ترجمة وتحرير نون بوست
لماذا نقرأ الفلسفة في حين أنها لا تتعلق بمواضيع الحياة خارج الأمور الأكاديمية؟ لماذا نهتم بغرابتها، وحججها الميتافيزيقية غير المفهومة والتي تم وضعها منذ قرون؟
رغم كل ما تقدم، هناك أسباب وجيهة لقراءة الفلسفة الإسلامية التقليدية اليوم، فالإغريق عرّفوا الفلسفة بأنها “حب الحكمة”، والسبب بهذا التعريف الغريب والمميز، كما يقول فيثاغورس، هو أن الآلهة فقط تمتلك الحكمة الحقيقية ونحن البشر يمكننا أن نحبها لا أن نمتلكها، وادعاء امتلاك المعرفة الحقيقية هو غرور وغطرسة لا حدود لها، كون المرء يمكن أن يطمح إلى اكتساب معرفة الأشياء، ولكن ليس له القيام بذلك إلا من خلال الاعتراف بجذورها المتسامية.
الفلاسفة المسلمون خرجوا بتعريف أكثر دقة للفلسفة، فهي وفقًا لهم “القدرة على إدراك حقيقة الأشياء كما هي، إلى أقصى حد ممكن لبني البشر، والتصرف وفقًا لهذا الإدراك”، وإن تعريف الفلسفة على هذا النحو ينطوي على فرضية أساسية تريح الفكر البشري، وهذه الفرضية تتمثل بوجود “واقع” خارج التفكير، ويمكن إدراكه بالوسائل المناسبة، وعلى الرغم من اختلاف الأطر المفاهيمية والتقاليد اللغوية، بيد أن مفاهيم الفلسفية اليونانية والإسلامية تجمع ما بين العقلانية والأخلاقية، وكلتاهما تقدمان لنا “حكمة” أرسطو، أي إدارك العالم من خلال العقل والفضيلة والعمل وفقًا لهذا المفهوم.
“الحياة الفاضلة” وفقًا لأرسطو قائمة على أساس فرضية العقل والفضيلة، فنحن كبشر علينا أن نعظّم من استخدامنا للملكة الفريدة التي نمتلكها وتميزنا عن غيرنا: وهي العقل/ التفكير، واستخدام عقلنا/ تفكيرنا بكامل طاقته، هو شرط لا غنى عنه ليعيش الإنسان حياة حيوان عاقل، ولكن هذه النتيجة تكون صحيحة فقط في حال استخدمنا عقلنا بشكل صحيح وسليم، وهذا هو السبب في أننا كبشر نحتاج إلى العقل والأخلاق معًا، فنحن ندرب عقولنا ونضبطها لتمييز الفرق بين الصواب والخطأ، وبين الحق والباطل، فالعقل والفضيلة مجتمعان يمكن أن يصلا بنا إلى الحكمة ويضعا لنا الأساس الصحيح لانخراطنا في العالم من حولنا.
الفلاسفة المسلمون، الذين قرأوا أرسطو بالغالب من خلال فلسفة أفلاطون، كانوا على سبق دراية بمصطلح “الحكمة” من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فاصطلاحيًا الحكمة تعني العقل، المبدأ، الدعامة، المنطق، التفكير، والقدرة على معرفة الفرق بين الحق والباطل، والقدرة على الوصول إلى الحياة الفاضلة انطلاقًا من العقل والفضيلة، والقرآن يشيد بالحكمة ويصفها بالنعمة، والنبي محمد يصفها بأنها ضالة المسلم التي يجب أن يسعى إليها حيثما كان.
وبهدف رسم الفلسفة بمعنى الحكمة، عمد الفلاسفة المسلمون إلى استخدام كلمة “الحكمة” بشكل كبير في كتبهم، فمثلًا كتاب الحكمة المشرقية لابن سينا، وحكمة الإشراق للسهروردي، والحكمة المتعالية للملا صدرا، والسيرة الفلسفية لأبي بكر الرازي، جميع هذه العناوين والكتب ترسم الفلسفة باعتبارها وسيلة للحياة، وتهدف إلى التأكيد على الطابع الموحد للفلسفة والعلوم والأخلاق والفضيلة والحكمة، فهي تشير إلى أن الفلسفة ليست مجرد ممارسة العقلية، ولا يمكنها تحويل الواقع إلى ماهية داخلية محصورة بالعقل فقط؛ فالفلسفة أكبر من مجرد ممارسة الذكاء، كونها ينبغي أن تمكننا من التواصل مع الجوانب العميقة من الواقع التي تكون أكبر من العقل أو النفس.
بشكل عام اعتمد الفلاسفة المسلمون التقليديون على إطار مفاهيمي فلسفي نابع من العقل، في مقارباتهم لحل الإشكاليات الفلسفية الرئيسية، فمثلًا يستند الفارابي في المدينة الفاضلة على الفلسفة السياسية التي تتعامل مع الواقع والعقل والأخلاق والمجتمع البشري كهيكل كلي ومتكامل، وعلم الوجود لدى ابن سينا يقوم على أساس التمييز الشهير له بين الوجود الضروري والوجود الممكن، وهذه النظرة تعتبر متوافقة مع الفكرة الإبراهيمية التي تقوم على فكرة الخلق الواجب من العدم، وتتطابق مع حقيقة الواقع الفعلي للكون، كما أن جمع ابن رشد ما بين العقل والنقل، يؤكد على الطرق المتنوعة التي يُمكن من خلالها معرفة الحقيقة الفلسفية والدينية، والسهروردي في حكمة الإشراق، يشير إلى الطبيعة التكاملية لطرق المعرفة المنطقية والباطنية، والملا صدرا في الحكمة المتسامية، يُرجع كل شيء إلى الوجود الشامل وطرائقه، وما يوحد هذه الرؤى الفلسفية المتنوعة هو النهج المتكامل والشمولي الذي قاربت به الواقع وكيفية فهمنا له من خلال الفلسفة والحكمة.
الإشكاليات الرئيسية التي عالجتها الفلسفة الإسلامية التقليدية لاتزال مطروحة وسارية المفعول، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يحتم علينا دراسة هذه الفلسفة اليوم، فمنذ القرن الثامن عشر، فقدنا النظرة الكلية والشمولية للواقع، حيث أصبح كوننا مشتتًا، وعلى الرغم من محاولات العديد من علماء وفلاسفة العصر الحديث تناول وبحث الوجود الكلي للواقع، بيد أن هذه الجهود لم تتكلل بأي نجاح يُذكر، بينما يمكننا أن نستقي الكثير من التبصر والحكمة من أعمال الفلاسفة المسلمين التقليديين لتطوير نظرة شمولية للكون.
صحيح، أن علم الكونيات العلمية الذي اعتمد عليه الفلاسفة المسلمون التقليديون، يستند بمعظمه على العلوم المادية الأرسطية – البطليمية التي عفا عليها الزمان، ولكن هذه الحقيقة لا تسلب الحكمة من الرؤى الفلسفية لفلاسفة العصر الإسلامي الكلاسيكي، وأحد المهام الملقاة على الفلسفة الإسلامية المعاصرة هو جسر هذه الهوة، والخروج بنظرة جديدة حول علم الكونيات الفلسفي المستقى من الفلاسفة التقليديين.
والسبب الثاني الذي يجب أن يحفزنا على قراءة ودراسة الفكر الفلسفي الإسلامي التقليدي، يتمثل بوجوب الاستفادة من الكيفية التي شيد من خلالها هؤلاء الفلاسفة مدارسهم، من خلال الدمج ما بين فلسفة ما قبل الإسلام والمعتقدات الإسلامية الخاصة بهم، كون التحول النمطي من الأفكار اليونانية حول الكون الذي ليس له بداية أو نهاية إلى المفهوم الإيماني للخلق الإلهي، شكّل حدثًا فاصلًا في تاريخ الفكر الإنساني، حيث واجه الفلاسفة المسلمون الثقافة الوثنية اليونانية، وأنتجوا نظرتهم الفلسفية الجديدة، قبل عصور طويلة من قيام فلاسفة العصور الوسطى المسيحيين بكتابة فلسفتهم اللاهوتية الخاصة في القرنين الثاني والثالث عشر، وعن طريق دراسة هذا التاريخ الإسلامي بشكل جدي، يمكننا التغلب على النظرة الأوروبية للتاريخ التي صبغت الكثير مما نعرفه عن التاريخ الفكري.
أخيرًا، السبب الثالث الذي يدفعنا لقراءة الفلسفة الإسلامية التقليدية، متعلق بأجوبتها على الإشكاليات الفلسفية الأزلية، فالوجودية، طبيعة الواقع، وظيفة وحدود تفكير الإنسان، الحقيقة، الحرية، الأخلاق، وأساسًا كيف يجب أن نعيش، جميع هذه الأسئلة هي إشكاليات أساسية لم تتخل عنها الفلسفة، حيث بقيت هذه الأسئلة مستمرة وملحة ووثيقة الصلة بالحياة الإنسانية منذ وجود الإنسان، وفي الوقت الذي أصبحت فيه الفلسفة مؤسسة أكاديمية متطورة من جهة، وخادمة للعلوم المادية من جهة أخرى، قد تقدم لنا استعادة الرؤى الأساسية للفلسفة الإسلامية التقليدية نعمة وفوائد جمة في عالمنا الحالي الذي يتميز بخلط المفاهيم.
المصدر: ديلي صباح