الكل يعلم أن سيادة الدولة هي إحدى المقومات الرئيسة التي تُبنى عليها نظرية الدولة ببعديها القانوني والسياسي، وعندما نقول بأن دولة ما هي دولة ذات سيادة، فهذا يعني أن هذه الدولة تمتلك الحق المطلق بإدارة شؤونها السياسية والاقتصادية والعسكرية، كما أنها تتمتع باستقلالية بإدارة سياستها الخارجية من حيث التخطيط واتخاذ القرار، وجعل المصلحة الوطنية العليا هي الأساس الذي تُبنى عليه تحركاتها الخارجية.
ويرتبط مفهوم السيادة بمفهوم الاستقلال، فالدولة المستقلة هي الدولة السيدة القادرة على ممارسة مظاهر سيادتها على الصعيدين الداخلي والخارجي بحرية دون تدخل من أحد، فالسيادة هي التي تخول الدولة الحق بالتشريع وتطبيق قوانينها ومحاكمة الأشخاص والأفعال داخل إقليمها الوطني، والحق بالدخول في علاقات مع الدول الأخرى، وعقد الاتفاقات والمعاهدات الدولية وإرسال ممثلين ودبلوماسيين يمثلونها في الدول الأخرى، والحق بالتمتع بالحصانات والامتيازات في الدول الأخرى وأمام محاكمها، وهذه هي الحقوق التي يشملها مفهوم السيادة في القانون الدولي، والسيادة هي التي تكفل المساواة والتكافؤ بين الدول واحترام الاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدولة، وتوجب عدم تدخل أية دولة في شؤون دولة أخرى، فالسيادة بكلمة مختصرة، هي التي تضمن لكيان سياسي ما وجوده واستقلاله ومساواته ونديته مع الكيانات السياسية الأخرى المكونة لمجتمع الأمم، وهي بهذا المعنى تتماشى مع مفهوم الاستقلال.
وبقدر تعلق الأمر بالعراق، فقد تعرضت السيادة العراقية ومنذ عام 1991 للتآكل شيئًا فشيئًا ابتداءًا من القرارات الأممية الصادرة عن الأمم المتحدة والتي قوضت بموجبها سيادة العراق السياسية والعسكرية، وأصبح العراق عمليًا تحت طائلة القرارات الدولية التي كانت تصدر بين الحين والآخر والتي استمرت حتى عام 2003 وانتهت باحتلاله وإنهاء وجوده السياسي كدولة ذات كيان مستقل وتحول إلى دولة خاضعة للاحتلال، وحتى بعد تشكيل مجلس الحكم الانتقالي في عام 2004 إلا أن السيادة العراقية ظلت منقوصة كون هذا المجلس لم يكن يمتلك الحق المطلق لاتخاذ قرارات سيادية دون أن يوافق عليها الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، واستمرت هذه الحالة حتى بعد انتقال السيادة للعراق، حيث أصبح العراق يمتلك السيادة القانونية دون الفعلية بمعنى أن العراق لم يتحرر مطلقًا من القيد الأمريكي الذي كبله باتفاقية أمنية الهدف منها تحويل العراق إلى صفة تابع دون صفة الحليف العسكري، وألحقتها باتفاقية الإطار الإستراتيجي التي لم يستفد منها العراق سوى الوعود الكاذبة والتي ألقت بظلالها على الواقع الأمني المتهالك، واستمرت حتى بعد الخروج الجزئي للعراق من طائلة الفصل السابع للأمم المتحدة.
ونتيجة لكل هذه المتغيرات تحول العراق إلى دولة خاضعة لإرادات إقليمية ودولية، وأصبح القرار السياسي العراقي الذي يمثل الأساس السيادي للدولة يمر بعديد من القنوات الرسمية وغير الرسمية السلبية التي تزيل الصفة السيادية عنه ليتحول بالتالي إلى قرار يخدم الأهواء السياسية والفئوية والبراغماتية المصلحية، مما شجع القوى الإقليمية المتصارعة بل وحتى الدولية لاتخاذه مسرحًا لتصفية صراعاتها وجعلها الأساس الذي تُبنى عليه مكانتها الإقليمية مستغلة حالة الفراغ الأمني والسياسي الذي يمر به البلد، ولعل هناك الكثير من الأسباب التي أدت لذلك أهمها: انعدام الثقافة الوطنية الجامعة وضعف تأثير الهوية والانتماء، فضلاُ عن غياب الأطر الرسمية التي تحكم العمليات السياسية المتعارف عليها في الديمقراطيات المتحضرة إذا ما أردنا أن نقول بأن العراق دولة ديمقراطية ذات مؤسسات.
وإتمامًا لما تقدم وبقدر تعلق الأمر بالموضوع، فقد طُرحت أيضًا العديد من المشاريع السياسية الهدف منها وضع سيادة العراق موضع الشك والتي كان آخراها مشروع القانون الذي تقدم به الكونغرس الأمريكي لإعادة التوازن بالعراق عسكريًا تحت مسمى “توازن القوى في العراق”، والذي كان الهدف منه تحويل العراق من دولة ذات كيان موحد إلى دولة طوائف وقوميات وملل.
وعليه فإذا ما أردنا أن نفك الاشتباك بين ما إذا كان العراق دولة ذات سيادة أم سيادة بدون دولة، فهذا يعني أنه لا بد من إعادة النظر بكل ما حدث منذ عام 2003 من خلال إعادة رسم مسار العملية السياسية بهياكلها ومؤسساتها وجعل المعيار الأساسي الذي تقوم عليه هي الديمقراطية الجماعية التي تستند على أساس المشاركة السياسية الفاعلة في صناعة القرار وجعل المواطنة والهوية الوطنية العراقية هي معيار التفضيل الوطني، فضلاً عن تغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الفئوية والإقليمية، وعدم فسح المجال للتدخلات الإقليمية والدولية وجعل العراق سيد نفسه، وعندها يمكن القول إن العراق قد تحرر من كل الإشكالات التي قد تشوه سيادته القانونية والسياسية.