حقق مصطفى أقينجي، المرشح اليساري بانتخابات جمهورية شمال قبرص التركية، فوزًا مريحًا يوم الاثنين الماضي، بحصوله على 60.4٪ من أصوات الناخبين، ليرفع آمال الكثيرين في التوصل لتسوية للأزمة القبرصية وتوحيد الجزيرة المنقسمة بين الجنوب اليوناني والشمال التركي منذ حرب عام 1974، لا سيما وأن حملته الانتخابية ركزت بالأساس على أولوية المفاوضات مع يونانيي الجنوب لإنهاء الانقسام، في مقابل حملة المرشح درويش إروغلو، القومي المحافظ والأكثر تطرفًا في مواقفه من اليونانيين، والذي حصل على 39.6٪.
بعد إعلان فوزه في الانتخابات، وقف أقينجي ليلقي خطابه الأول أمام أنصاره ملوحًا بغصن زيتون، في إشارة واضحة لرغبته في تحقيق ما فشل فيه سابقوه، والدفع قدمًا نحو فيدرالية قبرصية موحّدة، وهو موقف منفتح جدًا تجاه اليونانيين لا يشاركه إياه المحافظون، والذين يحبذون الاستمرار في روابط أقوى مع أنقرة، ومدى قدرة أقينجي في الاعتماد على التفويض الذي حصل عليه بفوزه لتحقيق رؤيته ستكشف عنها المفاوضات القادمة مع يونانيي الجنوب.
“نتائج الانتخابات تعني أن الشماليون صوّتوا لإيجاد حل لجزيرتهم، وهو ما يستطيع أقينجي أن يفعله أكثر من أي شخص آخر، خاصة في هذا الوقت الذي تعاني فيه جمهورية شمال قبرص التركية من التخلّف مقارنة بقبرص اليونانيين العضوة في الاتحاد الأوروبي، ويشعر الكثيرون فيها بالتضرر من الحُكم التركي الفعلي الذي يزداد ابتعادًا عن أوروبا، فالأتراك يحتفظون إلى اليوم بـ35،000 جندي في شمال قبرص، وهو ما بدأ أتراك قبرُص يضيقون ذرعًا به،” هكذا قال جيمس ليندساي، المتخصص بشؤون قبرص لدى مدرسة لندن للاقتصاد.
يتمتع أقينجي بتاريخ طويل من التعاون مع يونانيي قبرص، وبالأخص حين كان عُمدة نيقوسيا، عاصمة قبرص، وعمل عن قُرب مع العُمدة اليوناني للمدينة لحل الكثير من المشاكل التي عانى منها السكان آنذاك، كما أسس حركة السلام والديمقراطية للترويج لتوحيد الجزيرة طبقًا لخطة كوفي عنان، وهي الخطة التي وضعتها الأمم المتحدة لإنشاء فيدرالية موحدة تدخل بعدها قبرص للاتحاد الأوروبي، ولكن اليونانيين آنذاك رفضوها، لتظل الأزمة عالقة إلى اليوم.
على عكس البعض، يرى أقينجي أن الانعزال والاعتماد على الاعتراف التركي دون غيره يخلق وضعًا سيئًا لأتراك الشمال على المستوى السياسي والاقتصادي، ويمنعهم من المشاركة في تسيير دفة قبرص على الساحة الدولية والاستفادة من عضوية الاتحاد الأوروبي، كما يرى أن الروابط الاستراتيجية التي لا غنى لها مع الأتراك لأسباب جغرافية وثقافية واضحة، لا يجب أن تتحول لتبعية صرفة تجعل من أتراك قبرص مجرد تابع للجمهورية التركية يمكن لأنقرة أن تتدخل في شؤونهم كيفما شاءت.
“العلاقة بين تركيا وبيننا يجب أن تكون علاقة أخوة، لا علاقة أم وابنها،” هكذا قال أقينجي أثناء حملته، في إشارة إلى رفضه للمنظور المهيمن في تركيا منذ عقود، والذي عبر عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرة بنفس الكلمات حين أشار للعلاقة بين بلده وحليفها الصغير بالعلاقة بين أم وابنها، “أما آن لذلك الطفل أن يكبر ويصبح شخصًا مستقلًا؟” هو السؤال الذي وجهه أقينجي في إحدى مؤتمراته الانتخابية، وهو ما دفع أردوغان لتوجيه الانتقادات له حينها، وإن قام بتهنئته بعد فوزه.
ليس أدل على اتجاه أقينجي أكثر ناحية قبرص والاتحاد الأوروبي، ورغبته في تخفيف الروابط الصلبة مع تركيا، مما جرى بعد إعلان فوزه، حيث نزل أنصاره إلى الشوارع رافعين أعلام الاتحاد الأوروبي، على غير العادة، وليس أعلام جمهورية شمال قبرص التركية، في إشارة واضحة لرفضهم للكيان السياسي الضئيل والمهمش وغير المعترف به.
ما هي احتمالات تحقيق حلم توحيد الجزيرة على الأرض؟ سيعتمد ذلك بالطبع على الموقف في أنقرة، فحكومة العدالة والتنمية التي ابتعدت بتركيا عن الرؤى القومية السابقة للحكومات التي هيمن عليها الجيش، وطالما اعتزت برغبتها في تصفير المشاكل في الخارج، قد تجد فرصة لإثبات ذلك مرة أخرى في الملف القبرصي، أما إذا هيمنت الرؤى المحافظة داخل النظام التركي، فإن الحل سيصبح أكثر صعوبة، أضف لذلك بالطبع الموقف في نيقوسيا، والتي يجب أن تقنع اليونانيين بإطار جديد لحُكم الجزيرة، حيث يقبع هناك قوميون يونانيون أيضًا يرون أن قبرص اليونانية العضوة بالاتحاد الأوروبي لا تريد أحدًا، ولا يجب أن تشغل بالها بفيدرالية لتضم الأتراك.
بين أقينجي ونيكوس أناستاسيادس، رئيس قبرص، اللذين ينحدران من نفس المدينة، ليماسول، يقبع إذن مصير الجزيرة، ومستقبل الفرصة المتاحة الآن لإنهاء الانفسام الطويل، وهي مهمة ثقيلة ستتطلب حركة دبلوماسية كثيفة بين أنقرة وأثينا، وكذلك بروكسل، وستتطلب العمل بدأب على المستوى الشعبي في الشمال التركي والجنوب اليوناني، لتأهيل سكان قبرص لمرحلة جديدة في تاريخهم.