يخشى الكثير من مؤيدي حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا من الأتراك والعرب سواء بسواء من المكائد التي تحاك ضد تركيا وحزبها الحاكم، هذه الخشية التي عبر عنها الكثيرون بعد أحداث عديدة مرت بها تركيا في السنوات الأخيرة ابتداءً من أحداث غزي بارك مرورًا بعملية 17 ديسمبر 2013، ثم حادث قطع الكهرباء وقتل المدعي العام، وليس انتهاءً بالضغط الغربي المتواصل ضد تركيا في مسألة مجازرالأرمن.
يعتبر كثيرون من ذوي الاتجاه الإسلامي بأن النموذج التركي أعاد إحياء فكرة الحكم الإسلامي وجعله هدفًا ممكنًا وسبيلاً متاحًا، وتعتبر التجربة التركية ركيزة أساسية لتجربة الإسلام السياسي و نقطة تحول مهمة في تفكير الحركات الإسلامية ومصدر إلهام للجماهير الإسلامية وخاصة في العالم العربي بعد الإنجازات والنجاحات المهمة التي حققها حزب العدالة والتنمية في تركيا على المستوى الداخلي والخارجي.
والسؤال الذي ما فتيء يذكر قديمًا وحديثًا والذي يشغل بال الكثيرين خصوصًا بعد اقتراب الاستحقاق البرلماني في يونيو القادم: هل هناك إمكانية لوأد التجربة التركية أو حدوث انقلاب أو أحداث تفضي إلى تقويض حكم العدالة والتنمية؟!
لا يمكن إعطاء جواب واضح ومحدد، إلا أنه بالإمكان تسليط الضوء على بعض المتغيرات والمفاهيم التي من شأنها أن تعطي صورة أوضح و تعمق الإدراك بالحالة الراهنة.
إدراك شروط اللعبة السياسية والدولية
أزعم أن ما يبهر الكثيرين بنموذج حكم العدالة والتنمية هو القدرة على البقاء في الحكم أكثر من أي شيء آخر، وأنا هنا لا أريد التقليل من الإنجازات التي حققها الحزب أو حتى الاعتبارات الأخرى المثيرة للإعجاب والتي تعتبر مصدر تأييد الكثيرين لحكومة حزب العدالة والتنمية.
إن قدرة الحزب الحاكم على البقاء في السلطة يأتي من إدراكهم الجيد لشروط العملية السياسية داخليًا وخارجيًا، فداخليًا أدرك الحزب الحاكم أسباب قوته ونقاط ضعف خصومه، وأتقن في ذات الوقت طريقة السيطرة على مفاصل مهمة في الدولة وأحسن مخاطبة الجموع وتحقيق التنمية والاستقرار الأمني، أما خارجيًا فقد استطاع إنتاج خطاب ليبرالي إلى حد كبير وعزز اقتصاد السوق الحر بالإضافة إلى إدراكه موازيين القوة الخارجية و أهم اللاعبين على الساحة الدولية.
كل هذه الشروط وغيرها هي التي مكّنت حزب العدالة والتنمية من البقاء في الحكم، إذ أعطته مرونة عالية على المناورة داخليًا وخارجيًا، وهذا يقودونا إلى نقطة غاية في الأهمية وهي الآلية التي تغير بها الصراع ضد تركيا الجديدة بقيادة العدالة والتنمية من قِبل القوى العالمية.
مفهوم الصراع مع الدولة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية
انطلق في بلورتي لمفهوم الصراع مع الدولة التركية من قِبل القوى المختلفة من نظريتين اثنتين هما النظرية الواقعية الجديدة neo realism ونظرية التداخل المعقد complex interdependence.
أولا: النظرية الواقعية الجديدة والتي وضعها والتز Waltz بعد فشل النظرية الواقعية الكلاسيكية والتي يشرح فيها تغير الصراع بين الدول مما كان عليه الحال قبل تأسيس الأمم المتحدة أي قبل وجود مظلة دولية وما بعد تأسيس الأمم المتحدة وما نتج عنه من وجود مظلة دولية تجمع المعظم الأغلب من دول العالم.
يصور والتز الصراع ما بين الدول ما بعد تأسيس الأمم المتحدة إلى صراع داخل النظام الذي يحدد خيوط وتشابكات الملعب السياسي الدولي وتقوم الدول في هذه الحالة بالسعي الدؤوب والمستمر للحصول على مصادر القوة وفق محددات النظام الدولي في صراعها المستمر مع الدول الأخرى.
ثانيًا: نظرية التداخل المعقد وهي نظريها اجتماعية وضعها كللي Kelly في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، إلا أنها لم تصبح نظرية سياسية إلا في سبعينيات القرن الماضي على يد كل من جوزيف ني Joseph Nye وكوهانا Keohana، وتوضح النظرية حالة التداخل والتشابك المعقد في علاقات الدول بعضها مع بعض في ظل النظام العالمي الذي بدأ مع تأسيس الأمم المتحدة.
علينا هنا أن نوضح نقطة في غاية الأهمية وهي الفرق بين عصبة الأمم والأمم المتحدة من حيث علاقة الدول ببعضها البعض؛ علاقة الدول في عصبة الأمم كان سياسيًا بالدرجة الأولى تاركًا جسد الدول بقطاعاته المختلفة حرًا طليقًا وذا سيادة في سلوكياته، مما أسفر عن تفتت العصبة بعد انسحاب إيطاليا وألمانيا، فكانت الفكرة الأولى التي سعى الحلفاء إلى تجسيدها هي عدم تكرار تجربة عصبة الأمم من خلال ربط الأذرع المختلفة للدول اقتصاديًا وصحيًا وثقافيًا .. إلخ بعضها ببعض وإعطاء هامش أكبر للحركة السياسية والذي قاد إلى تداخل معقد ومتشابك إلى أقصى درجة جعلت حركة الدولة وقدرتها على المناورة مقلصة في كثير من جوانبها لغياب السيادة الناتج عن التخلي عن أجزاء منها لصالح المجتمع الدولي والمنظمات العالمية.
هذا التداخل المتشابك والمعقد قاد إلى تغيير خارطة العلاقات الدولية ونقض مذهب الواقعية الكلاسيكية وأضاف مستويات أخرى وتشعبات مختلفة للنظرية الواقعية الجديدة وإن كانت نظرية التداخل المعقد تعتبرأيضًا نقدًا للنظرية الواقعية الجديدة من خلال تأكيدها على أن العلاقات داخل المنظومة العالمية لا تشكل حالة صراع دائمًا إنما تسلك سلوكًا أكثر تعقيدًا يشمل الصراع أحيانًا والتوافق والتعاون في أحيان أخرى.
كيف نطبق هذه النظريات على الشأن التركي؟!
كنت قد تحدثت عن إدراك حزب العدالة والتنمية لشروط اللعبة الدولية ولكن حزب العدالة لم يكتف بإدراك هذه الشروط ولكن انخرط فيها ووافق عليها وعمل على أساسها، حيث قبل الحزب المظلة الدولية ابتداءً وأقر بأن سياساته متناسقة ومتماشية مع شروط المظلة الدولية وقوانينها، وهذا أعطاه بلا شك بداية صحيحة ونقطة انطلاقة كافية وضمانة جيدة للعمل، وفي نفس الوقت قام الحزب من خلال سياساته المختلفة بتشكيل شبكة علاقات موسعة ومعقدة مع كثير من دول العالم في السياقات الاقتصادية والسياسية والثقافية والمعلوماتية وهذا أعطى الدولة التركية مساحة كبيرة للمناورة وأسس لقواعد جديدة للتعامل؛ فقد أقامت الدولة التركية علاقات مع الدول العظمى وكثير من الدول الأوروبية والأفريقية والأسيوية بالإضافة إلى إيران والعالم العربي.
العلاقات التركية المتعددة مع دول العالم بأشكالها المختلفة أسست قواعد جديدة للعمل وأتاحت للدولة التركية خيارات متعددة ومتشعبة بحيث إذا فقدت تركيا خيارًا كان الخيار الآخر موجودًا؛ فمثلاً إذا خسرت تركيا علاقاتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة كان الخيار الروسي أو الصيني متاحًا، وإن كانت العلاقات معقدة بشكل يمنع حالة القطيعة مع أي أحد ولكن تجعل العلاقة على مستويات متعددة، فعلى سبيل المثال إذا اضطربت العلاقة في المستوى السياسي مع إحدى الدول مثلاً، ظلت المستويات الأخرى للعلاقة موجودة بحيث تمنع التدهور المطلق وتنجح في منع حالة الصدام الحاد.
فتختلف مثلاً تركيا مع إيران وروسيا في ملفات عديدة أهمها الملف السوري ولكن هذا لا يمنع من بقاء بل تفعيل العلاقات في جوانب أخرى مثل الجانب الاقتصادي الذي يعقد العلاقة بحيث تؤدي إلى زياة التداخل مع هذه الدول بحيث تصبح معتمدة على بعضها البعض مما يقرب وجهات النظر في المسائل المختلف عليها في لحظة زمنية معينة.
وعليه فإن المصالح العالمية مع الدولة التركية اليوم متشعبة معقدة والساحة التركية أصبحت جزءًا مهمًا من الساحة الدولية المتداخلة والمتعولمة؛ ولذلك فإن أيًا من الأطراف لن يسعى بأي حال من الأحوال لتغيير قواعد اللعب داخل تركيا أو زعزعة استقرارها، وإن كانت الكثير من الدول تسعى إلى زيادة تداخلاتها لزيادة قدراتها وقوتها داخل الدولة التركية بهدف التأثير على صنع القرار فيها.