يُحكَى أن لقاءً جمع سياسيًا ألمانيًا وآخر بريطانيًا، تبادلا فيه النقاش حول كيفية عمل حكومتيهما، فبدأ الألماني يشرح خطة حكومته خلال سنواتها المقبلة وكيف تنوي تطبيقها، وبعد أن انهمك لساعات في شرحها بعناية، انتقل المستمعون إلى السياسي البريطاني متوقعين منه أن ينهمك هو الآخر لساعات في شرح خطته، ليلخص في دقائق قائلًا: “لا خطة لدينا! نحن ببساطة نعمل كل يوم بيومه حسب الظروف المتغيّرة.”
بالطبع كانت الإجابة صادمة للسياسي الألماني، حيث تعمل المنظومة السياسية والاقتصادية في بلاده بطريقة أشبه بعقارب الساعة ذات الحركة الميكانيكية الدقيقة، في حين كانت إجابة البريطاني كاشفة، لا عن طبيعة الحكم في بريطانيا فقط، ولكن عن فلسفتها السياسية والقانونية، وتاريخها السياسي كله تقريبًا، والذي يشبه أكثر طبيعة المناخ الذي لا يمكن لأحد توقعه، ولا يمكن سوى التعامل معه بشكل يومي.
هي مشكلة كبيرة في الثقافة البريطانية كما يعتقد الألمان، والذين يفضلون الخطط الميكانيكية طويلة المدى، في حين يعدها البريطانيون ميزة أساسية في الحضارة الأنغلوساكسونية بشكل عام، فالمناخ في نهاية الأمر أشبه بحياة البشر المركبة والمعقدة والمتغيرة باستمرار من عقارب الساعة الألمانية الرتيبة، وتلك السمة الرئيسية في حضارة البريطانيين هي التي دفعت فلسفة التنوير البريطاني أكثر نحو البراجماتية والرؤى التجريبية Empiricism، أكثر منها نحو العقلانية Rationalism، والتي وسمت التنوير الفرنسي، وهي أيضًا التي أتاحت للدين لعب دور اجتماعي واسع على عكس فرنسا، التي أقصت فيها العلمانية المتشددة الدين من المجال الاجتماعي، كما أنها جعلت المسيحية البريطانية الأنغليكانية مزيجًا براجماتيًا أيضًا بين الكاثوليكية والبروتستانتية عقائديًا، وإن كانت ستظل بنت البروتستانتية بشكل أكبر.
فوق كل ذلك، كان التعامل البراجماتي واليومي والمرن من قبل الإنجليز مع مستعمراتهم، عوضًا عن التمسّك الصلب بثقافتهم ولغتهم على غرار الفرنسيين، هو ما أتاح لهم الانتشار بسرعة في مرحلة الاستعمار، والتعامل بشكل أكفأ مع الشعوب التي استعمروها، والتي استوعبوا ثقافاتها أكثر من الفرنسيين، وهي ربما واحدة من الأسباب التي جعلت من اللغة الإنجليزية اليوم اللغة الأوسع انتشارًا، إذ أنها اكتسبت، على عكس الفرنسية، وجودًا منفصلًا عن أي قومية بعينها، تمامًا كما فعلت العربية في العصور السالفة، وهو ما عززته حقيقة أساسية لا تزال تَسِم بريطانيا إلى اليوم؛ أنها ليست دولة قومية بالمعنى الحديث رُغم كل ما يربطها بالحداثة والتصنيع والاستعمار، ولكن كيان ربما يحمل أكثر من غيره تراكمات طويلة من النُظُم المختلفة التي تأسست على شبه جزيرة بريطانيا في العصور الوسطي.
ما هي بريطانيا بالضبط؟
بريطانيا هو الاسم المُشار به إلى شبه الجزيرة التي تضم أربعة بلدان منفصلة، هي إنجلترا واسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية، وإنجلترا لأسباب تاريخية وجغرافية متعددة هيمنت بشكل كبير على مقدرات بريطانيا لقرون ولا تزال، وعاصمتها هي قلب بريطانيا ككيان سياسي، كما أن الحكومة البريطانية الكائنة في لندن هي المتحكم الرئيسي في الشؤون العسكرية والدبلوماسية لهذا الكيان، بيد أن هذا لم يمنع من نقل السلطات بشكل موسّع من الإنجليز إلى نظرائهم في هذا الاتحاد، حيث يمتلك سكان اسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية حكوماتهم التي تدير التعليم والصحة والشؤون الداخلية والنقل والميزانية، بالإضافة إلى القضاء، وهي حكومة يرأسها الوزير الأول المسؤول عن اسكتلندا ويُعَد وزيرًا بالحكومة البريطانية، وهو عادة ما يكون زعيم الحزب الأكثر حصولًا على الأصوات في ذلك البلد، حيث يقوم البرلمان الاسكتلندي بترشيحه للملكة لتوافق عليه.
على المستوى القانوني، لا تملك بريطانيا دستورًا واضحًا يشرح ماهية نظامها، بل مجموعة من الوثائق التي تراكمت على مدى القرون الماضية، بدءًا من وثيقة الماجنا كارتا الشهيرة التي وُقعَت عام 1215 (منذ 800 عامًا) وحتى اليوم، وهو تجلٍ آخر لنفس الثقافة البريطانية التي طالما نأت بنفسها عن وضع الأُطُر والنظريات العامة، وسارت مع الواقع مدوّنة إياه فقط ليس إلا، فالقانون البريطاني، على عكس الفرنسي، هو قانون عمومي Common Law، أي أنه يعتمد بالأساس على الأراء والأحكام السابقة في قضية معيّنة للحُكم على القضايا المشابهة في المستقبل (وهو هنا أشبه بطريقة عمل المذاهب الفقهية نوعًا ما)، في حين يُعَد القانون الفرنسي مبنيًا على القانون المدني Civil Law، الذي يحتوي على قواعد عامة ونظرية تسري لكل زمان ومكان.
بطبيعتهم البراجماتية، وعلى عكس الفرنسيين، لم يثُر الإنجليز على ملوكهم في ثورة دموية، بل نجحوا على مدار قرون في سحب السلطات رويدًا رويدًا من الملك (أو الملكة) حتى أصبح مجلس عموم بريطانيا House of Commons، هو معقل السلطة التنفيذية، في حين ظل مجلس اللوردات House of Lords يمثل النخب التقليدية، الضاربة بجذورها في القرون السالفة، (قارن ذلك بفرنسا حيث لاقت تلك النخب حتفها بالطبع بعد الثورة)، في حين تمثل الملكة منصبًا رمزيًا الآن، وتظل هي كشخص، يُشرِف على القوميات المتعددة في بريطانيا، أساس التاج البريطاني، على عكس فرنسا حيث أصبحت القومية الفرنسية أساس الدولة، وهو ما ينعكس بالطبع كما هو واضح في الاتجاهات المختلفة تجاه الأقليات والمهاجرين هنا وهناك، فالمجتمع البريطاني أكثر انفتاحًا تجاه المهاجرين، مثله مثل المجتمعات الأنغلوساكسونية بشكل عام، على العكس من دول أوروبية أخرى، وجدير بالذكر هنا أن إليزابيث هي أيضًا رأس الدولة الرمزي لكندا وأستراليا ومجموعة من الدول الصغيرة التي ورثها البريطانيون عن استعمارهم، رُغم امتلاك كل من تلك البلدان لرئيس وزرائها ونظامها السياسي والعسكري الخاص.
لماذا يُهِمنا ما يحدث في بريطانيا الآن؟
من اليمين لليسار: نيكولا سترجون (حزب اسكتلندا الوطني)، إد ميليباند (العمال)، ديفيد كاميرون (المحافظون)، نايجل فاراج (استقلال بريطانيا)
تمر بريطانيا، مثل بقية بلدان أوروبا، بتحولات ثقافية وسياسية كبيرة منذ سنوات، وبإمكانك أن تعرف ذلك فقط بقراءة أي كتاب في السياسة البريطانية يعود لعام 2007 مثلًا لترى أنه لا يمت للواقع بصلة، إذ تبدلت الأحوال بشدة في الفترة الأخيرة، فقد ظهر حزب استقلال بريطانيا المعادي للاتحاد الأوروبي بشكل رئيسي، نتيجة الهجرات الضخمة التي تجلبها سياسات الاتحاد من بلدان شرق أوروبا، والتي لا تستطيع لندن التحكّم فيها مثل الهجرات القادمة من بلدان العالم الأخرى، أضف لذلك أن البولنديين والرومانيين ينتمون لثقافة لم تتعامل مع المنظومة الإنجليزية من قبل، على العكس من الهنود مثلًا، ولا تتقاطع فلسفاتهم الخارجة من عباءة الحكم الروسي المركزي مع الثقافة البريطانية، على العكس من المسلمين مثلًا الذين تتقاطع رؤاهم مع المجتمعات الأنغلوساكسونية أكثر من أوروبا بشكل عام، وقد حقق الحزب بقيادة زعيمه ناجيل فاراج المفاجأة في انتخابات البرلمان الأوروبي ووصل للمركز الأول، ومن المتوقع أن يحقق نتائج لا بأس بها في الانتخابات التي ستجري بعد أيام.
على الناحية الأخرى، وبعد أن فشل في تحقيق الانتصار في الاستفتاء على استقلال اسكتلندا، يُعَد حزب اسكتلندا الوطني واحدًا من أبرز الأحزاب الصاعدة، بل إنه يتمتع بشعبية كبيرة في شمال إنجلترا نظرًا للإهمال الذي يعانيه الشمال البعيد عن لندن، وإن كان لا يحق للإنجليز بالطبع هناك التصويت لصالحه لأنه حزب اسكتلندي وليس حزبًا منافسًا على مستوى بريطانيا، وهو ما يمكن أن يتغيّر إذا ما اكتسح الحزب بقيادة السياسية الاسكتلندية نيكولا سترجون، التي تتمتع بشعبية واسعة بين الإنجليز، وفاز بأغلب مقاعد اسكتلندا في البرلمان البريطاني، إذ سيكون له حينئذ تأثير كبير وغير مسبوق على السياسة البريطانية، وهو الذي نجح في الهيمنة على منصب الوزير الأول لاسكتلندا منذ أواخر العقد الماضي بعد تصاعد شعبيته في اسكتلندا، حيث كان حزب العمال البريطاني هو المهيمن هناك قبل ذلك.
بهذه التحولات، تصبح الساحة البريطانية مفتوحة وليست حكرًا فقط على الحزب المحافظ الحاكم حاليًا وحزب العمال المعارض، وهو ليس تحولًا سياسيًا فقط بل تحول سيؤثر على مستقبل بريطانيا الثقافي ودورها في العالم، بين دعاوى للانسحاب من الاتحاد الأوروبي والاكتفاء بدور لندن في الكومنوولث وعلاقتها الوطيدة بواشنطن، وبين دعاوى إنجليزية ثقافية للتخلي عن فكرة بريطانيا أصلًا، والتي يعتبرها كثيرون مجرد إرث استعماري، في مقابل صيغة جديدة للاتحاد المكوّن من أربعة بلدان رفضت إحداها العام الماضي الاستقلال على نمط القومية الكلاسيكية، لتزيد الأمور تعقيدًا، وتطرح الكثير من الأسئلة حيال مستقبل القومية نفسها في أوروبا، والتي تتعرض للكثير من التحولات نتيجة حركة المهاجرين بشكل عام.
لندن، قلب التاج البريطاني الذي لم تغب عنه الشمس في الماضي، ويظل تأثير استعماره محسوسًا في مختلف أركان الأرض، لا تزال مهمة على ما يبدو فيما يخص مستقبل أوروبا والأنظمة الأنغلوساكسونية، وما ستؤول إليه بالطبع ستكشف عنه السنوات المقبلة وما يجري فيها، خاصة في شمال إنجلترا واسكتلندا، والحدث الأبزر في المرحلة المقبلة بالطبع سيكون الانتخابات العامة والخارطة السياسية الجديدة التي سترسمها، وهي الانتخابات المتوقع عقدها في السابع من مايو الجاري.
هذا المقال هو الأول ضمن ملف الانتخابات البريطانية “10 داوننغ ستريت” على نون بوست