ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
لا يعد خوض النقاشات حول السياسات الخارجية أمرًا دارجًا في فرنسا، ومنذ أن تحدث هيبار فيدرين، المستشار السابق للرئيس فرنسوا ميتيران ووزير الخارجية في عهد جاك شيراك، عن “المقاربة الدبلوماسية الفرنسية التوافقية بين دي غول وميتيران وشيراك”، لم تعد الخطوط العريضة لهذه السياسة محل تجاذب أو مزايدات، حتى في المناسبات القليلة التي يتم فيها عرض قرار متعلق بهذا الشأن للتصويت أمام البرلمان، يحظى عادة توجّه الحكومة بدعم واسع من النواب مهما كانت الاختلافات الفكرية بين الحكومة والبرلمان، ولكن الخلافات دبت منذ 2009، مع قرار نيكولا ساركوزي بإعادة فرنسا للقيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
كما حدث جدال عابر قبل ذلك بسنتين، بسبب الاستقبال الرسمي المبالغ فيه الذي حظي به العقيد معمر القذافي في باريس، ومنذ ذلك الحين ظلت ليبيا سببًا للانقسامات والنقاشات الساخنة في أروقة السياسة الفرنسية، فعندما تعلق الأمر بالتدخل عسكريًا في ليبيا، في مارس 2011، لمنع القذافي من قمع الثورة الشعبية في بنغازي، حظي المقترح بإجماع كامل من قِبل الطبقة السياسية الفرنسية، ولكن مضاعفات هذا التدخل هي التي أحدثت انقسامات عميقة في فرنسا وأوروبا.
انطلقت الشرارة الأولى لهذه الانقسامات بسبب موجة المهاجرين القادمين من ليبيا، أو الذين يتخذون من هذا البلد نقطة عبور للوصول للسواحل الأوروبية، بعد المخاطرة بأرواحهم وعبور البحر الأبيض المتوسط، فالمأساة فاقت كل التصورات، إذ إن أكثر من 1500 شخص قضوا في هذه المياه منذ بداية هذه السنة.
مراقبة الحدود
على هامش الاجتماع الطارئ للمجلس الأوروبي، المنعقد يوم الخميس 23 أبريل الماضي في بروكسل، أعلن فرنسوا هولاند أنه “يجب اليوم إصلاح أخطاء الماضي”، وهو لو يكن يتكلم عن التدخل الجوي للطائرات الفرنسية والبريطانية ضد قوات القذافي، ولا على تخطي العمليات الجوية للضوابط التي حددها بكل وضوح القرار 1973 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، مما أدى للتصفية الجسدية لهذا الديكتاتور، فقد وافق على كل هذه القرارات عندما كان في ذلك لايزال أمينًا عامًا لحزبه الاشتراكي.
وأضاف هولاند عقب ذلك الاجتماع: السؤال الآن هو كيف يعقل أن تمر ثلاث سنوات ونصف على ذلك التدخل العسكري، دون أن يكون هناك أي تصور لما سيحدث فيما بعد؟”، يبدو أن سهام الانتقادات هذه موجهة مباشرة للرئيس السابق نيكولا ساركوزي، لأنه يعتبر أن قراراته كانت متسرعة، وفي المقابل اعتبر أنصار ساركوزي أن المخطئ هو الرئيس الحالي هولاند، على غرار النائبة عن حزب الاتحاد من أجل الوحدة الشعبية، فاليري ديبور، التي نشرت تغريدة ثم سارعت إلى حذفها، تقول فيها “فرنسوا هولاند يتصرف كالهواة، ما إن تم انتخابه حتى سارع بسحب قواتنا من ليبيا”.
ولكن هذه التغريدة تنطوي على مغالطات عديدة، أولاً ارتكبت هذه النائبة المسؤولة عن الشؤون العائلية في حزب ساركوزي خطئًا إملائيًا في كتابة كلمة “ليبيا”، كما أن القوات الفرنسية لم تتواجد أبدًا على الأرض، ويبدو أنها اختلطت عليها الأمور بين ليبيا وأفغانستان، التي انسحب منها آخر الجنود الفرنسيين في سنة 2014، بعد أن كان هولاند قد وعد بذلك إثر انتخابه في سنة 2012.
أما فرنسوا فيون، الذي كان يشغل منصب رئيس وزراء إبان التدخل العسكري في ليبيا، فقد كانت تصريحاته أكثر انسجامًا: “كانت العملية العسكرية الفرنسية في ليبيا مبررة من الناحية الأخلاقية، ولكنها أدت إلى انهيار الوضع في ليبيا ونشر الفوضى في دول الساحل الأفريقي”.
كما أن وزير الدفاع الحالي، جون إيف لودريان، يؤكد هذه الفكرة: “ليبيا في عهد القذافي كانت لها سلبيات عديدة ولكنها على الأقل كانت تسيطر على حدودها”.
وقد دفعت هذه المشكلة بالأوروبيين إلى حد التفكير في تمويل مخيمات تجميع في ليبيا، لمنع المهاجرين من ركوب قوارب الهجرة السرية.
مأزق عسكري
بالنسبة لمن يجلس على الربوة ويكتفي بالمشاهدة، فإنه من السهل انتقاد قرار ساركوزي بالتدخل في ليبيا، ولكن في سنة 2011، هل كانت هناك بدائل أخرى؟ وفي هذا السياق يعترف مستشاره السابق، هنري غويانو، بمسؤولية جزئية يتحملها القادة الأوروبيون عما حصل في ليبيا، ولكنه يؤكد أن: “ساركوزي وجد نفسه أمام خيار صعب، بين التدخل العاجل أو السماح بمجزرة ضد مليون ساكن في بنغازي”.
ولكن ما كان رئيس الجمهورية يجهله في ذلك الوقت، أنه سيضع نفسه في مأزق عسكري يجرّه أكثر فأكثر نحو مزيد من التدخل الذي لم يكن مبرمجًا منذ البداية، من منطقة الحظر الجوي التي يفترض أن تمنع طيران القذافي من قصف الثوار في بنغازي، مررنا إلى عمليات نوعية شملت كامل التراب الليبي لدعم الثوار، ثم إلى الإطاحة بالقذافي وقتله؛ مما أدى إلى الفراغ بعد أن انهارت مؤسسات الدولة وعوضتها ميليشيات مسلحة من كل المشارب والتوجهات.
ويتفق جلّ الملاحظين على أن فكرة إرسال قوة دولية في ذلك الوقت لحفظ السلام في ليبيا كانت فكرة غير واقعية، فقد كانت تحتاج إلى ما بين 300 ألف و500 ألف رجل على الميدان، وهو رقم لا تقدر على توفيره الولايات المتحدة التي تخلفت عن التدخل الجوي، ولا الأوروبيين أيضًا، كما أن مجلس الأمن الدولي ما كان ليقوم بتوفير الغطاء الأممي لهكذا قرار، فالقرار 1973 المتعلق بحظر الطيران فوق ليبيا تم تمريره بفضل امتناع روسيا والصين عن التصويت، ولكنهما كانتا بالتأكيد ستعتمدان حق الفيتو أمام أي قرار بالتدخل البري في ليبيا.
زعزعة الأمن في المنطقة بأكملها
أدى انهيار نظام القذافي والفوضى التي انتشرت اليوم بوجود حكومتين إحداهما في طبرق والأخرى في طرابلس، بالإضافة لوجود عشرات المجموعات المسلحة التي أعلنت بعضها الولاء لتنظيم داعش، إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة بأسرها؛ فالكتائب والأسلحة التي كان القذافي يسيطر عليها انتقلت إلى البلدان المجاورة، من مصر إلى تونس وكل دول الساحل الأفريقي، كما أن صعود التنظيمات المتطرفة في مالي الذي أدى للتدخل العسكري الفرنسي في سنة 2013 يُعد أحد تبعات الفوضى الليبية التي تحدث عنها فرنسوا فيون، وهي فوضى دفعت إلى التفكير في التدخل مجددًا في ليبيا.
أكد وزير الدفاع الإيطالي، قبل أن يتم إسكاته من قِبل ماتيو رينزي، أن فرنسا ستكون مخطئة إذا جلست تنتظر قرارًا من المجتمع الدولي، بينما مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، الإسباني برناردينو ليون، يكافح من أجل التوصل لحل سياسي يبدو مستحيلاً بين طبرق وطرابلس.
والتدخل العسكري يمكن أن يكون في شكل عملية دقيقة وفعالة تستهدف عصابات تهريب البشر من أجل وقف الهجرة السرية، أو نشر قوات على الأرض لمواجهة المجموعات المتطرفة، ولكن لا أحد يمكنه ضمان نجاح أي من الطريقتين.
إلى حد الآن اختار فرنسوا هولاند ومستشاروه العسكريون إستراتيجية مغايرة: وضع ما يشبه الحزام الأمني في جنوب ليبيا لمنع أكثر ما يمكن من تسربات المجموعات المتطرفة، في إطار “العملية بركان” التي تجمع دول المنطقة، وخاصة التشاد التي يشارك جيشها بفعالية في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى ونيجيريا.
التعامل مع المضاعفات
عودة الجدل حول ليبيا يطرح بشكل عام مشكلة التدخلات العسكرية الأجنبية، سواء كان ذلك باسم حماية الأمن الدولي، أو الاستقرار وحقوق الإنسان، ولكن تجربة السنوات الأخيرة أثبتت أن الجانب العسكري من المهمة هو الجزء الأسهل، وأن الصعوبات الحقيقية تبدأ في الظهور فيما بعد.
والمغامرة الأمريكية في العراق هي أوضح دليل على ذلك، فبعد شهرين من سقوط نظام صدام حسين، ادعى الرئيس جورج بوش أن “العمل تم إنجازه”. ولكن في الواقع العمل الحقيقي لم يبدأ بعد، كما أن الأمور لم تكن تسير نحو الأفضل؛ فالولايات المتحدة أضاعت فرصة ما بعد الحرب بارتكاب أخطاء ساذجة، ولكن حتى لو لم ترتكب هذه الأخطاء لكانت المهمة ستكون صعبة أيضًا.
أما أفغانستان فهي مثال معاكس تمامًا، فقد تضافرت الجهود الرامية لبناء دولة، ولم تذهب كلها سدى، والقوات الدولية ستغادر البلاد على الأقل وهي مطمئنة إلى حد ما على الاستقرار في المستقبل.
والحقيقة أن المجتمع الدولي، المتمثل أساسًا في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لا يملك الإرادة ولا القدرة ولا التصميم اللازم للتعامل مع مضاعفات التدخل العسكري، والذي يكون عادة مدفوعًا بالسعي وراء المصالح أو الوفاء للتحالفات، أو الاستجابة للرأي العام عندما تصبح مشاهد الدماء والمجازر على التلفاز لا يمكن السكوت عليها.
كما أن أغلب الخبراء العارفين بأمور المناطق التي يتم فيها التدخل، يعارضون عادة التدخلات المسلحة الأجنبية، لأنهم يعلمون أنها لن تحل أي مشكل، وأنها ستكون لها مضاعفات خطيرة بما أن القوات الأجنبية غير قادرة على الأخذ بزمام الأمور؛ مما يؤدي إلى تفاقم الوضع عوض تهدئته، كما أنهم يعتبرون أن كل وضعية هي حالة خاصة تحتاج لتصرف سياسي دقيق بدلاً من السعي لفرض حلول مسقطة لا تراعي التنوع والاختلافات، وهذا الرأي يبدومنطقيًا، ولكن في المقابل فإن المسؤولين السياسيين مدعوون أحيانًا للاستجابة لحالات طارئة تحتاج إلى رد حاسم أكثر من التفكير والتأني ووضع الخطط على المدى الطويل.
المصدر: صحيفة سلايت الفرنسية