جاء تصريح رئيس حزب النهضة الشيخ راشد الغنوشي مفاجئًا للكثيرين، هذا التصريح الذي عبّر فيه الغنوشي عن رفضه من أن يتم منع الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وعائلته من الحصول على جوازات سفر تونسية، معللاً ذلك بأن الجرائم التي ارتكبها المخلوع هي شأن قضائي، وأن جواز السفر هو حق لكل مواطن تونسي كبطاقات التعريف ولا ينبغي لأي مواطن تونسي العيش مطاردًا، جاء ذلك كله في سياق دعوته إلى التسامح والعفو ودفن أحقاد الماضي.
يؤكد هذا التصريح على فكرة المواطنة في الدول الديمقراطية الحديثة، والتي تُعرّف في الوضع الطبيعي بأن جميع أفراد الدولة بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو السياسية يمتلكون حقوقًا وواجبات أمام الدولة، وأن هذه المواطنة هي حق أصلي لا يمتلك أحد حق انتزاعه أو إلغائه إلا بحالات خاصة محددة في بعض الدساتير مثل الخيانة العظمى والتي تعطي الدولة حق انتزاع الجنسية بالإضافة إلى إجراءات قانونية أخرى.
إلا أن تصريح الغنوشي ينطلق أبعد من ذلك، إذ إن تصريحاته تمتلك أبعادًا مهمة، منها تأكيده على أن الجرائم مهما كانت هي شأن قضائي لا يترتب عليها بأي حال من الأحوال نزع الجنسية عن صاحبها أو منعه من امتلاك جواز سفر، وهو بذلك يقرر بأن كون الفرد مواطنًا تونسيًا يأتي قبل تقرير الأفعال التي يقوم بها هذا المواطن، وأن أفعاله مهما كانت لا تغير في جوهر هذه المواطنة، لاغيًا فكرة المواطن الصالح التي ظلت في فترات زمنية هي الركيزة التي تستند إليها الدولة في تقرير حقوق الفرد، حيث إن خروج الفرد من دائرة الصلاح تجعله مجردًا من الكثير من حقوقه القانونية، هذه الفكرة التي عبر عنها الغنوشي تعتبر أيضًا فكرة اجتماعية ثقافية بامتياز تهدف إلى محاولة نقد مفهوم الإنسان العربي أو المسلم في الثقافة العربية الإسلامية، “هذا المفهوم والذي سنأتي على ذكره وإن لم يكن موجودًا باعتباره فكرة أصيلة إلا أنه مفهوم نشأ نتيجة التغيرات التي حصلت في الثقافة العربية الإسلامية والانقطاع عن الحكم
الإسلامي لفترة طويلة من الزمن”، هذا المفهوم الذي يصور الإنسان العربي أو المسلم بصفات معينة لا يمكن أن يتجاوزها، فهي شرط وجودي لهذا الإنسان إذ إن غيابها يعني انعدام هذا الإنسان، هذه الفكرة التي تحدد مفهوم الإنسان العربي المسلم وتُعرّف طبائعه وماهيته، والتي تبتعد عن تقرير كون أفعال الإنسان أفعال إرادية بإزاء المجتمع أو الثقافة أو الدين وهذا يعني تقويض المفهوم المحدد للإنسان الكامل في الثقافة العربية الإسلامية غير الموجود واقعيًا إنما موجود تخيليًا، بحيث ينعكس هذا التخيل عند شرائح مجتمعية كبيرة في الممارسة الواقعية، هذا التخيل الذي يرمز إليه بأن الإنسان التونسي صفات أخلاقية واقعة بين (أ – ي) وأن أي خروج عن هذه الصفات كفيلة بإلغاء هذا الشخص من دائرة الانتماء التونسي.
ولذلك أستطيع القول بأن ما صرح به الشيخ الغنوشي باعتبار الرئيس المخلوع رغم جرائمه الكثيرة بحق تونس والتونسيين مواطنًا تونسيًا يمتلك حقوقًا لا يمكن تقريرها بناء على أفعاله، مرسخًا بذلك فكرة المواطنة في الدولة الحديثة إلى حد كبير ومفارقًا في الوقت نفسه سلوكيات الحكومات العربية في منع معارضيها السياسيين من حقوقهم الأساسية، وتاركًا المجال مشرعًا للاجتهاد إزاء قضية الجنسية في الفكر الإسلامي المترتبة على فعل الإنسان المسلم لا على كون الإنسان منتميًا إلى هذه البقعة الجغرافية.