجابي الذي يمضي إليه النقاش حول السياسة الجنائية، إذ تبلورت قناعة بضرورة التفكير في اعتماد العقوبات البديلة، الأمر الذي يشكل خطوة مهمة في اتجاه إعطاء مضمون حقيقي للتأهيل والإدماج.
والواقع، أن المغرب تأخر كثيرًا في اعتماد العقوبات البديلة، فمسار النقاش الأممي والتجارب الدولية، حققت تراكمًا مهمًا في هذا المجال، وبدأت الدراسات التقييمية ترصد نتائج اعتماد العقوبات البديلة، وكذا التحديات التي أثارتها بالنظر إلى المقاصد المرجوة من العقوبة.
تجدر الإشارة أن للعقوبات البديلة مرجعيات دولية وسياقات (وهو السبب الأساسي للمقال)، نذكر منها مؤتمر الأمم المتحدة الثاني عشر للوقاية من الجريمة والعدالة الجنائية (سلفادور – البرازيل أبريل 2010) والذي أصدر توصيات حول الإستراتيجيات الأفضل المتعلقة بالوقاية من اكتظاظ السجون، والتي تتزايد على المستوى العالمي بنسبة 60%، أي أكثر نصف المعتقلين هم في وضعية اعتقال احتياطي، وأبرز ما نتج عنه المؤتمر هو ضرورة تجاوز السياسات الجنائية التي تمنح مكانة مبالغًا فيها للعقوبات دون التمكن من التقييم الصحيح لآثارها، وتم ضرورة طرح بدائل للعقوبات السالبة للحرية وتلافي القصور المتمثل في تأخر المساطر القضائية.
وتبتكر التشريعات المقارنة اليوم العديد من العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية بما يناسب حاجتها لردع المتهمين وتقويم سلوكهم دون الاضطرار إلى حبسهم وتكليف المجتمع نفقات باهظة غير مضمونة النتائج.
ويمكن أن نسوق على سبيل المثال بدائل العقوبات الأكثر شيوعًا في بعض الأنظمة الأوروبية المقارنة كفرنسا وبلجيكا وإسبانيا والدانمارك؛ فمن بين البدائل المهمة للعقوبات السالبة للحرية: العمل لفائدة المنفعة العامة، إيقاف العقوبة الحبسية بشروط، تعليق العقوبة مع الوضع تحت الاختبار، والمراقبة الإلكترونية.
كما ينبغي الإشارة أيضًا إلى القرار رقم 25/2013 المصادق عليه من طرف المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة بتاريخ 25 يوليو 2013 حول القواعد الدنيا النموذجية لمعاملة السجناء؛ إذ يوصي في فقرته الثالثة، بضرورة بذل الجهود لتقليص الاكتضاظ السجني وكذا التقليص من اللجوء للاعتقال الاحتياطي وإلى تشجيع بدائل العقوبات السالبة للحرية، وفق قواعد طوكيو (القواعد الدنيا النموذجية للأمم المتحدة للتدابير غير الاحتجازية)، وبالتالي فالمغرب كان مطالبًا بالإسراع في اتخاذ تدابير تكفل له حل مشكلة الاكتظاظ السجني والتي تتمثل أساسًا في التكلفة المالية المرتفعة للاعتقال والفرص الحقيقية الضائعة للإدماج والتي ترفع من نسب العود، كل هذا من شأنه إضعاف قدرة المنظومة السجنية على الاستجابة.
وهكذا جاء النص المقترح من طرف الوزارة، بتعريف واضح للعقوبة والإطار والواجب تنفيذه فيهــا وبالتالـي قد يصبـح بالإمكـان لأول مرة الحكم بالعمـل من أجل المنفعة العامة، بالإضافة إلى تقييده لبعض الحقوق أو بالأحرى فرض تدابير رقابية أو علاجية تأهيلية، كما أنها كرست معظم توصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، التي تبناها في تقريره الخاص بالعقوبات البديلة.
لكن للأسف يُعاب على النص المقترح، فتحه لمساحة شبهة الفساد أمام القضاة وتجريحهم، خصوصًا وأن النص اقترح الغرامة المالية اليومية كعقوبة بديلة للمواد 10-35 و12-35 وبالتالي وجب تدارك الموقف بإعادة تقييم هذه المواد مع ما يتلاءم مع مبدأ العدالة .
كما تجاهل المشرع في نصه المقترح العديد من توصيات المجلس الإيجابية التي كانت سوف تدفع أمامًا بالتشريع الوطني وتكامله، كتوصية المجلس بالنص في القانون الجنائي ومدونة تحصيل الديون العمومية على تدابير بديلة لتنفيذ الإكراه البدني أو إدراج العقوبات البديلة في مختلف النصوص الخاصة، التي تتضمن عقوبات سالبة للحرية كقانون الجمعيات وقانون التجمعات العمومية وقانون 65-99 بمثابة مدونة للشغل والقانون 15-95 بمثابة مدونة التجارة.
في الختام لا ندعي بأن اعتماد العقوبات البديلة سيحل المشكلة من أصلها، لكن حين تستند على رؤية جنائية واضحة، تمزج بين مقاصد العقوبة في بعدها الزجري والتأهيلي الإصلاحي، سيعطي جزءًا من النتائج المطلوبة، لاسيما فيما يخص التقليص من الظواهر الإجرامية المتفشية وخصوصًا حالات العود، لذا نتمنى من خلال النقاش الحالي بين مختلف المؤسسات والفاعليين، التوافق حول قانون جنائي لحماية القيم والمصالح الاجتماعية وإرضاء الشعور بالعدالة، والأهم تحقيق الأمن والاستقرار.