ترجمة وتحرير نون بوست
سؤال موجه للمواطن الغربي: هل تعتقد أنك تحب كرة القدم؟
مهما كانت إجابتك كن واثقًا أنك لا تحبها بذات المقدار الذي يعشقها به سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ففي كل مكان آخر من العالم، تتنافس الألعاب الرياضية لاستقطاب اهتمام الجماهير، ولكن في العالم العربي – أو على الأقل معظمه – كرة القدم “المستديرة” تستأثر بهوس الشعب المنفرد، والمعلقون العرب يتنافسون فيما بينهم.
الإنجليز يحبون الركبي والكريكيت، والأرجنتينيون يتمتعون بكرة السلة والتنس، وفي المكسيك البيسبول رياضة محبوبة على نطاق كبير، وسباقات السيارات ورياضات جبال الألب لها شهرة على نطاق واسع في إيطاليا وألمانيا، أما في شرق أسيا فإن أكثر ما يستحوذ على الاهتمام هي كرة الطاولة، وإلى جنوب الصحراء الكبرى يستمتع الشعب برياضة الجري والكريكيت، ولكن ليس بالقدر الذي تُتابع فيه الكريكيت في شبه القارة الأسيوية.
في العالم العربي، كرة القدم تستحوذ على العرش بلا منازع، ولا يوجد حتى أدعياء لمنافستها على هذا المنصب، قد يقول البعض سباق الجمال أو سباق الخيل؟ لا، هذه رياضات تشد الأغنياء فقط، فالشعب يعشق كرة القدم، وقبل عقد من الزمن، باتت قناة الجزيرة الرياضية تدير قنوات، تعمل على مدار الساعة وتنقل من جميع أنحاء العالم، لتبث عبر القمر الصناعي مباريات كرة القدم في جميع أنحاء المنطقة العربية.
الصحفي والمعلق الرياضي الذي كان ولايزال المضيف الدائم والمتكرر لمباريات كرة القدم التي تبثها الجزيرة الرياضية، هو لخضر بريش، الجزائري البشوش الذي حط الرحال منذ فترة طويلة في قناة الجزيرة لتغطية الدوري الإسباني، وفي بداية مشواره، كان وجه بريش يظهر بمرح على الشاشة مع وشاحه الذي يلفه برشاقة على كتفه، ليأخذ المشاهدين في جولة قصيرة إلى مدينة الفريق المضيف قبل بدء كل مباراة في الدوري الإسباني، أما حاليًا، فهو الوجه المحبب الذي يظهر في جميع منافسات كرة القدم ابتدءًا من كأس أمم أفريقيا وليس انتهاءً بدوري أبطال أوروبا.
يبدأ بريش بالمحادثات السلسة في الاستديو التحليلي ليمهد لدخول الجمهور بدفء إلى الجو الحماسي للمبارة كحمام دافيء يكيله عليهم بهدوء، ولكن بمجرد أن تبدأ المباراة يبدأ المعلقون العرب بالتألق، وتباشر مياه الحمام بالغليان، وربما يعتبر المعلق الأفضل في هذا المجال هو التونسي عصام الشوالي، الشاب الأصلع بنظاراته الطبية، وسحنته التي تشبه طالب المحاسبة المتخرج حديثًا، حيث يلهب الشوالي الجماهير بتعليقه الرائع على كل حركة في المبارة، ويخرج بسلاسة من رتمها البطيء، عن طريق قص حكايات من الثقافة الشعبية لأطراف اللعبة، ويغرف بيسر من الموسوعة الرياضية التي تتخمر في ذهنه حول ماضي اللاعبين وحاضرهم، وعندما تزداد الحماسة وتشتعل المدرجات، يقارن الشوالي الهولندي كلارنس سيدورف بعظماء المنتخب الهولندي السابقين مثل ماركو فان باستن وفرانك ريكارد ويوهان كرويف، أو يبدأ بنظم الأشعار حول هدف الكولومبي راداميل فالكاو، حيث يصف دقة تصويبة الهدف بقافية شعرية متقنة تضم تايجر وودز وروبن هود.
الفيديو: مقتطفات من أجمل تعليقات عصام الشوالي
الكلمات، بالطبع، هي الجزء الأكثر أهمية، فكل ما يقوله الشوالي أو غيره من المعلقين العرب، هو جزء من التصعيد الكلامي الكبير الذي يحدث بمجرد اقتراب الفريق من منطقة جزاء الفريق الخصم، ويبلغ هذا التصعيد ذروته المحمومة – ذروة الصوت أو ذروة التعبير – بتسجيل أي لاعب هدفًا في مرمى الفريق الخصم، وهذا التصعيد الحماسي هو بالضبط ما يتوقعه المشاهدون للمباريات، حيث يطفق المعلق العربي بتركيب كلام إنشائي متقن، وجمل متراكبة، يرميها رشًا ودراكًا بدون توقف إثر تسجيل الهدف – على النقيض تمامًا من التعليق المتحفظ للمعلقين الإنجليزيين -، وهذا الرشق الكلامي العربي المستمر علّق عليه أحد المواقع بلهجة متهكمة بقوله: إن المذيع العربي يمكن أن يتم قتله إذا توقف عن الكلام لبضع ثوان على الهواء مباشرة.
لا شك أن هناك الكثير من المعلقين القادرين على التحدث بمئات الكلمات في الدقيقة بلغات أخرى، فهناك الصوت المميز للمعلق الأرجنتيني مارسيلو أروجو.
الفيديو: مارسيلو أروجو
وهناك المعلق الإيطالي كارلو زامبا، المشهور بنبرته العالية ومخارج حروفه الأنفية.
الفيديو: كارلو زامبا
وهناك المعلق أندريس كانتور، الذي يُسمى بنبع الحماس، ويقال إنه المسؤول عن انتشار كلمة (جووول) الطويلة الإسبانية في المحافل الدولية.
الفيديو: أندريس كانتور
وهناك أيضًا المعلق راي هدسون، المشهور بوصفه البليغ والرائع لهدف ليونيل ميسي.
الفيديو: راي هدسون
ولكن على الرغم من جمال وإبداع هذه النماذج الغربية، بيد أنه لا يمكن مقارنتها مع المزيج الرائع من الجمباز اللفظي والتشبيهات الغريبة والغبطة النقية التي يمارسها المعلقون العرب في التعليق العربي على المباريات، ولإيضاح وجهة النظر السابقة؛ دعونا نقارن بين ثلاثة تعليقات بلغات مختلفة على هدف واحد: هدف لاعب نيوكاسل السابق حاتم بن عرفة ضد بولتون في عام 2012.
أولًا المعلق باللغة الإنجليزية يقول إنه هدف عظيم بلا شك، ويتحمس قليلًا عندما يقارن هذا الهدف بأهداف الأسطورة ميسي، لكن من الصعب تصور أن المعلق ذاته قد هب من فرط إثارته على هذا الهدف الرائع.
الفيديو: التعليق بالإنجليزية
أما في النسخة الفرنسية فيباشر المعلق بهدوء وبالكاد تعلو نبرته أثناء المسير الرائع والمهيب لبن عرفة – وهو لاعب فرنسي – بالكرة، ولا تظهر حماسة المعلق الخافتة إلا بعد وضع الكرة في الشباك.
الفيديو: التعليق الفرنسي
الآن استمعوا إلى التعليق العربي، ولاحظوا الحماس الرائع الذي يتصاعد به المعلق باسم بن عرفة منذ بداية انطلاقته بالكرة، وحتى استقرارها في الهدف، يليه دقيقة كاملة من الحماس الناري والجنوني، الذي يبديه المعلق على هذا الهدف الرائع، ومقاربة رائعة له، تتضمن استذكار دييغو مارادونا ومبدعي كرة القدم الآخرين.
الفيديو: التعليق العربي
بهذا الشكل يجب أن يتم التعليق على مباريات كرة القدم، بحيث يتركنا المعلق منشدهين ومتحمسين برعب للكرات الخطرة، ومن ثم تفيض عواطفه بسرعة كبيرة جدًا إبان حركة الكرة الجميلة، التي ينتهي بها المطاف بالاستقرار في نهاية الشباك، وتتعامد حباله الصوتية بقوة نارية لمواكبة الحدث الرائع، ويدوم ابتهاجه الفطري، ويمتد ليغمرنا في اللحظات التي نشعر فيها جميعًا بنشوة الهدف.
التعليق الحماسي والناري والمبدع والمفرح هو أقل ما يستحقه الجمهور العربي، خاصة في هذه الأوقات؛ التي يرزح فيها أغلب العالم العربي تحت وطأة العنف والإرهاب والحرمان من الحقوق الأساسية، وكرة القدم في هذا السياق تعوّض عن الحب والفرح الضائع، والمعلقون العرب هم الركيزة الأساسية لهذا التعويض.
المصدر: فورين بوليسي