يخوض الأكراد الانتخابات البرلمانية التركية المزمع إقامتها في مطلع شهر يونيو المقبل، هذا ليس خبرًا جديدًا بأي حال من الأحوال، فالأكراد يخوضون الانتخابات منذ فترات ماضية طويلة ولكن على هيئة أكراد مستقلين، ولكن هذا العام يخوض الأكراد الانتخابات ككتلة حزبية يمثلها حزب سياسي، ألا وهو حزب “ديمقراطية الشعوب” بزعامة المرشح الرئاسي الخاسر صلاح الدين ديمرطاش، الذي يقود الحملة الانتخابية الحالية للحزب في الانتخابات البرلمانية.
فطالما قبل بعض الأكراد خوض الانتخابات بهذه الصورة الحزبية، فإنه بحسب القانون عليهم تحصيل 10% من أصوات الناخبين الأتراك كي يتمكنوا من الدخول إلى البرلمان التركي، وهو تحد جديد من نوعه يواجهه الأكراد الحزبيين هذه المرة، لكن إذا ما تخطوه فإن الفرص السانحة أمامهم كنتاج عبورهم هذا الامتحان ستكون عظيمة جدًا، فإمكانية مشاركتهم في حكومة ائتلافية مع الحزب الذي سيتمكن من حصد غالبية المقاعد ستكون واردة، وستكون لهم مشاركة فاعلة في صناعة القوانين الداخلية التركية، وهو ما سينعكس على أوضاعهم بالطبع.
الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية تسعى لتصفير مشاكلها الداخلية الملحة، لتتفرغ إلى أزمتها الكبرى مع ما تُطلق عليه الكيان الموازي، فالمسألة الكردية والمصالحة معها على رأس أولويات واهتمامات الحكومة التركية في الفترة الحالية، وهذا الأمر أنتج شبه اتفاق مبدئي للمصالحة الداخلية مع حزب العمال الكردستاني الممثل الأبرز للقضية الكردية في الشارع التركي بقيادة زعيم الحزب عبدالله أوجلان.
التعامل التركي المركزي مع قضية الأكراد منذ العهود التاريخية القديمة أدى إلى تشويه الصورة الذهنية للحكومات التركية المتعاقبة بمختلف تياراتها، والتي تعاملت مع القضية التركية كقضية انفصالية يجب مواجهتها بعنف فقط دون محاولة تسويتها، فأدى ذلك لتصنيف تركيا كدولة قمعية في سجلات حقوق الإنسان، وذلك بالنظر إلى مقتل ما يقرب من 40 ألف كردي واعتقال الآلاف منهم في النزاعات المسلحة مع حزب العمال الكردستاني، لكن مع صعود حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان إلى سدة الحكم بدأ البحث عن حل جذري لهذه المشكلة، رغم عدم استجابة الأكراد لمحاولات التسوية عدة مرات.
مع بروز صوت سياسي حزبي للأكراد في هذه الفترة التي تولت فيها حكومة العدالة والتنمية، تمكّن صلاح الدين ديمرطاش زعيم حزب ديمقراطية الشعوب من خوض الانتخابات الرئاسية التي أُقيمت في أغسطس من العام الماضي وفاز بها الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، كذلك يسعى حزبه الآن للتوغل في الشارع السياسي الكردي لحصد أكبر قدر من الأصوات التي تساعده على مجابهة العدالة والتنمية، ليتمكن من الوقوف أمام مخططات العدالة والتنمية لتحويل النظام السياسي في تركيا من برلماني إلى رئاسي.
فالحزب الكردي بزعامة ديمرطاش يقوم برنامجه الأساسي على مخالفة أردوغان وحزبه في كل شيء، حتى وصل به الحال إلى الاعتراف بقضية “مذابح الأرمن” مكايدة في الحكومة التركية، وهو أمر صادم لجمهور الشعب التركي بلا شك، ما يضعف من حظوظ حزبه في الانتخابات القادمة، لكن الرجل يراهن على الدعم الكردي بما أن حزبه ممثلًا للأكراد، كما يراهن على دعم الأقليات الأخرى كالطائفة العلوية في تركيا التي يبدو وأنها ستصوت ضد العدالة والتنمية إما لحزب الشعب الجمهوري المعارض أو الأقرب كما يرى محللون حزب ديمقراطية الشعوب الكردي، وهو ما يعول عليه الحزب ليمر إلى البرلمان.
يُتهم الآن هذا الحزب الكردي بأنه يستخدم القضية الكردية لابتزاز الحكومة، فالأكراد أنفسهم يتهمون ديمرطاش بالمزايدة على الأب الروحي للقضية التركية عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل حاليًا، حيث يروج ديمرطاش لرغبته تحسين شروط التفاوض مع الحكومة التركية في إطار محادثات التسوية، متناسيًا بذلك أن من سمح لحزبه أن يُولد في الشارع الكردي هو أوجلان نفسه.
فسلسة الإصلاحات التي تبنتها حكومة العدالة والتنمية في الآونة الأخيرة، في اتجاه تعزيز حقوق الأكراد في تركيا لا يراها ديمرطاش كافية، فقد سمحت الحكومة التركية باستخدام اللغة الكردية وأعطت الحق للأكراد في إطلاق أسماء كردية على قراهم ومدنهم الخاصة، ولكن الفئة الكردية التي يتزعمها حزب ديمقراطية الشعوب ترى أن كل هذه الخطوات لا أثر لها على أرض الواقع، ويرون أن الحكومة التركية تتفلت من إنجاز تعهدات أكثر عملية من هذه الخطوات.
من جهة أخرى، فالحكومة التركية على لسان رئيس وزرائها من ألمانيا أحمد داوود أوغلو تحدث عن ضرورة تنحية سلاح الأكراد جانبًا حتى تسير محادثات السلام بعد الانتخابات بصورة إيجابية، فالعدالة والتنمية حريصون كل الحرص في هذه الفترة بالتحديد على دمج الأكراد في العملية السياسية، لكن هذا الأمر غير معروف إن كان في مصلحة مخططاتهم السياسية أم لا، فأمر تغيير الدستور عقب الانتخابات بالتأكيد سيحتاج موافقة سياسية كردية إذا ما نجح حزبهم في دخول البرلمان، وهو بهذه الصورة أمر غير متوقع لأن الحزب يعد نفسه حزبًا معارضًا للعدالة والتنمية، بينما ترك الأحزاب الكردية المعارضة للتسوية مع الحكومة في الشارع بهذه الصورة قد يضر بعملية المصالحة التي يتبناها حزب العمال الكردستاني.
حرص الحكومة التركية على تهدئة الأجواء مع الأقليات وخاصة الأكراد قبيل الانتخابات واضح للغاية، فبعد خروج زعماء الأكراد إلى الدول الأوروبية لجمع أصوات الناخبين وفق ما أوردته صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، خرج بعدها رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو إلى ألمانيا محدثًا الجالية التركية هناك بقرب حل القضية الكردية، بالتزامن مع انطلاق حملات دعائية لحزب العدالة والتنمية في الخارج.
الانتخابات التركية القادمة بالنسبة للأكراد هي خيار سياسي قد ينجح وقد يفشل ولكن حتى الآن هي أحد خيارات الزعيم الكردي أوجلان، الذي اختار طريق الحوار مع الحكومة كابحًا بذلك جماح الفصيل المسلح لحزب العمال الكردستاني الذي يريد التفلت من التهدئة مع الحكومة التركية، ويرى في هذا الحوار مماطلة من الحكومة التركية لكسب الوقت، ولكن حتى الآن فإن أوجلان بدا ناجحًا في ضبط وتيرة العنف وإن ظهر بعض التفلت من قِبل العناصر المسلحة في حزبه.
وعلى الحكومة التركية أن تدرك أن نظائر الحزب في العراق وسوريا قد حققت نجاحات في وجهة نظر الأكراد في تركيا، وهم ينتظرون مثيلاتها في تركيا، وبالطبع فهذا خطر محدق على حكومة العدالة والتنمية إداركه، فإذا لم تتم تسوية سياسية للقضية فإن عودة الصراع المسلح خيار وارد جدًا، خاصة مع تحفظ فئات من الأكراد على ما يتم من حوارات مع الحكومة التركية الحالية، كما أن المسار السياسي الذي يخوضه حزب ديمقراطية الشعوب هو أحد عوامل تهدئة الشارع الكردي على أمل أن يثمر عن حل عادل لقضيته عن طريق دخوله البرلمان، ولكن مخاوف العدالة والتنمية تقول إن دخول الأكراد بصورة حزبية كبيرة إلى البرلمان سيزيد من مقاعد المعارضة لا أكثر، وهو ما سيعود بالسلب على تطلعات الحزب، وعلى الجانب الآخر إذا لم يتمكن الأكراد من الاندماج السياسي سيكون انفجار القضية الكردية على الساحة قاب قوسين أو أدنى، وهذا ما يضع الحكومة التركية الحالية بين نارين.