ترجمة وتحرير نون بوست
نظام القاهرة دخل في حقبة الجنون، فمن إقامة منطقة عازلة بين شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة وهدم البيوت هناك على رؤوس قاطنيها، إلى تجريم الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين وحظر الحزب والتنكيل بأعضائه، إلى استخدام القوة المميتة ضد الناشطين الذين يخرقون قانون التظاهر المصري، جميع ذلك يثبت أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وضع إستراتيجية لحفظ الأمن الداخلي قائمة على الرصاص والجرافات والقضاة الذين يأتمرون بتوجيهات السلطة.
بعض محللي السياسة الخارجية الواقعيين ينعتون المشاكل الداخلية المصرية بأنها شأن داخلي، وأنها لا تلعب دورًا في تغيير المصالح الإستراتيجية الأمريكية، وأن قيام إدارة أوباما مؤخرًا بالإفراج عن المساعدات العسكرية المصرية الموقوفة مؤقتًا نتيجة لسجل مصر السيء في مجال حقوق الإنسان، يبدو أنه تصرف يتماشى مع هذه النظرة.
ولكن بغض النظر عمّا يقال، فإنه ليس صحيحًا أن السياسة الداخلية يمكن عزلها عن السياسة الخارجية، وفي الواقع، السياسات الداخلية والخارجية لمصر تبدو أكثر تشابكًا يومًا بعد يوم، واضطراد العنف في مصر ينبغي أن يُفاقم درجة المخاوف الأمريكية.
العدو القريب والعدو البعيد
لا يختلف أي مراقب للشأن المصري أن النظام فشل في التمييز داخليًا ما بين الإسلاميين المتطرفين والمعارضين السياسيين غير العنيفين – والبعض يزعم أن النظام لم يفشل بالتمييز بل تعمد خلط هذه المفاهيم -، وأوضح مثال على هذا الخلط هو تصريح وزير الخارجية المصري سامح شكري مؤخرًا بقوله “ليس هنالك فرق كبير بين جماعة الإخوان المسلمين والدولة الإسلامية”، والحقيقة أن هذه الرؤية ليست مستحدثة في مصر، ولكن الجديد هو الحماس الذي يزرعه النظام المصري لاستئصال الآفات الإسلامية وتحويل هذا النشاط إلى نطاق السياسة الخارجية.
خلال فترة الصعود السياسي لجماعة الإخوان المسلمين إبان ثورة يناير لعام 2011، تفاقم قلق المعارضين لجماعة الإخوان من نهج الجماعة الهادف إلى “أخونة” الدولة، وعناصر أفراد الأمن الملتحين، وإصدار البنوك لسندات تتماشى مع مبادئ التمويل الإسلامي، عززت هذه المخاوف المتوجسة من استيلاء واحتكار الإسلاميين للسلطة، وإثر الإطاحة بالإخوان في عام 2013، وإعلان الإخوان كتنظيم سياسي محظور وإرهابي في وقت لاحق، ثابرت حكومة الانقلاب الجديدة على ممارسة سياسة اجتثاث الإخوان من الدولة “التطهير”، وامتدت هذه الجهود إلى عالم السياسة الخارجية.
خلال الأيام الأولى على اعتقال مرسي، أدت عقلية التطهير المصرية إلى إقالة العديد من المسؤولين الحكوميين خشية أن يكونوا متعاطفين مع الإخوان، وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية المصرية لم يتم اخترقها من قِبل جماعة الإخوان خلال فترة حكم مرسي القصيرة، بيد أنها خضعت لذات المستوى المركّز من التدقيق الذي خضعت له باقي وزارات الدولة، فكان يتعين على أعضاء السلك الدبلوماسي اجتياز اختبار الولاء من خلال الدفاع عن تجاوزات النظام وإظهار مواقفهم المعارضة لجماعة الإخوان المسلمين، وتحقيقًا لهذه الغاية، خرج السفراء المصريون بعدة انتقادات لاذعة للإخوان مثل مقارنتهم بالنازيين، وتزامنت هذه الانتقادات مع نفيهم لقيام النظام المصري بقتل المتظاهرين، مشبهين التدابير الأمنية المصرية بالتدابير المستخدمة في الدول الغربية.
عملية اجتثاث الإخوان من السياسة الخارجية المصرية تجاوزت حدود وزارة الخارجية المصرية، حيث تم استخدام المنبر الخارجي المصري لتشويه صورة الإخوان إقليميًا، ويرى نظام السيسي نفسه على أنه قمة الرمح في حركة مناهضة الإسلاميين، لذا عمد – كما فعل في مصر داخليًا – إلى تأجيج المخاوف الخارجية من خطر التطرف الإسلامي الذي تواجهه المنطقة، كذريعة لضرب الإسلاميين بكافة مشاربهم وانتماءاتهم، ومصر كانت الدولة الأكثر نشاطًا في تصدير هذا النموذج التخوفي إلى ليبيا، حيث دعمت القاهرة وأبو ظبي الجنرال الليبي المنشق خليفة حفتر، الذي يتقاسم معهما وجهة النظر التخوفية من التوسع الإسلامي، ومازال نطاق الدعم المصري لحفتر وعملية الكرامة التي يقودها غير معروف، ولكن من المؤكد أن مصر سهّلت الغارات الجوية الإماراتية التي استهدفت الفصائل الإسلامية داخل ليبيا في أغسطس 2014، وهذا التدخل، جنبًا إلى جنب مع الجهود التي تبذلها القاهرة لرفع الحظر المفروض على الأسلحة الليبية، عمل على زيادة استقطاب المعسكرين المتنافسين في ليبيا، مما عقّد جهود الوساطة التي تقودها الأمم المتحدة هناك.
حتى الآن، قاومت مصر إغراءات إرسال القوات البرية المصرية إلى ليبيا، وجاءت أقوى هذه الإغراءات في فبراير من العام الجاري، حين عمدت فصائل ليبية تابعة للدولة الإسلامية إلى قطع رأس 21 رهينة جميعهم من الأقباط المصريين على شواطئ مدينة سرت، وجاء الرد المصري متمثلًا بشن غارات جوية، وهذه المرة بشكل علني، والإسراع بإجلاء عدد كبير من العمال المصريين من ليبيا، والخطر الحالي يتمثل بأن مثل هذه الاستفزازات جنبًا إلى جنب مع الرغبة المصرية في منع نشوء أي نظام إسلامي في جارتها الغربية، سوف يغري القاهرة للإمعان في زيادة دعمها لمكافحة الإسلاميين في ليبيا عن طريق زيادة دعمها لحلفائها في الزنتان، كما أن سياسات القاهرة في ليبيا والتي تم تصميمها وهندستها بهدف إعاقة قدرة حركة الإخوان المسلمين على بناء حكومة ائتلافية ملتزمة بمكافحة الإرهاب الحقيقي في ليبيا، ستؤدي إلى بزوغ مخاطر كبيرة ومكلفة، كون ميل نظام السيسي إلى الدمج والخلط وعدم التمييز ما بين الإسلاميين المتطرفين وغير المتطرفين، سيؤدي في نهاية المطاف إلى حصول شراكة ما بين هذين الطرفين لمجابهة العدو المشترك.
لا شي يأتي بالمجان
ربما التحول الأكثر وضوحًا في العلاقات الخارجية المصرية تحت حكم السيسي هو الدرجة التي تعتمد بها مصر على دعم الخليج للتعويض عن تدهور وضعها المالي، فوفقًا لوزارة المالية المصرية، قدمت المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ودولة الكويت، 10.6 مليار دولار كمساعدات لمصر خلال السنة المالية 2013- 2014، و70% من هذه المساعدات ظهرت بشكل منح نفطية عينية، والـ30% المتبقية أتت على شكل دعم مالي مباشر، ولكن هذا الرقم لم يأخذ بعين الاعتبار الدعم المالي الخليجي الإجمالي لمصر، لأنه لم يشمل الالتزامات الأخيرة التي أدلت بها دول مجلس التعاون الخليجي على خلفية القمة الاقتصادية في شرم الشيخ، حيث قدم المجلس ودائعًا في البنوك المصرية لدعم سيولة القطاع المصرفي، كما التزمت دول المجلس بانتهاج سياسة الاستثمار الأجنبي المباشر بهدف ضخ الحياة في عروق الاقتصاد المصري المتهالك، علمًا أنه في أغلب الأحيان عمدت الحكومة المصرية إلى توجيه عائدات ومساعدات الخليج إلى الجيش المصري لتعزيز قوة هذه المؤسسة داخل الدولة المصرية.
المسؤولون المصريون يصرون أن الدعم الخليجي يتم تقديمه بدون مقابل، ولكن على أرض الواقع لا تأتي الأمور بالمجان، وهذه لا تعتبر المرة الأولى التي تطرح فيها القاهرة سياستها الخارجية على المزاد العلني، حيث تلقت مصر إعفاء من ديونها الهائلة بعد أن انضمت إلى قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة في حرب الخليج 1990-1991، كما تعتبر المساعدات العسكرية التي تتلقاها عادة من الولايات المتحدة بمبلغ 1.3 مليار دولار، بمثابة تعويض عن “الفوائد الإستراتيجية” التي تشمل منح أمريكا النفاذ العسكري فوق الأجواء المصرية وعلى شكل عبور بحري سريع ضمن مياهها الإقليمية، وتعويضًا عن التزام القاهرة بالأمن الإسرائيلي بعد توقيعها على معاهدة السلام مع إسرائيل في كامب ديفيد عام 1979.
إن اعتماد مصر الكلي على المساعدات الخليجية لتقويم اقتصادها الكسيح، يطرح خطرًا محدقًا متمثلًا بتحول مصر إلى قوة خاضعة للملكيات الخليجية، والمشاركة المصرية في التحالف السني الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين في اليمن هي أحد مظاهر هذه المخاطر، لا بل إن مصر ذهبت أبعد من ذلك عندما انحنت بتواضع أمام رعاتها لتقديم فروض الطاعة، حينما أكد السيسي استعداده لتقديم القوات البرية ضمن المعركة اليمنية، وفي ذات الوقت، يمكن استنتاج المعنى الضمني من المناورات العسكرية المشتركة التي جرت بين البحرين ومصر في أبريل من العام الجاري، على أنها احتمالية لدعوة مصر في إحدى المناسبات لقمع الانتفاضات التي قد تبزغ في منطقة الخليج العربي.
مصر بسياساتها هذه تلعب بالنار، فعلى المستوى الإقليمي، الحملات التي تشبه عملية عاصفة الحزم باليمن تميل الى تصعيد ديناميات حروب الوكالة، والداعمين الخارجيين في كلا المعسكرين – إيران والمملكة العربية السعودية – يتنافسان لزيادة المشاركة الإقليمية في المعسكرات التابعة لهما، أما على الصعيد الداخلي المصري، أثار دخول مصر إلى العملية احتمال حدوث رد فعل عنيف من الجمهور المصري الذي لم ينس التدخل المصري المكلف -بالمال والأرواح – في اليمن منذ أكثر من نصف قرن، وفي الواقع، تُظهر استطلاعات الرأي أن المصريين يعارضون بأغلبية ساحقة أي تدخل بري في اليمن.
التكهنات حول كون الدعم المصري للحملة التي تقودها السعودية هو ثمن حصولها على مساعدات مالية من الخليج، أصبحت قوية وأقرب إلى الحقيقة المستقرة لدرجة دفعت معها السيسي للتصدي لهذه الاتهامات وجهًا لوجه، ففي تصريح له في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، رفض السيسي بانزعاج واضح هذه القراءة للأحداث، مشيرًا إلى أن التزام مصر بالأمن العربي هو الذي دفعها للمشاركة، وقرار المشاركة لم يكن بتاتًا سدادًا للمعروف الخليجي.
القوة العربية المشتركة
النشاط العسكري المصري تبدى واضحًا من خلال الدفع المصري لتشكيل قوة عسكرية مشتركة في إطار جامعة الدول العربية خلال القمة العربية الأخيرة، فاستجابة للاقتراح الذي أعلنه السيسي في قمة مارس 2015، وافقت جامعة الدول العربية على تشكيل قوة للرد السريع من شأنها أن تحمي السيادة الوطنية للدول الأعضاء، وتتولى معالجة التهديدات الأمنية بما في ذلك التهديدات التي تشكلها الجماعات الإرهابية، وباعتبارها تمتلك أكبر جيش في المنطقة، من المفترض أن تكون مصر المساهم الرئيسي في هذه القوات، طبعًا إذا تم إنشاء هذه القوات في وقت ما مستقبلًا، آخذين بعين الاعتبار -بطبيعة الحال – سجل الجامعة العربية المجيد في طرح المبادرات النبيلة وعدم تنفيذها.
مرة أخرى، يوجد لمصر مصلحة داخلية هامة في مشروع القوات العسكرية العربية المشتركة، كون السيسي لطالما تحدث عن أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة القادرة على توحيد وحماية وتحديث مصر، وبطبيعة الحال انهار هذا السرد تمامًا أمام تدهور الأوضاع الأمنية في مصر، والآن يبحث السيسي عن فرص إضافية لإعادة إظهار قوة وهيبة وقدرة جيشه.
وصنع الأسطورة هي أحد الكفاءات الأساسية للجيش المصري، وبالطبع فإن اشتراك هذا الجيش في طليعة القوة العربية المشتركة لتحقيق الاستقرار في المنطقة، هو مجرد قسم آخر في صنع هذه الأسطورة؛ ففي كلمة شرح فيها الدافع خلف إنشاء القوة المشتركة، حث السيسي الجمهور العسكري للسؤال “كيف لبلادكم أن تأخذ موضعها الذي تستحقه بين الدول القومية”، ثم حدق للأعلى متأثرًا بشكل كبير، وأضاف السيسي العاطفي “هذا سيكون من خلال العمل، والصبر، والبناء، والتضحية، حتى ينظر الناس إلى دولتهم وهي في الصدارة”.
اللغز المصري
للأسف لا يوجد أمام المسؤولين الأمريكيين حلول سياسية بسيطة، وفي الواقع، أولئك الذين ينتقدون سياسة أمريكا تجاه مصر باعتبارها تتخلى عن مبادئها لصالح الرهانات الإستراتيجية الضيقة، يتجاهلون طبيعة الخيارات المطروحة أمام واشنطن والتي تتميز بأنها سيئة بجميع أحوالها؛ فعندما قامت إدارة أوباما – ولو متأخرة – بتعليق أجزاء من المساعدات المصرية في أعقاب الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، استقبل النظام في القاهرة هذا القرار بتحدٍ جديد، فلم يظهر أي تحسن ملحوظ في التزام السيسي بحقوق الإنسان أو بالممارسة الديمقراطية في تلك الفترة، ومن ناحية أخرى، فإن إعادة المساعدات لم ينجم عنها أيضًا ترتيبات مصرية إيجابية، وبطبيعة الحال فإن المسؤولين الأمريكيين يخدعون أنفسهم إذا كانوا يعتقدون أن التعديلات الطفيفة التي أُدخلت على حزمة المساعدات الأمريكية لمصر، مثل التخلص التدريجي من تمويل التدفقات النقدية أو تعديل المعدات العسكرية التي قد تحصل عليها مصر، قد تُغيّر من قواعد اللعبة.
ببساطة يمكننا القول إن أي تعديل قد يتم إجراؤه على حزمة المساعدات الأمريكية، لن يغير من واقع أن أمريكا منخرطة في مأزق رئيسي في علاقتها مع مصر، وأنها عالقة مع شريك متهور يختلق المشاكل داخليًا وخارجيًا، ومعالجة هذا المأزق يتطلب الاعتراف بأن الحفاظ على هذا التحالف ليس غاية بحد ذاته، كون مقياس الحكم على علاقة الولايات المتحدة مع مصر وغيرها من الشركاء العرب لا ينبغي أن يكون متعلقًا بسرعة رد الجنرالات على مكالمات أوباما، بل يجب أن ينبع من كون هذه العلاقة تحقق مكسبًا حقيقيًا لمصالح الولايات المتحدة، وبالطبع، هذا المنظور يعني الانفتاح على خيار قطع العلاقة كونها لا تحقق أي مكسب أمريكي حقيقي.
المصدر: فورين أفيرز