ترجمة وتحرير نون بوست
بعد سنتين من التدخلات العسكرية المباشرة، أولها في البحرين في عام 2011، وآخرها في اليمن الشهر الماضي، يبدو النظام السعودي بطريقة أو بأخرى بمظهر المنيع والمحصن أمام زعزعة الاستقرار التي ضربت المنطقة الممزقة بالصراعات والحروب، والمرونة الحالية التي يتمتع بها النظام السعودي تبدو نتيجة مباشرة لإعادة توزيع السلطة في الدولة الغنية بالنفط، مع ارتياح وقناعة المواطنين السعوديين بقياداتهم الجديدة، والدعم الخارجي الذي يكفله حلفاء المملكة الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن في الواقع يوجد أكثر من عامل مؤثر على ثبات ومرونة المملكة السعودية، فاستمرارية النظام السعودي تعول على الانقسامات الداخلية والاضطرابات الإقليمية، التي تلعب دورًا على طرفي نقيض.
المجتمع السعودي مجزأ ومقسم على أسس أيديولوجية تمنع أي مسعى للمطالبة الوطنية بالتغيير السياسي والتعبئة الحقيقية، الإسلاميون والليبراليون – كل من طرفه – يعبرون عن موافقهم عن طريق معارضة كل شيء تقريبًا، ابتداءً من حقوق الإنسان ومرورًا بقيادة المرأة للسيارات وانتهاءً باعتراضهم على عدم دمجهم في مؤسسات الدولة مثل مجلس الشورى، وتساهم الدولة الملكية بتوسيع الفجوة بينهما، من خلال دعم الموالين لها من أصحاب التوجه الإسلامي السلفي الوهابي، كما تعمد بذات الوقت إلى دعم هذه الاتجاهات الإسلامية والليبرالية ولكن بطريقة مختلفة؛ ففي مؤسسات الدولة التعليمية والقضائية الرئيسية، تعطي الإسلاميين مطلق الحرية، ولكن في مجالات السياسة الخارجية، الاقتصاد، الثقافة، والإعلام، يجند النظام السعودي الأفراد ذوي الميول الليبرالية كعملاء ومستفيدين من سخاء الدولة، وعن طريق وضع الإسلاميين والليبراليين في تخصصات ومجالات مختلفة، يضمن النظام استمرار سياسته المتمثلة بـ”فرّق تسد”، وبالتالي يقضي معظم الليبراليين والإسلاميين وقتهم في مهاجمة بعضهم البعض، بدلًا من العمل سويًا على تحقيق جدول أعمال مشترك للإصلاح السياسي.
لتأليب الإسلاميين والليبراليين ضد بعضهم البعض، يخلق النظام منصات منفصلة لكل مجموعة، ويرعى كل منصة بشكل انتقائي، ويأجج حرب المناصب بين أتباع كل فصيل، ويحرص من خلال هذه السياسة على إرساء هيمنة الإسلاميين في المدارس والمساجد، وإشغالهم بتدريس التلاوات القرآنية، كما يحافظ على سيطرتهم في المحاكم السعودية، حيث يقومون هناك بتمرير عقوبات صارمة على المخالفين تتوافق مع توجهاتهم الإسلامية، وفي ذات الوقت، يحصر أصحاب النظرة الليبرالية في الصالونات الأدبية حيث يناقشون الحداثة، ومحطات البث التلفزيوني التي يدافعون من خلالها عن السياسات المحلية والإقليمية للنظام، مثل إعانات البطالة والحرب على اليمن، وكون الإسلاميون والليبراليون يعملان في مجالات منفصلة، لا يتجاوز أحدهما على منصة الآخر، ولكن يسمح لهما بمهاجمة بعضهما البعض في منافسة ونقاشات لا نهاية لها، وطبعًا تحت أنظار النظام السعودي.
الفجوة الإسلامية – الليبرالية ليست مجرد انعكاس لاختلاف في وجهات النظر فحسب، ولكنها وضع مستمر يحافظ على ديمومته الأمراء السعوديون المتعددون، حيث يعمل هؤلاء أيضًا على خلق ودعم مساحات منفصلة للجماعات الفاعلة غير الحكومية والمتناقضة والمسيسة في كثير من الأحيان، وينخرط الأمراء في هذا النوع من الرعاية المتناقضة بهدف كسب التأييد الشعبي بين مختلف فصائل الشعب السعودي، بحيث تعمل هذه الداوئر على مبايعتهم كل على حدة ويحتشدون للدفاع عنهم في الخطب والمقالات وغيرها من مجالات النشاطات.
إذن، الشعب السعودي يعطي الأمراء شرعيتهم، والأمراء بحاجة إليها لتعزيز شعبيتهم ما بين المجموعات الفرعية المنفصلة من السكان؛ فالملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود كان معروفًا سابقًا برعاياته للمثقفين الليبراليين في مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام العربية، ولكن بعد أن أصبح ملكًا، أصبح أكثر ميلًا إلى مغازلة الإسلاميين، ويبدو أن الحرب في اليمن جذبت استحسان وموافقة الإسلاميين المعادين للشيعة والمد الشيعي الإيراني؛ ففي غضون ساعات من الإعلان عن عملية عاصفة حاسمة ضد الحوثيين الشيعة في اليمن، أعلن الإسلاميون عن دعمهم لها، وأثنوا وباركوا على جهود الملك الجديد، ومن منظور داخلي، كان للحرب حاجة ملحة للحفاظ على التوزان السعودي، كونها ساعدت على دفع الإسلاميين لدعم النظام السعودي بعد أن جرّم قانون مكافحة الإرهاب الجديد معظمهم، لاسيّما جماعة الإخوان المسلمين والجهاديين الراديكاليين، والمثير للدهشة أن الحرب استطاعت أيضًا توحيد الليبراليين والإسلاميين – ولو مؤقتًا – ضد عدو خارجي للمرة الأولى منذ انتفاضات الربيع العربي.
النظام الملكي السعودي اكتسب ثباتًا وقوة إثر اضطرابات المنطقة بعد الثورات العربية الأولى بدلًا من زعزعة استقراره وضعفه، كون التدخلات المالية السعودية في مصر، والتدخلات غير المباشرة للمملكة في سورية والعراق من خلال وكلائها في الجماعات المتمردة، وإرسال القوات السعودية البرية إلى البحرين، وشن غارات جوية في اليمن، جميع هذه التدخلات استعرضت قوة النظام السعودي أمام مواطنيه، كما أوضحت لهم ارتفاع تكلفة التغيير السياسي في البلدان المجاورة، ولذلك يظهر الاستقرار الداخلي السعودي متناسب عكسيًا مع عدم الاستقرار الإقليمي حول المملكة، حيث كان العنف في هذه البلدان كافيًا لإرهاب وتخويف السعوديين، وكذلك تثبيط أي جهد لتنظيم أو لتطوير احتجاجات حاشدة في السعودية كالتي شهدتها أماكن أخرى في العالم العربي.
إن التدخل السعودي في الدول العربية بأشكال مختلفة تتراوح بين الدبلوماسية النفطية، والتكتيكات المضادة للثورة، ودعم الأنظمة القديمة، والضربات العسكرية الصريحة، تمثل إستراتيجيات بقاء صريحة، تهدف – وفوق كل شيء – لوقف تأثير الدومينو الناجم عن الانتفاضات العربية، وكانت نتيجة هذه الإستراتيجيات ترهيب الجمهور السعودي، الذي أصبح يخشى ارتفاع تكلفة التغيير السياسي.
وأحدث هذه التدخلات هي عملية عاصفة الحزم، التي تم الإعلان عنها في 22 أبريل، وتم إيقافها حاليًا بعد أن حققت أهدافها وفقًا للبيان الرسمي السعودي، ولفسح المجال أمام عملية تجديد الأمل الموجهة لمعالجة اليمن الفقير والمدمر، والملك سلمان كان بحاجة ماسة إلى هذه الحرب لإعادة تمحور المملكة العربية السعودية باعتبارها قوة إقليمية سنية مهيمنة، والتصدي للسياسات التوسعية الإيرانية، وهذه الحرب الخارجية تظهر أهميتها أيضًا بالنسبة للداخل السعودي، وذلك عن طريق إسكات الأصوات المحلية الهائجة والمنجرفة نحو الاستجابة لدعوة الدولة الإسلامية (داعش) في شمال المملكة، التي تدعي الدفاع عن المسلمين السنة ضد الهجمات الشيعية التي ترعاها إيران في العراق وسورية، وربما كان سلمان – عندما ابتدر هذه الحرب – قلقًا بشأن المنافسة التي يشكلها خليفة الدولة الإسلامية البغدادي، الذي تعهد بالقضاء على الشيعة وغيرهم من الأقليات، وهو ذات التعهد الذي قطعه الوهابيون السعوديون على أنفسهم أملًا في تنقية الإسلام من الزنادقة، ومن الواضح أن المملكة العربية السعودية لم يكن باستطاعتها أن تتخلف عن مواكبة هذا العهد.
على الرغم من أن الانقسامات السعودية المحلية والتدخلات الإقليمية قد تكون ذات أهمية قصوى في استقرار المملكة على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل، تحتاج السعودية للعمل الدائم والدؤوب على الخطوط الفاصلة التي تمنع الشعب السعودي من وضع جداول أعمال وطنية موحدة للإصلاح السياسي، كون إحجام النظام عن تأجيج الانقسام ما بين الإسلاميين والليبراليين، قد يقود البلاد نحو مزيد من الإصلاح السياسي التمثيلي، بما في ذلك تقاسم السلطة في شكل مجلس وطني منتخب، ويمكن أن يؤدي هذا الامتناع أيضًا إلى وضع حد لحالة الفصام التي تعاني منها الإصلاحات الاجتماعية المتناقضة، التي يجري تنفيذها ابتداءً من قمة الهرم بدلًا من معالجتها للطبقة القاعدية، حيث ستقاوم هذه المجموعات الإصلاحات التي لا تتفق مع جوهرها، مما سيؤدي إلى إحباط التغييرات وتخريب السياسات ابتداءً من قمة الهرم.
النظام السعودي بحاجة أيضًا لوضع حد للتدخلات العسكرية الخارجية التي يضطلع بها، لأن هذه التدخلات غير قادرة على استعادة النظام في البلدان المجاورة، ولاسيّما في سورية واليمن، بدلًا من ذلك، ستعمل هذه المغامرات الإقليمية على تفاقم الاستقطابات، وستعوق الحلول السياسية الحقيقية، وستطيل أمد الحروب الأهلية.
الانقسامات الداخلية والاضطرابات الإقليمية الجارية قد تكون عوامل متقلبة للغاية ضمن المستقبل السعودي، إذا لم تعمل المملكة على معالجتها، فهذه الانقسامات خطيرة جدًا في منطقة تضطرد فيها على نحو متزايد المظالم السياسية والاقتصادية، وتتبدى من خلال الطائفية العنيفة، وتفكك سيادة الدول وانهيار سلامتها الإقليمية.
الاستقرار الواضح للنظام الملكي بعد خمس سنوات على اندلاع الانتفاضات العربية، وحصانته ضد الاحتجاجات والسياسات الجماعية، قد لا تعني دائمًا أنه من الجيد أن تكون ملكًا، فعلى المدى الطويل، ذات الظروف التي أسهمت وتسهم في استقرار المملكة قد تعمل بشكل مساوٍ على زعزعة الاستقرار، وبشكل أكثر تحديدًا على تفتيت النظام السياسي السعودي ذاته، والأوضاع المحلية والإقليمية التي تساعد حاليًا في الحفاظ على مرونة النظام السعودي، تحمل في ثناياها بذور تفكك السلطة الحاكمة، وبالتالي هذه الأوضاع ذاتها يجب أن تكون محلًا لقلق خطير في استشراف المستقبل السعودي.
ونظرًا لأهمية المملكة العربية السعودية في استقرار الاقتصاد العالمي، فإن حلفائها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، يجب أن يكونوا على بينة من التحديات الداخلية والإقليمية التي تواجه المملكة، كون الاستقرار في البلاد قد لا يدوم طويلًا إذا بقي حلفاؤها يشعرون بالرضا عن آفاق المملكة الحالية والمفترضة.
المصدر: المونيتور