الأحداث الساخنة في الشرق الأوسط وتزايد أعداد المعتقلين بسجون الأنظمة العربية ربما أنستنا بعض الشيء النظر إلى وضع أكثر من 6000 أسير فلسطيني يقبعون في سجون الاحتلال الصهيوني، وأنستنا أيضًا متابعة أخبار أسير كان له تأثير بارز في تاريخ المقاومة الفلسطينية لاسيما حركة حماس وكتائب القسام.
عبد الله البرغوثي
ذاك الأسير هو عبدالله غالب البرغوثي الذي اعتقلته المخابرات الإسرائيلية أثناء معالجته لابنته “تالا” في أحد مستشفيات رام الله منذ 12 عامًا، والذي يُعد صاحب أعلى حكم صدر بحق أسير فلسطيني، حيث حكمت عليه محكمة عسكرية إسرائيلية بالسجن 67 مؤبد و5200 سنة سجن، لمسؤليته في مقتل 66 إسرائيليًا وإصابة العشرات بجراح خلال الفترة بين العام 2003:2000، وصدر الحكم بعد عدة أشهر من اعتقاله قضى ثلاثة منها تحت وطأة التعذيب المستمر.
“أقلام البندقية”، كانت المجموعة الأخيرة من الكتب التي أصدرها أمير الظل من محبسه في سجون الاحتلال الصهيوني، والتي يتحدث فيها عن تجربته الجهادية في مقاومة الاحتلال، والتي يبدو أنها أثارت غيظ السلطات الإسرائيلية، فقامت بنقله مطلع مارس الماضي إلى العزل الانفرادي بسجن نفحة، بالإضافة إلى تنكيلها به والتحقيق معه، ومنعه من الحصول على دوائه ما أصابه بالتهاب حاد في اللوزتين، علمًا بأنه كان ينتوي استئصال لوزتيه أثناء وجوده في سجن ريمون.
أكدت أسرة البرغوثي بعد التواصل الشخصي معهم، أن وضع الأسير الصحي استقر بعض الشيء بعد سماح إدارة سجن نفحة بدخول الأدوية له، رغم إبداء الأسرة تخوفها من إمكانية أن يكون الدواء غير مناسب لحالته المرضية وعدم ثقتها في إدارات سجون الاحتلال، إلا أن الأسرة أكدت أن وضعه مستقر حتى الآن، معتبرين وجوده في العزل الانفرادي بنفحة أفضل السيء في هذه الأحوال، مؤكدين أن ما تعرض له من مضايقات أخيرة لم تثنيه عن الانكباب على تأليف الكتب وكتابة خبراته في المقاومة بها، رغم أن المضايقات الأخيرة كانت بسبب كتابيه “الحمساوي”، و”القسامي” من مجموعة “أقلام البندقية”، فيبدو أن الأسير لن يثنيه شيء عما عزم عليه من إيصال أفكاره.
منذ اعتقاله في العام 2003 لم تتمكن أسرته سواء أكان والديه أو زوجته وإخوته من زيارته في سجون الاحتلال، وكان الرجل قد خاض معركة الإضراب عن الطعام في أبريل من العام 2012 لرؤية والديه الذين لم يراهما منذ عام 2000، فيما تعد طريقة تواصل الأسرة الوحيدة بالبرغوثي عن طريق المحامي الخاص به، أو بعض الزيارات الاستثنائية لأطفاله “تالا، أسامة، وصفاء”، وبحسب أسرته، فكانت آخر تلك الزيارات لأبنائه قبل شهر من الآن.
رغم قلة السنوات التي قضاها الرجل الذي أُطلق عليه خليفة يحيى عياش مع المقاومة الفلسطينية منذ الانضمام لها عقب عودته لفلسطين أواخر التسعينات وحتى اعتقاله في العام 2003 إلا أنه قض مضاجع الكيان الصهيوني، إذ اعتبره الإسرائيليون صاحب أكبر ملف أمني في تاريخ الكيان الصهيوني، كذلك رفضت إسرائيل الإفراج عنه ضمن صفقة الأسرى التي تمت في أكتوبر من العام 2011، حيث أفرج فيها عن 1027 أسير مقابل الجندي الإسرائيلي المختطف “جلعاد شاليط”، إذ أملت حركة حماس حينها أن يكون البرغوثي واحدًا من هؤلاء الأسرى المحررين، ولكن رفضت السلطات الإسرائيلية بشدة أن تشمله تلك الصفقة.
فالبرغوثي بالنسبة للكيان الصهيوني ليس رجلًا عاديًا، فهو صاحب أكثر العمليات الاستشهادية قسوةً على الكيان الصهيوني، فإجمالي القتلى في صفوف الكيان الصهيوني نحو 66 والإصابات نحو 500 جريح في العمليات التي دبرها، حيث كانت أبرز تلك العمليات مقتل 15 صهيونيًا وإصابة العشرات والتي تمت في مطعم سبارو في القدس المحتلة في أغسطس 2001، وأخرى قتل فيها 35 صهيونيًا آخر وجرح 370 آخرون في عملية النادي الليلي في “ريشون لتسيون” قرب تل أبيب، وكذا عمليات الجامعة العبرية ومقهى مومنت وغيرها التي أوقعت عشرات القتلى والجرحى.
وفي لمحة سريعة عن نشأة هذا المقاوم، فهو فلسطيني الأصل أردني الجنسية ولد في الكويت عام 1972 ونشأ بها عدة أعوام قبل الانتقال إلى عمّان مع أسرته بعد غزو العراق للكويت في حرب الخليج الأولى، كما أنه سافر إلى كوريا الجنوبية حيث درس الأدب الكوري والهندسة الإلكتروميكانيكية وأتقن مجال الكومبيوتر والاتصالات والتفخيخ وصناعة المتفجرات، وبعد 6 أعوام قضاها بكوريا، عاد إلى الأردن مرةً أخرى مع زوجته الكورية التي انفصل عنها بعد ذلك لرفضها زواجه بأخرى أملًا في إنجاب أطفال.
وفي أواخر التسعينات سافر البرغوثي إلى فلسطين حيث تنتمي أسرته، وذلك من خلال تصريح إسرائيلي، إذ إنه لم يملك بطاقة هوية فلسطينية، وهناك تزوج أم أطفاله الثلاثة التي رافقته في رحلة المطاردة والتنكيل من قِبل الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية بالإضافة إلى أجهزة الكيان الصهيوني، وذلك بعد انضمامه للمقاومة الفلسطينية مع اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000، حيث بدأ قصة انخراطه مع القسام بحقيبة من إرث مهندس كتائب القسام يحيى عياش أهداها له شيخ مسن لتوسمه في البرغوثي أن يكون خليفة لعياش في إدارة العمليات التفجيرية بكتائب القسام، وقد كان.
ابن عمه “بلال البرغوثي” المحكوم عليه حاليًا بـ 16 مؤبد، هو من قام بدعوة المهندس للانضمام لكتائب القسام بأوامر من قائد الكتاب آنذاك أيمن حلاوة والذي علم بتجربة عبدالله البرغوثي التي قام بها أمام ابن عمه بتفجير في منطقة نائية قرب بيت ريما بواسطة قطعة صغيرة من مادة متفجرة، ومنذ ذلك الوقت عمل أمير الظل في كتائب القسام على إنتاج العبوات الناسفة والصواعق والمواد السامة من المواد الأولية كالبطاطا، بالإضافة إلى إقامته معمل خاص لتصنيع مستلزمات الكتائب العسكرية في إحدى مخازن بلدته.
اعتقلته السلطات الفلسطينية شهرًا في أغسطس من العام 2001 وحققت معه تحقيقًا قاسيًا طيلة تلك المدة حول علاقته بالجناح العسكري لحركة حماس، ومن وقتها لم يعد لمنزله وبدأ في رحلته من التخفي للإفلات من أجهزة السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال إلى أن اُعتقل بواسطة الاستخبارات الصهيونية في العام 2003 أثناء علاج ابنته، ولم تكن السلطات الإسرائيلية متيقنة من هويته، خضع بعدها إلى أقسى أنواع التعذيب في سجون الاحتلال والعزل الانفرادي لسنوات بسجن أوهالي إيكدار الصهيوني.
انكب البرغوثي خلال 12 عامًا من أسره في سجون الاحتلال الإسرائيلي على تأليف الكتب التي تسرد قصص مقاومة الاحتلال وأخرى لرواية قصته الجهادية، والبعض منها كان لحث الشباب على الانضمام لفصائل المقاومة الفلسطينة وتعليمهم أسس الجهاد، وغيرها سرد خلالها تجارب الأسرى في سجون السلطات الفلسطينية وسجون الكيان الصهيوني، ومن بين تلك الكتب: الماجدة، بوصلة المقاومة، الميزان، المقدسي وشياطين الهيكل المزعوم، فلسطين العاشقة والمعشوق، المقصلة وجواسيس الشباك الصهيوني، أمير الظل، وآخر كتابين كانا القسامي والحمساوي من مجموعة أقلام البندقية.
يبقى عبدالله البرغوثي رغم تلاطم أمواج الأحداث أسيرًا صاحب ذكرى خاصة في مخيلة المقاومة الفلسطينية وفي مخيلة الاحتلال أيضًا، ومهما غُيب اسمه خلف أسوار سجون الاحتلال هو والآلاف من الأسرى، تبقى ذكريات بطولاتهم تداعب خيالات الفلسطينيين كل حين.