بدأ رجال الأعمال والمستثمرون الدوليون ببناء التكهنات والحسابات مع اقتراب إيران ودول الخمسة زائد واحد، من الوصول إلى الاتفاق النووي، ففي كل أسبوع تشق الوفود التجارية – الأمريكية أو السويسرية أو الألمانية – طريقها إلى طهران للبحث في فرص الاستثمار التجاري المقبلة.
سبق لي وأن ذكرت في أحد مقالاتي أن رواد الأعمال ضمن القطاع الخاص الإيراني، يجب عليهم لعب الدور الأكبر في ظل إعادة انخراط البلاد ضمن المجتمع الدولي، وفي الواقع، الانفراج والانفتاح الإيراني المرتقب لا يعتمد فقط على تطبيع العلاقات السياسية بين إيران والغرب، بل يعتمد أيضًا على إعادة تنظيم العلاقات الاقتصادية، وبهذا المنظور، يصبح الانفتاح الإيراني مسألة تناقش السياسة والاقتصاد معًا، وبالمختصر مسألة اقتصاد سياسي.
بغية تصور الدور المستقبلي للقطاع الخاص الإيراني، ينبغي علينا أن نتطلع إلى الدور التاريخي لاقتصاد البازار “السوق”، الذي كان في يوم من الأيام مركز الاقتصاد السياسي الإيراني.
مركزية اقتصاد البازار
عندما نتذكر كلمة البازار عادة ما تقفز إلى أذهاننا صورة أسواق العصور الوسطى وعصور ما قبل الحداثة، التي تحتوي على ممرات مظلمة ومتعرجة ومليئة بالسجاد أو بالبضائع الغريبة الأخرى، لكن البازار كان في الحقيقة قلب وجوهر الاقتصاد الإيراني حتى نهاية القرن الـ20، وهذا السوق كان ربما أكثر أهمية من مصافي النفط في البلاد؛ ففي السبعينات كانت القوة الاقتصادية للبازار ضخمة لدرجة سيطر معها هذا السوق على نصف إنتاج الحرف اليدوية في البلاد، وثلثي تجارة التجزئة، وثلاثة أرباع تجارة الجملة، وبعيدًا عن الشأن التجاري، كان البازار أيضًا يضطلع بدور تمويلي في غاية الأهمية؛ ففي أواخر الستينات كانت البازارات في إيران تُقرض السوق الإيرانية ذات مقدار الأموال التي أقرضتها جميع البنوك التجارية مجتمعة، وحتى بعد عقد من الزمن، وإثر توسع البنوك الحديثة، ظل البازار في منتصف السبيعينات يسيطر على 20% من حجم التعامل بالسوق الرسمي، حيث كانت تجري فيه معاملات تُقدر بمبلغ 3 مليار بعملات النقد الأجنبي، وكان دائنًا بمبلغ 2.1 مليار على شكل قروض غير مسددة.
من خلال سيطرة البازار على التجارة في إيران استطاع تجار البازار – المعروفين باسم “البازاريين” -، التأسيس لشبكة قوية من الفعاليات الاقتصادية، حيث يعمل هؤلاء التجار بوصفهم طبقة اجتماعية مستقلة بحد ذاتها، ويسعون لترسيخ وجودهم في المجتمع المدني الإيراني، عن طريق الدعم الهائل للسلطة السياسية للشعب الإيراني، ومن خلال تمويلهم للتحركات الجماهيرية مثل الثورة الدستورية في عام 1905، وحركة عام 1953 لتأميم صناعة النفط الإيرانية.
في عام 1979، وإثر عقود من الاضطراب السياسي التي تُوّجت بالثورة الإسلامية الإيرانية، لعب البازاريون في السنوات التي سبقت الثورة، دورًا مهمًا وحاسمًا.
الشاه وفي خضم سعيه للحداثة، احتقر البازار وتجّاره، وكان يعتبرهم بقايا من العهد السحيق الإيراني، وسخر منهم ومن “محلاتهم التي تعيث فيها الديدان”، كما ساءه هيمنة البازار على قطاع تجارة التجزئة وقطاع الخدمات المصرفية والتمويلية، لذا سعى الشاه لطي صفحة البازار، وقتله عن طريق فرض الحداثة، حيث كتب في مذكراته “لم أستطع التوقف عن بناء مراكز التسوق الحديثة “السوبر ماركت”، كنت أرغب في تحديث البلاد”.
شعر البازاريون بالتهديد الذي يحيق بهم جرّاء مسار التخطيط الاقتصادي الذي ينفذه الشاه، ومن خلال تعاملهم داخل مؤسستهم الاقتصادية “البازار” مع الطبقات الدنيا والعليا في المجتمع الإيراني، استطاع البازاريون استيعاب وفهم عواقب إطراد التفاوت الطبقي والاجتماعي بشكل جيد.
قدم البازاريون دعمًا واسعًا للثورة الإسلامية، وعلى وجه الخصوص لقائد الثورة آية الله روح الله الخميني، وكانت مساعداتهم تهدف إلى تمويل الفرقاء بغية ثباتهم في حركتهم الثورية، وفي العديد من الحالات، حشد البازاريون في جميع أنحاء البلاد الأموال والرجال، ومولوهم ليثبتوا في احتجاجاتهم، وفي عام 1977، على سبيل المثال، تكفل البازاريون بتغطية رواتب أستاذة جامعة أريامهر بحيث يستطيع المتظاهرون تحمل استمرارية عقوبة توقف دفع الرواتب.
في نهاية المطاف، نجحت الثورة في تأسيس الجمهورية الإسلامية، وعلى رأسها المرشد الأعلى الخميني، وعندما بدأ الأخير بتوطيد سلطته، سعى على عجل لتحييد البازار، كونه كان يرى أن تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد سيضع البازار وتجاره بمواجهة الحكم الجديد، وبذات الوقت قام بمكافأة أعضاء تحالف الجمعية الإسلامية، وهم شريحة صغيرة من البازاريين، الذين مولوا ونظموا العديد من المسيرات والأحداث السياسية، عن طريق دمجهم بالنخبة الحاكمة الجديدة.
وهكذا، ومن خلال خلق علاقات الولاء بين البازار والحكومة الجديدة، سعى الخميني بدهاء للقضاء على البازار باعتباره منبر مستقل للمعارضة السياسية، وبذلك لم يعد البازار مؤسسة من مؤسسات القطاع الخاص، وفي الواقع وحتى اليوم، يُنعت البازاريون الذين يتمتعون بعلاقات مع المؤسسة السياسية باسم “دولتي” أي الذين لهم علاقة بالدولة.
انحسار البازار
منذ عام 1979، انتهجت الجمهورية الإسلامية سياسة الإضعاف، مما أدى إلى توقف البازار عن كونه مركزًا للسلطة في الاقتصاد السياسي الإيراني، وتبدى هذه الضعف من خلال الحركة الخضراء عام 2009، حيث لم يلعب البازار فيها سوى دور ضئيل لا يكاد يذكر، وذلك على الرغم من عدم الرضا الحكومي المنتشر بين العديد من التجار، وتعتبر هذه المرة الأولى، منذ أكثر من قرن، التي لا يلعب بها البازار دورًا نشطًا وفعالًا في التعبئة الجماهيرية.
تراجع البازار في السنوات التي أعقبت الثورة، والصورة المبسطة للاقتصاد السياسي الإيراني الذي اعتمد على أسلوب الدولة الريعية التي يحكمها النفط والعلماء والمحللون، أدى إلى تجاهل الدور الحاسم للبازار ضمن الاقتصاد السياسي الإيراني إلى حد كبير، وعدد قليل من الأعمال، مثل بازار أرانج كيشافارز، والمنحة الدراسية الأخيرة التي قام بها كيفان هاريس، هي التي أعطت هذه المؤسسة بعضًا من الاهتمام الذي تستحقه في الأيام الأخيرة.
بمساعدة هذه المنحة الأخيرة، من الممكن تحديد عدد من الصفات الرئيسية للبازار وتجاره، فأولًا وقبل كل شيء، البازاريون كانوا مجتمعًا خاصًا، ولكن هذا المجتمع كان يحمل علاقات مجتمعية قوية، وشعور عال بالمسؤولية المدنية، وثانيًا، كانت ميولهم السياسية وسطية لأن ثرواتهم مرتبطة بالرفاهية الاقتصادية لعموم الجمهور الإيراني، وثالثًا، كانوا على استعداد لحشد الموارد اللازمة لدعم الفاعلين السياسيين، الذين يشعرون أنهم يمثلون المصالح المشتركة للشعب الإيراني.
إن ظهور جهات فاعلة مؤسساتيًا بهذه الصفات الثلاث، يمكن أن يكون له تأثير عميق على إيران في حقبة ما بعد رفع العقوبات، وعلى طريق الإصلاح السياسي، ولكن للأسف، ومنذ إضعاف البازار، هذه الصفات أصبحت غائبة إلى حد كبير من أي مؤسسة مدنية أو تجارية إيرانية، وفي المجتمع الحالي، الكيانات التجارية التي تمتلك وسائل ناجحة لتعبئة الجماهير سياسيًا لم تعد سرية، ولا ذات اتجاهات سياسية معتدلة، والأهم أنها لم تعد تحمل إحساسًا عاليًا بالمسؤولية المدنية، كون هذه الكيانات في مجتمع اليوم غالبًا ما تكون جزءًا من المجتمع الصناعي – العسكري في البلاد، والتي تخدم بادئ ذي بدء – إن لم يكن حصريًا – أعضائها من جماعة “دولتي”.
لذلك، في حال قُدِّر للاقتصاد السياسي الإيراني أن يعثر مرة أخرى على الركيزة المؤسساتية الأساسية له، والقادرة على تمكين المجتمع المدني وتعزيز الطبقة الوسطى، يجب على أصحاب الشأن الجدد أن يأخذوا على عاتقهم الخوض في غمار إعادة بناء دور البازار من جديد.
مستقبل الاقتصاد السياسي الإيراني
أقوى المرشحين للعب دور إعادة البناء هم الشركات الخاصة الإيرانية، وخصوصًا تلك التي تمارس تجارتها علنًا، وهذه الشركات تسيطر على مجموعة واسعة من المساهمين والموظفين والعملاء، بحيث إن كل فرد من أفراد المجتمع المدني يلعب دورًا اقتصاديًا ضمن هذه المؤسسات، سواء كعميل أو كموظف أو كمساهم، وإذا استطاع أصحاب المصلحة هؤلاء أن ينخرطوا في اللعبة الاقتصادية بشكل أعمق، حينئذ يمكن للمجتمع المدني الإيراني أن يبني مرة أخرى قدرته على تعبئة الجماهير وتقديم المطالب السياسية المدعومة بالنفوذ الاقتصادي.
هذه النظرة تفترض أن مستقبل الاقتصاد السياسي الإيراني يتطلب من الشركات المدرجة في البورصة الإيرانية “سوق الأسهم الإيراني”، أن يلعبوا ذات الدور الذي لعبه سابقًا تجار البازار، ويمكن أن نسمي هذه النظرية “التحول من البازار إلى البورصة”.
النظرة السابقة لا تعني أن على رجال الأعمال الانخراط في السياسة بشكل مباشر، ولكن في خضم سعي الشركات لتوفير السلع والخدمات وفرص العمل ضمن الاقتصاد، فإنها تؤسس لما يسميه كيشافارز “الشبكات الاجتماعية المدمجة”، وهذه الشبكات تؤمن للنظم الاقتصادية معناها السياسي، من خلال المعاملات اليومية للأشخاص ضمن هذه الشبكات، وفي حال تمت هذه المعاملات خارج القنوات التي تسيطر عليها الدولة، فإن الشعب الإيراني سيصبح أكثر قدرة عندئذ على محاسبة حكومته ومساءلتها عن وعودها بالإصلاح، والجدير بالذكر أن ما يشجع هذه النظرة هو دعم الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني لمثل هذه المبادرات لإعادة التوازن للاقتصاد السياسي الإيراني.
لكن الشركات الخاصة مازال أمامها طريق طويل لتقطعه حتى تصل إلى مرحلة السيطرة الاقتصادية السياسية، كون العقوبات العشوائية التي فُرضت على إيران أضعفت إلى حد كبير موقف هذه الشركات في الاقتصاد الإيراني، حيث ساهمت العقوبات في تهميش المؤسسات الخاصة التي بدأت في عهد الخميني، وعملت على منح المزيد من السيطرة الاقتصادية للشركات المملوكة للدولة والشركات التابعة لها، وفي ظل الانكماش الاقتصادي، التضخم، البطالة، وبدون مركز اقتصادي تابع للقطاع الخاص، يمكن القول إن الشعب الإيراني هو الأكثر معاناة في ظل العقوبات التي تم فرضها على الدولة الإيرانية.
إذن، إذا كانت الولايات المتحدة وبقية دول الخمسة زائد واحد ملتزمين حقًا بتحقيق اتفاقًا سياسيًا دائمًا، يجب عليهم أن يخططوا بشكل سليم لإعادة تنظيم الاقتصاد السياسي الإيراني في حقبة ما بعد رفع العقوبات، وبطريقة أكثر عملية، لا يمكن للاستثمار الأجنبي أن يكون مجرد فكرة ثانوية ضمن الصفقة النووية؛ فرفع العقوبات الواضح والمستمر يجب أن يتم في وقت مبكر، بحيث يستطيع القطاع الخاص الإيراني أن يعمل بسرعة على إعادة ترميم نفسه، وتأمين الاستثمار وتعزيز التجارة سيساعدان على تعزيز الشركات لعملائها وموظفيها ومساهميها، وحينها يمكننا توقع حدوث انخفاض في معدلات البطالة، انخفاض بالتضخم، ازداياد القوة الشرائية للعملة الإيرانية، وبالإجمال المزيد من النفوذ للطبقة المتوسطة الإيرانية في تشكيل الاقتصاد السياسي ضمن البلاد، وهذا النفوذ من شأنه أن يساعد على تأمين الصفقة النووية بمواجهة معارضي الاتفاق العنيدين.
من هذا المنطلق، يجب على كبار رجال الأعمال في القطاع الخاص الإيراني أن يطمحوا ليس فقط لإعادة بناء قوة ونفوذ البازار التاريخي، ولكن أيضًا لبناء شعوره المجتمعي وهدفه المشترك، ففي البازار استطاع التزايد المطرد للمعاملات أن يجسر الهوة بين المجموعات المتمايزة التي تجتمع على أساس القرابة، الحياة، الصداقة، الشراكة، والتجارة.
البعض يتوقع القليل من مؤسسة رأسمالية كبرى مثل البورصة، ولكن رواد الأعمال في إيران، هم أحفاد تجار البازار، وبذلك هم يتمتعون بقدرة متوارثة على تسهيل بناء التغيير الاجتماعي، وإيران هي إحدى البلدان النادرة التي تتشكل فيها الأيديولوجيات السياسة والاقتصادية بأشكال توفيقية.
حتى الآن، توجد علامات مشجعة على أن الرجال والنساء في القطاع الخاص الإيراني، هم من نوع القادة العالميين الذين نسعى لرؤيتهم يتسلمون زمام الأمور، وإن تركهم خارج إطار الانفراج القادم سيكون فعلًا خاطئًا، وسيكون تعبيرًا شنيعًا عن الانخفاض الكبير في الوعي التاريخي من جانب صانعي القرار الغربيين.
مفهوم “مواطنة الشركات” قد يعمل أكثر من مجرد كونه مفهومًا صعبًا ورنانًا، في حال تم نسجه ضمن نسيج الثقافة التجارية الإيرانية، وإن اقتصاد البازار يمثل نموذجًا رائعًا لمحاكاته وإعادة بنائه في هذا المجال.
المصدر: لوب لوغ