كانت الإمبراطورية العثمانية في أوج صعودها العظيم الذي لا يوقفه أحد؛ تتمدد جنوبًا حتى مصر وشمال أفريقيا، وشمالاً حتى أبواب فيينا، وشرقًا حتى الإمبراطورية الصفوية في إيران، كانت الإمبراطورية العثمانية بهذا الشكل الجديد قد أصبحت في قلب العالم تتحكم في التواصل بين أوروبا وأسيا، ثم بحكمها لمصر والشام منعت أي وسيلة للتواصل البحري عبر البحر المتوسط والبحر الأحمر دون المرور على العثمانيين، وأصبحت أوروبا المسيحية بذلك محاصرة من الدولة العثمانية الإسلامية فيما أطلق عليه فيما بعد “الحصار الإسلامي”.
1480
في أقصى غرب أوروبا، وفي البرتغال بالتحديد كانت المأساة أكبر والمعاناة أصعب، فقرر أحد البحارة أنه إذا كان الشرق قد أُغلق في وجهنا بسبب الإمبراطورية العثمانية فإن الغرب لايزال متاحًا!
لكن الغرب بالنسبة للبرتغال كان يعنى المحيط، فما العمل مع هذا المحيط الهادر؟
خرج هذا البحار الشاب بدعم من ملك البرتغال وحكامه الذين كان لديهم اعتقاد أن دعم هذه الرحلات من أجل التخلص من الحصار الإسلامي هو جزء من حروبهم “الصليبية” ضد العالم الإسلامي وربما تكون هذه المحاولة هي آخر الحروب.
خطط هذا البحار الشاب كانت السير جنوبًا بمحاذاة الشاطئ الغربي للقارة الأفريقية دون الإبحار في الأعماق، بدأ رحلته الشاقة التي استمرت حتى وصل إلى جنوب أفريقيا ثم دار حول جنوب القارة الأفريقية (فيما عرف فيما بعد برأس الرجاء الصالح لأنها كانت تعطى أمالاً عريضة للبرتغال ولأوروبا كلها من ورائها في رجاء عظيم فيما سيترتب على هذه المحاولة) وأكمل السفر عبر الشاطئ الشرقي من القارة الأفريقية حتى وصل إلى موزمبيق وقد انتهت استعداداته وإمداداته على السفن؛ فطلب من حكام البلاد المدد لكنه لم يكن يملك لا مال ولا بضائع ليقدمها لهم نظير هذه الإمدادات فرفضوا مساعدته، فكان حله لهذه المشكلة العمل “كقرصان بحر” يستولى على عدد من السفن التجارية بالقوة حتى يكمل رحلته.
بعد فترة
اكتشف البحار الشاب أنه يبحر في المحيط الهندي، وأنه بذلك أصبح قريبًا من الهند التي كانت المصدر الرئيسي “للفلفل” لكل أوروبا (وما أدراك ما الفلفل في ذلك الزمان، كانت تقام من أجله الحروب) والأهم من ذلك أنهم قد تخلصوا من “الحصار الإسلامي في الشمال” ويمكنهم الوصول إلى الهند من أبوابها الخلفية عبر المحيط دون المرور على العثمانيين.
لكن مشكلة جديدة ظهرت أمامه
المحيط الهندي هو طريق التجارة الرئيسي للتجار العرب والمسلمين، ولا يوجد لديه فوق سفنه من لديه خبره بهذا الطريق عبر المحيط، فكيف السبيل إلى بلاد الهند بلا دليل في البحر؟
استقدم أحد البحارة المسلمين ليعمل لديه ويدله على الطريق، وبعد أقل من 18 يومًا كان البحار الشاب فاسكو ديجاما، يدخل مدينة “كلكتا ” في الهند بثلاث سفن صغيرة، لا يوجد عليها أي بضائع أو أموال غير تلك التي سرقها في البحار وكانت تكفيه بالكاد.
حاول ديجاما أن يتفاوض مع الملك في الهند، لكنه لم يقدم الهدايا الثمينة ولم يراعي التقاليد والآداب في تعامله معه، فلم يصل إلى شيء، وبعد ثلاث شهور خرج من المدينة بعد أن اختطف معه عدد من سكانها كرهائن لضمان ألا يتعرض إليه أحد أثناء هروبه، وعاد إلى الوطن.
خبر وصول ديجاما إلى البلاد محملاً بكميات قليلة من الفلفل كان جديرًا بأن يكون الخبر الأهم في أوروبا كلها في هذا الوقت مصحوبًا بالبشرى: لقد نجحنا في التغلب على الحصار الإسلامي، والوصول إلى الهند مباشرة دون المرور على العثمانيين.
لم تنته القصة بعد
عاد ديجاما عبر نفس الطريق في رحلة أخرى، لكن هذه المرة بكل التجهيزات العسكرية الممكنة، وأثناء إبحاره كان ديجاما يقتل كل من يقابله من البحارة العرب والمسلمين ويحرق سفنهم، ليعلن للجميع أن عهدًا جديدًا قد بدأ في هذه المنطقة تحكم فيه البرتغال البحار وليس العثمانيين.
ومن خلال طريقة “الصدمة والرعب” التي انتهجها البرتغاليون طوال رحلتهم استطاعوا الاستيلاء على أهم المدن البحرية من إندونيسيا حتى البحر الأحمر، ثم قاموا بعد ذلك بإصدار “باسبور” يحق لصاحبه فقط السفر عبر المحيط محميًا من الأسطول البرتغالي مقابل أن يدفع مال من أجل الحصول على هذا الباسبور، هذا المال الذي يستخدم في بناء أسطول أكبر وفي تحديث آلاته ومعداته وأسلحته من أجل الاستيلاء على مدن أكثر، وبسط النفوذ والحماية على مناطق أوسع، وهكذا.
بعد أن استقر الأمر في المحيط الهندي، حان الوقت للذهاب إلى الصين.
1517
كان التحالف مع الصين يحقق أهدافًا كثيرة، أهمها: الفائدة الاقتصادية من التعاون التجاري، والفائدة السياسية من ضم الصين إلى تحالف مع أوروبا تكون فيه الدولة العثمانية بين فكي الكماشة، من الخلف (الصين) ومن الأمام (الدول الأوربية).
ذهب السفراء – كما فعل ديجاما من قبل مع ملك الهند – إلى إمبراطور الصين، لكن هذه المرة بأدب أكثر وبهدايا أقيم وبطريقه مهذبة أفضل، لكن كل هذا لم يشفع لهم، فقد ظل الغرور الأوروبي باديًا عليهم، وكانت أخبار المذابح وأعداد القتلى قد وصلت إلى الإمبراطور الصيني، فكان الرد:
مزق الخطاب، ثم أمر بإلقاء القبض على السفراء وإعدامهم بتهمه القتل والقرصنة، ثم التمثيل بجثثهم في الشوارع ونقلها من مدينه صينية إلى أخرى.
وفي نفس الوقت كانت القوات الصينية قد هاجمت السفن الأوروبية الراسية على الشاطئ وأغرقتها جميعًا.
كان هذا السلوك الصيني ناتج عن مشاهدات الصين لما فعلته البرتغال خلال السنوات الماضية عندما انتصرت في المدن والبشر، لتضيع فرصة تاريخية من يد البرتغال لن تتكرر مرة أخرى.