ينادي الجميع كتّابا وسياسيين ومثقفين في كل يوم على ضرورة أن يكون للشباب دور بارز في حل قضاياهم اولا وقضايا بلادهم ثانيا، بل إن الكثير من البرامج والمقالات تخصص الكثير من الوقت للحديث عن هذه القضية، بل وبتنا نجد صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تعج بالكثير مما يُكتب عن هذا الأمر، من باب أن الشباب عبارة عن طاقة بشرية هائلة لا يجب أن نفقدها. كما أن الشباب أنفسهم يعلمون ذلك جيدا، وهم حريصون كل الحرص على أن يكون لهم دور في بلادهم وأن تكون لكلمتهم آذانا صاغية ولمطالبهم تحقيقا.
كل ما سبق مهم وضروري، بل إن قضية الشباب وإشراكهم في حل قضاياهم وقضايا بلادهم، وأن يكون لهم دور بارز في شؤون الحياة المختلفة السياسية والاجتماعية أمر لا ينكره أحد منذ عصور عديدة، وهو أمر دعا إليه الرسول محمد _صلى الله عليه وسلم_ وحثّ عليه بل ونفّذه والشواهد على ذلك كثيرة.
لكن، على الرغم من كل ما يُمكن أن يقال حول هذه القضية، إلا أن بعض الشباب العربي وبعد ما يسمى “الربيع العربي” الذي كان هو شرارة انطلاقه، أصبح في حالة من الرد والرد المضاد لكل ما حوله، فأصبح عبارة عن أداة يمكن استغلالها من الآخرين، بل يمكن القول بأنه وصل الحال في الشباب العربي إلى “الكُفرِ” بكل عمل أو حراك يتبناه شباب غيرهم، من منطلق “إذا لم أكن أنا فلا أحد غيري”، وهنا وصل الشباب إلى مرحلة من الاستقطاب لا يمكن بحال من الأحوال أن يتجاوزها المجتمع (والشباب خصوصا) إلا بتبني خطابا شبابيا جديدا يستهدف جميع مناحي الحياة المختلفة.
ومن المعلوم أنه لا يمكن لأي تحرك شبابي أو حتى تجمع شبابي أن يستقر ويتقدم ويتبنى مطالب عادلة وينجح في تحقيقها وخطابه لا يتعدى كونه خطابا عاما غير محدد الأهداف ولا النشاطات ويعتمد فقط على استغلال حماسة الشباب على تغيير واقعهم عن طريق تبني الخطابات الرنّانة والكلمات الحماسية التي تخاطب عنفوان الشباب ولا تخاطب عقلهم. بل لا يمكن لأي حراك شبابي أو تجمع شبابي أن ينجح وهو يتبنى فكرة أنه هو الوحيد الذي يتكلم باسم الشباب وهمومهم، وينسى أو يتناسى بأن من أسباب النجاح أن يترك الانسان لغيره حرية الرؤية والتصرف طالما أنه يتقاطع معه بنفس الأهداف.
إن مشكلة الشباب الحالية هي أنهم يستعملون الخطاب الذي فرّ منه الشباب أنفسهم في السابق، وهو الخطاب القائم على الحديث عن عموم المشاكل وليس تفاصيلها، الخطاب الذي يُبنى بناء على أجندات سياسية وليس على أجندات شبابية، فيعمل على تفريق صفوف الشباب قبل أن تجتمع أصلا، ذلك الخطاب الذي يشمل جميع مشاكل الشباب في خطاب واحد وكأن جميع المشاكل يمكن حلّها معا دون مراعاة خصوصية كل مشكلة وطريقة الحل المقترحة. هذا بالإضافة إلى مشكلة عدم التجديد في طريقة التحركات الشبابية وكأن الاعتصامات والاحتجاجات والمسيرات والحشد والتباهي بالأعداد هي الأسلوب الوحيد والأوحد لمعالجة القضايا، وينسى الشباب أن طريقة التعبير نفسها لها نصيب كبير من حل المشكلة، بل وينسى الشباب بأن هناك الكثير من الطرق الأقل ضرارا والأكثر نفعا يمكن أن تساعدهم في حل قضاياهم.
إن ما يتصرف به الشباب هو نفسه ما كانوا ينتقدونه من غيرهم، فبعض تصرفاتهم تتم بناء على الرغبة في التغيير وهذا جميل ولكنه ليس بكافيا، فالرغبة بالتغيير تحتاج الى رؤية واضحة ودراسة معمقة لطبيعة التغيير المطلوب وآلية تنفيذه وسبل نجاحه، فالبعض يعيب على المؤسسات أنها تسير دون رؤية ومنهجية واضحة، ولكنهم هم أيضا (أي الشباب) يقعون في نفس المشكلة، وتكون النتيجة حينها ما نراه ونسمعه ونقرؤه يوميا من حال الشباب المتدني والمفرّق.
إن أولى الأولويات التي يجب على الشباب حاليا تبنيها ليست هي المتعلقة بحل قضايا المجتمع المختلفة (على أهمية ذلك) بل هي القضايا المتعلقة بهم أنفسهم من الرغبة الحقيقية في التقارب بين بعضهم البعض، وهذا يكون بتبني خطابا جديدا شبابيا من شأنه أن يجمع شتاتهم في عبارات ومطالب تجمع ولا تفّرق، في خطاب يعكس مدى تقبّل الآخر والذي يقود حتما إلى حراك شبابي واعي لا يختلف عليه أحد، بآليات وأسس واضحة.
إن الخطاب الشبابي الجديد يعتبر حاجة ملّحة قد تفوق الحاجة الى تبني قضايا المجتمع المختلفة، وهو من الضرورات الغائبة عن أذهاننا حاليا والتي يجب العمل على إيجادها، بحيث يكون:
الخطاب الشبابي الجديد يجب أن يتبنى قضايا الشباب الرئيسية من الحاجة الى التوحد والتكاتف، وقبول الآخر والعمل على إيجاد الأرضية لذلك قبل تبني أي قضية أو تحرك عن طريق ورش العمل المشتركة بين المختلفيين، وتبني النشاطات المجتمعية المشتركة، وغيرها من الأمور الهادئة التي تبني قواعد صلبة من التفاهم، وحينها نضمن بأن الجميع لهم نفس الرؤية والأهداف، وليأخذ ذلك الوقت الكافي حتى لو طال لسنوات، فهذا أفضل من أن نعد سنوات من التفرقة والخصومة بين الشباب أنفسهم.
الخطاب الشبابي يجب أن يكون بعيدا كل البعد عن البعد السياسي أو الايدولوجي أو الاستقطابي، فالشباب ملّوا من الحديث عن السياسة وربط كل واقعهم فيها، وملّوا من أن يكون الخطاب الذي يمثلهم هو خطاب السياسة والأحزاب والايدولوجيا والاستقطاب، هم يريدون أن يكون خطابهم يجمعهم جميعا على أرضية أن حاجة الشباب واحدة حتى لو اختلفوا في أفكارهم وانتماءاتهم، وهذا يتطلب الكثير الكثير من الجهد كي نصل الى هذه الحالة من تقبل الآخر والعمل المشترك وليأخذ ذلك من الوقت ما يأخذ المهم أن نصل الى نتيجة.
هذا الخطاب الشبابي يجب أن يكون بعيدا عن عبارات الحماسة والعنفوان، ذلك الخطاب الذي سئمه الشباب أنفسهم لأنهم وجدوا فيه تحريك للمشاعر أكثر منه تحريك للعقول، وكأن الشباب بهذا الخطاب العنفواني سيخلصون البلاد والعباد من كل مشاكلهم، وسيظفرون بكل ما يريدون. إن هذا الخطاب العنفواني ينعكس سلبا على ثقة الشباب بأنفسهم وقدراتهم، فمع كل فشل في أي حراك او نشاط يتبنى هذا الخطاب يزيد فَقدُ الثقة في كل نشاط او تحرك مستقبلي، وبالتالي يزيد فَقدُ الثقة بالتغيير المطلوب. وهذا ما لا يحب أحدا أن يصل إليه الشباب. إن الخطاب المطلوب هو الخطاب القائم على تحليل الواقع ويتبني جدولا زمنيا ومجموعة من النشاطات الواعية والنوعية.
إن الخطاب الشبابي المطلوب هو الخطاب الذي يتبنى حاجات الشباب الأساسية وفي نفس الوقت يحترم رغبات وتوجهات الشباب، فلا يعتدي على فِكر وعقيدة أحد، ولا يعتدي على رموز أحد، فالتجميع على قضايا الشباب أهم من التفرّق من أجل أمر آخر.
إن الخطاب المبني على تكاتف الشباب مع بعضهم البعض هو الذي يعمل على إنجاح الأنشطة الشبابية المختلفة، وليس الخطاب الاقصائي الذي يتبنى الشماتة والتثبيط من أي جهد شبابي (نجح أو فشل)، فلكل جهده حتى لو كان في غير موضعه، وكلٌ يُؤخذ منه ويُرد، والمهم أن يبني الشباب من أخطائهم ما يمكّنهم من مواصلة طريقهم، مع الاستفادة من الدروس والبناء عليها.
إن كل التجارب التي نقرأ ونسمع عنها الآن لدول باتت حديث الجميع من حيث النهضة والاستقرار بدأت نهضتها من حيث كان فِكر شبابها (وهم قادتها حاليا) يعتمد على تحليل الواقع، وتبني خطابا بعيدا عن الأمور التي تشتت شمل الشباب، ذلك الخطاب الذي جعلهم يستطيعون تبني قضايا المجتمع وتغييرها وفق رؤية الشباب وبما يلبّي حاجتهم جميعا.
إن الإيمان الراسخ بأن ما يجمع الشباب أكبر بكثير مما يفرقهم هو بداية الطريق الصحيح نحو خطاب أكثر اتزانا، وأكثر تجميعا، وأكثر قوّة، وأكثر تأثيرا.