“أحلام؟ وما الفرق بين الحلم والحقيقة إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ويترك آثاره في النفس والحياة؟”. سيد قطب
“تخاف من الخيال، وتخاف أكثر من الأحلام، من المسؤولية التي تبدأ في الأحلام، يمكنك أن تقمع الخيال وأنت مستيقظ أما الأحلام فلا يمكنك قمعها وأنت نائم”. هاروكي موراكامي
يكتب هاروكي موراكامي نوعين من الروايات، بصفة عامة فهاروكي موراكامي ليس من نوع الفنانين الملهمين الذين يسعون إلى إنتاج أعمال أصيلة متفردة في كل مرة يقرر فيها كتابة رواية، إنما هو حكّاء، كثير الكتابة والحكي، لذلك لا أحب أبدًا قراءة ما يكتبه عن الكتابة، أشعر وكأنه يقتل الروايات تمامًا يتحدث عن الأمر بوصفه فعل اعتيادي مكرر، مثل أنه يجب أن تجبر نفسك على كتابة عشرين صفحة يوميًا أو أن تكتب لمدة نصف ساعة بعد الاستيقاظ مباشرة وأشياء من هذا القبيل، لذلك أفضل الاستسلام للاستمتاع بقراءة رواياته دون محاولة تجاوز الصفحات إلى ما ورائها أو محاولة الوصول إلى الكاتب وأحمد الله أنه قليل الظهور لا يحب المقابلات ولا الحوارات إلى آخر هذه الممارسات الإعلامية.
كنت أقول إن هاروكي يكتب نوعين من الروايات، نوع يتميز بمزيج غير متجانس من الواقع مع الخيال، ونوع آخر يتميز بالواقعية أكثر، لا أريد أن أصدع رأسك بالحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة لكنني أحب أن أذكر على هامش حديثي أن موراكامي يتم تصنيفه تبعًا لأدباء “مابعد مابعد الحداثة”، ولمزيد من التأكيد على أن ما قرأته ليس خطئًا مطبعيًا سأذكره مرة أخرى بأسلوب مختلف، موراكامي يتم تصنيفه تبعًا لأدباء “مابعد مابعد الحداثة”.
ما يميز هذا التيار هو أنه يقف حائرًا بين الواقع والخيال، فالعالم لا يبدو عقلانيًا إلا أنه ليس عبثيًا أيضًا، هناك قدر لابأس به أبدًا من العقلانية تحكم كل شيء، لكن متى بالضبط تقف هذه العقلانية عن العمل لكي تحل محلها اللاعقلانية؟ ما هو الحد الفاصل بين الاثنين وكيف يعملان معًا؟!
يبدو أن هذه المشكلة هي أهم ما كان يؤرق قطب، فصحيح أن الله تجاوز عما توسوس به النفس ما لم يتحول إلى عمل أو كلام وهي إشارة عملية واضحة، إلا أنه ومن زاوية أخرى، فالإيمان يبدأ بما وقر في القلب، وبسبب هذه المشكلة التي كانت تؤرق قطب فقد قرر أن يعالجها بمحاولة للسيطرة على هذا العالم المتخيل، لهذا تظهر أفكار سيد قطب بوصفها طغيانًا للأفكار، وطغيان الأفكار هو تعبير يستخدمه فرويد لوصف حالة بعينها يختلق فيها الشخص عالمًا متخيلًا يحاول من خلاله التحكم في الواقع.
يقسم فرويد الواقع إلى واقع نفسي وواقع فعلي، هكذا يتم تفسير الممارسات الرمزية والسحرية التي كان يقوم بها الإنسان البدائي بأنها محاولة لإضفاء قوة سحرية على عالم متخيل يمكنه التحكم بمفعولها لكي يستخدمها في السيطرة على الواقع الفعلي، يطلق فرويد على هذه الممارسة طغيان الأفكار حيث تطغى الأفكار على عقل الإنسان فيتخيل أن بإمكانه تغيير الواقع عن طريق ممارسات متخيلة كالسحر أو الرقصات التقليدية ويتم تفسير الفعل الإيماني كالصلاة أو الدعاء بنفس الأسلوب وهكذا.
لسنا في مقام نقد قطب أو فرويد أو مناقشة فكرهما، إلا أننا نريد أن نشير إلى أن ما كان يؤرق قطب بشكل رئيسي هو أثر الأحلام والأفكار والخيالات على الواقع الفعلي.
بدأ سيد قطب كتابه معالم في الطريق قائلًا: “تقف البشرية الآن على حافية الهاوية بسبب إفلاسها في عالم القيم”، ماهو عالم القيم بالضبط؟ عالم القيم هو عالم يعمل في خيال الناس، أفكارهم وأحلامهم، لقد ذهب قطب إلى العالم الغربي، وأشهر ما يقال عنه إنه لم ينهزم أمام التقدم المادي للغرب وظل ينظر له بعين ناقدة، إلا أنني لا أعتقد أن الأمر كذلك، لم يكن قطب مهتمًا بالإجراءات، بصفة عامة لم يكن مهتمًا بالتقدم أو التأخر، ربما أكسبته هذه الزيارة للولايات المتحدة الأمريكية تصورًا بأن التقدم ممكن بسهولة، وأن التنظيم ليس صعبًا، لكن ما يقبع في خيالات هؤلاء المتقدمين هو ما يصعب التحكم فيه، لذلك قرر بناءً على ذلك أن أول خطوة لتربية الإنسان هي العزلة الشعورية، وليست العزلة الشعورية سوى محاولة للسيطرة على الواقع النفسي تمهيدًا للانتقال إلى الواقع الفعلي.
يقوم الراهب المسيحي التقليدي أو الزرادشتي أو البوذي بمحاولة مماثلة للسيطرة على عالم الخيال، هكذا يقرر اعتزال الناس، ربما يذهب إلى معبد في الصحراء أو كهف في جبل حتى يقضي وحيدًا، إلا أنه يقوم بذلك للخلاص من سيطرة الواقع الفعلي الملوث، على النقيض من ذلك اعتقد قطب أن الأحلام جزء من الواقع، ولم يستطع أن يجد فاصلًا بين العالمين، لذلك وبدلًا من الخلاص حاول أن يقيم جسرًا بين العالمين، حاول قطب السيطرة على هذا العالم تمهيدًا للسيطرة على الواقع الفعلي وليس من أجل الخلاص منه.
على نفس هذا الجسر بين العالمين يجلس شخص وحيد مرتبك ليس لديه مشكلة تجاه العالم، لا يريد الانتصار أو حل مشكلة ما، ليس لديه مشكلة مع ضغوط العائلة، أو احتياج شديد للمال يضطره إلى الكفاح من أجل الحصول عليه، متخرج من جامعة جيدة أو مازال طالبًا من الطبقة المتوسطة أو المتوسطة العليا يعمل في شركة كبيرة ويعيش مغتربًا في العاصمة، حياته مستقرة وبسيطة، هذا الشاب هو كل أبطال هاروكي موراكامي، ربما هو موراكامي نفسه، هنا تظهر المشكلة؛ الأحلام، ربما تخلق الأحلام مشكلات جديدة كما حدث في “كافكا على الشاطئ” و”1q84″، ربما تعيد مشكلات قديمة كما في “تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه” و”الغابة النرويجية”، عند هذه النقطة تحديدًا تنقسم روايات موراكامي بين الواقعية والخيالية، إذا قررت الأحلام إيقاظ مشكلات قديمة فالرواية فأحداثها تميل إلى الواقعية وإن بدأت مشكلات جديدة فهي من النوع الخيالي.
وخيال موراكامي ليس من فئة “الواقعية السحرية” كما هو الحال مع ماركيز مثلًا فليس هناك اختلاق لعالم سحري متخيل له قوانينه بل ما يحدث هو حوادث طارئة غريبة على الواقع الذي نعيشه لذلك تعتبر مزجًا يتميز بالسذاجة، والسذاجة هنا ليست حكمًا على الجودة وإنما هي تشبيه بسذاجة الأطفال، توصيف للخليط غير المتجانس البدائي، هنا تظهر المشكلة الكبرى التي تؤرق موراكامي وأبطاله، ما هو الحد الفاصل بين الواقعي والخيالي، فربما لا يكون الخيال خياليًا إلى هذه الدرجة!
في رواية كافكا على الشاطىء، أمطرت السماء سمكًا، هل تعتقد أنه أمر خيالي؟ حسنًا، هناك 11 حالة حقيقية مسجلة أمطرت فيها السماء سمكًا بالفعل، وحالتين أمطرت فيهما ضفادع آخرها مرتين حدثتا في 2010 في المجر.
يتحدث الدكتور أحمد خالد توفيق عن صديق له صاح غاضبًا بعد ربع ساعة من مشاهدته لفيلم سوبرمان: “رجل يطير! يا لهذا السخف”، فرد عليه دكتور أحمد قائلًا: إن مَن يشاهد فيلمًا اسمه سوبرمان؛ عليه أن يقبل قوانينَ اللعبة، وإلا فعليه أن يدير مؤشِّر القنوات إلى “ناشونال جيوجرافيكس”، إلا أنه يؤكد أنه وعلى الرغم من ذلك كان ليجن غيظًا لو تعرَّضَ سوبرمان لمادة الكربتونايت ولم يَمُتْ.
هكذا يستنتج دكتور أحمد أننا “قد نقبل الإيهام، لكننا كذلك نحبُّ أن يلتزم الإيهام بقواعده الفيزيائية الخاصة، وألَّا يبتعدَ عن خبراتنا كثيرًا”، يبدو لي هذا كلاسيكيًا قليلًا، هذه أفكار مناسبة في فترات جلس فيها العقل على عرش العالم، كان هذا منطقيًا عندما كان هناك طموح إنساني للسيطرة على كل شيء في الطبيعة والتحكم في كل تفاصيل الحياة، وإنتاج فن له فكرة مركزية واضحة وإمكانية تقييمه بشكل موضوعي، إلا أن تراكم خبراتنا في الواقع يثبت أنه إذا كان هناك شيء خيالي بالفعل فهو الواقع وليس الأفلام أو الروايات، هكذا يظهر موراكامي كأحد أدباء جيل يعي مدى سيريالية الواقع الذي نعيشه وعقلانية الخيال المكتوب في الروايات، لذلك يختار الوقوف على الجسر الذي يربط الخيال بالواقع لا يملك من أمره شيئًا، لا يحب الواقع، وعندما يقرر الهرب إلى الأحلام يفيق بعدما يجد أنه عاد إلى الواقع مرة أخرى، بينما كان سيد قطب أكثر طموحًا من موراكامي، قرر قطب التفكير بشكل مباشر في أنه وعلى الرغم من “أن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة، ولكن أضر منه وأخطر التنكر للمجهول وإنكاره، واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به”، لذلك لجأ إلى العزلة الشعورية في محاولة منه للسيطرة على هذا المجهول تمهيدًا لعبور الجسر متجهًا للسيطرة على الواقع.
“خيالات! وما الفرق بين الخيال والواقع، وكلاهما طيف عابر يلقي ظله على النفس ثم يختفي من عالم الحس بعد لحظات؟”. سيد قطب
“ربما كان كل ذلك حلمًا، لكنه لايزال غير قادر على الهرب من الإحساس، وبشكل لا يمكنه تحديده، بأنه كان مسؤولاً”. هاروكي موراكامي
ربما لايوجد تشابه بين قطب وموراكامي، ربما لو قرأ قطب إحدى روايات موراكامي لاعتبرها إنتاجًا مريضًا مشوهًا لشخص لا يملك أي موهبة أصيلة، وربما لو قرأ موراكامي لقطب لقال إنه شخص سلطوي متطرف ضيق الأفق، إلا أنني ليس لدي شك أن مبعث هموم الرجلين واحد.