بعض الذين وجدوا أنفسهم فجأة في قلب ثورات شبابية شعبية مليونية في أكثر من بلد عربي، قفزوا لتصدّر الثورات ليس بالدعم فحسب، وإنما أيضًا بمحاولة لعب دور قيادي في توجيهها، والتأثير في القيادات الميدانية، أو التي أوصلتها صناديق الاقتراع إلى مواقع الحكم الجديد، وراحوا يتصرفون كأن الصراع حُسِمَ من خلال صناديق الاقتراع وما عليهم الآن إلا أن يجعلوا من نتائجها مستقبل البلاد.
وفجأة أيضًا، ولم تمض بضعة أشهر، وربما سنة، وإذا بالأرض تميد تحت أقدام “العهد الجديد”، فيحدث الانقلاب، أو يصبح حدوثه شبه محتوم، أو تنقسم المكونات الاجتماعية والسياسية والفكرية انقسامًا حادًا وتذهب إلى الحرب الأهلية أو إلى حدودها.
هنا استفاق أولئك مندهشين إلى حد الذهول وضياع البوصلة، كما حدث لهم أول مرة، والثورات تحقق انتصاراتها، فإذا بهم يكتشفون أن قلب الأنظمة يصل إلى حد الاستحالة أو وصفها بالأنظمة التي لا تُقهر، وتصبح الدعوة إلى الخضوع لها (للاستبداد والفساد حسب وصفهم) أهون الضررين، إذا ما قورن بما راح يحدث من حرب أهلية، سفك دماء، فوضى، خسائر وويلات، وبلا بريق أمل.
ولعل التفسير النظري الأول لفهم مواقفهم في المرحلة الأولى، ثم انتقالها إلى النقيض المقابِل في المرحلة الثانية، هو القول إنه لم يكن في الإمكان لأحد في المرحلة الأولى والثورات الشبابية الشعبية المنتصرة في تونس ومصر واليمن – وليبيا برغم إشكال تدخل الناتو -، أن يتوقع انتكاستها، أو ضربها، أو حدوث انقسام عميق بين المكونات الأساسية للشعب والبلد، ناهيك من توقع الانتقال إلى الحروب الأهلية.
بداية هل يحق لهؤلاء أو لأي أحد منهم ألا يتوقع انتكاسة الثورات أو الانتقال إلى الحروب الأهلية، أم كان عليهم أن يتوقعوا ذلك بل يرونه حتميًا لو تذكروا، في حينه، ما عرفوه من تجارب عشرات الثورات التي انتقلت بعد إطاحتها برأس النظام إلى الدخول في مرحلة الحروب الأهلية والانقسامات الداخلية العميقة.
فالانقلابات العسكرية وحدها، وليس كلها، هي التي كانت تنتقل من عهد إلى عهد دون الانتقال إلى الحرب الأهلية، أو في الأدق دون انتقال الانقسام الداخلي الحتمي إلى مستوى الحرب الأهلية، أما الثورات الشعبية ابتداءً من الثورة الإنجليزية فالفرنسية فالروسية، وعشرات الثورات الأوروبية، ما دمنا نتحدث عن العصر الحديث، فقد انتقلت جميعًا إلى الحروب الأهلية، أو إلى عودة الديكتاتورية، أو إلى الانقلابات العسكرية، أو التدخلات الخارجية.
فمن أين جاءت مقولة ما كان لأحد أن يتوقع الثورة المضادة بالانقلاب العسكري أو الحرب الأهلية، لاسيما إذا لم يكن الجيش والأجهزة الأمنية قد حُلاّ (أو سُحِقا، حسب شرط ماركس ولينين لانتصار الثورة)، بل ألم تكن المقولة الصحيحة هي أن عدم توقع الانتكاسة أو الانقلاب أو الحرب الأهلية هو قصر النظر بعينه، أو الجهل بعينه، أو مناطحة البدهية بلا سبب أو تفسير، سوى الوقوع بخطيئة الإعجاب بالكثرة: “وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ” سورة التوبة (25)، أو الوقوع بغرور القوة وعدم تقدير الموقف تقديرًا صحيحًا، وفي مقدمة ذلك الإدراك العميق لموازين القوى القائمة أو التي يمكن أن تستجد وتقوم بعد حين، أي بعد التقاط الأنفاس من جانب المهزوم، هذا ويمكن أن يحضر بهذه المناسبة آية: “وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ…”، سورة الأنفال (48).
وإذا عدنا إلى التجربة الإسلامية الأولى فقد واجهت حروب ردّة خطرة، كادت أن تذهب بالانتصار إلى ما لا تحمد عقباه، وعليه قس حالة كل الثورات، ربما عدا الثورة التي تخرج من حرب أهلية منتصرة لتبني قواتها المسلحة والسلطة من جديد؛ إذ تكون قد شربت كأسها مقدّمًا.
ولهذا فإن عدم توقع ما حدث للثورات العربية كان سببًا من الأسباب للنتائج التي نعيشها الآن، وقد حال دون اتخاذ السياسات الصحيحة في إدارة الصراع، بعد أن أوصلت الثورة البلاد إلى مستوى الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
وهنا يمكن أن تُضاف مسؤولية الموضوعة المضلّلة، التي راحت تلغي صفة الثورة وتتجاهل ما تحمله من صراعات وانقسامات، وذلك بوصفها بالربيع العربي، فوصف الثورة بالربيع يولّد الوهم بأن البلاد انتقلت من الخريف والشتاء إلى الربيع ذي الأنسام الناعمة، فبدلًا من أن توصف الثورة بالخريف الذي تنتظره عواصف الشتاء ورعوده، وُصفت بالربيع، وذلك لتعزيز المقولة التي لم تتوقع حدوث ما حدث، من انقلاب أو انقسامات أو حروب أهلية.
لو وضع أولئك البعض أمام أعينهم مجموعة من البدهيات التي لا تحتاج إلى ذكاء استكشافي ولا إلى بُعد نظر، لأنها بدهيات يجب أن تؤخذ في الحسبان، بل بكل الحسبان، ومن ثم يُصار إلى إدارة الصراع وطرح السياسات المناسبة التي تحول دون الانهيار الذي حصل، وقد وصل إلى حضيض الحرب الأهلية.
فإذا كانت موازين القوى التي تبعت سقوط رأس النظام، وإدخال البلاد في مرحلة انتقالية لا تسمح بتحقيق أهداف الثورة بإقامة نظام جديد – يعكس ما اعتبرته أهداف الحرية والعدالة والديمقراطية -، وإنما تسمح أكثر لإعادة توليد النظام السابق، أو في الأدق تميل إلى بناء نظام مغاير يحمل في طياته أبعادًا من النظام السابق؛ لأن ما يُطاح به لا يعود كما كان وإنما لا بد من نظام جديد حتى لو كان استبدادًا جديدًا، وفسادًا جديدًا، واستخدم وجوهًا بارزة من وجوه النظام السابق.
فكيف يمكن أن تذهب الثورة من خلال صناديق الاقتراع إلى رأس الدولة أو تتسلّم زمام الحكومة، إذا كان الجيش والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة، وفي مقدمها القضاء، ضدها، ثم أضف قطاعات واسعة من المجتمع ضدها، ناهيك عن الذين يمسكون بالاقتصاد والمال خارج الدولة؟ إذا كان ميزان القوى الداخلي احتفظ بكل مراكز القوة خارج سلطة الثورة فكيف يجوز لأحد ألا يتوقع الانتكاسة والانقلاب والثورة المضادة؟
بل لقد أثبتت تجربة الثورات التي أطاحت بالجيش والأجهزة الأمنية وامتلكت زمام مراكز القوة بأن عليها توقع الانقسام الداخلي وصولًا إلى الحرب الأهلية، خصوصًا إذا كان الوضع العالمي والإقليمي مضادًا لها كذلك، فالحرب الأهلية والتدخل الخارجي سيكونان على الباب: مثل الثورتين الروسية 1917، والإسلامية الإيرانية 1979.
صحيح أن الإرادة هنا لا تستطيع أن تتغلب على ميزان قوى داخلي وخارجي غير مؤاتِ إلا بشق النفس وبخط سياسي صحيح وهي تملك القوة المسلحة، فكيف عندما يكون ميزان القوى الداخلي والخارجي غير مؤاتِ وهي لا تملك القوة المسلحة، وليس عندها ما تواجه به غير شرعية صناديق الاقتراع، وجزء من الرأي العام، حتى لو كان يملك أكثرية انتخابية، فيما القوى المتنفذة اقتصاديًا وماليًا وإعلاميًا وثقافيًا في المجتمع، ليست مع تلك الأكثرية، ومن حولها رأي عام لا بأس به معها: فنتائج المعركة هنا مقررة سلفًا في غير مصلحة الوضع الثوري الذي نشأ بعد إطاحة الثورة برأس النظام، وفرضها الاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
إن الخلل النظري الفاضح، وغير المسوّغ، وغير المفهوم يتلخص في القول إنه ما كان ممكنًا لأحد أن يتوقع الانتكاسة للثورة الشبابية الشعبية، أو يتوقع الانقسام الاجتماعي الحاد، والانقلاب والحرب الأهلية، حال دون اتبّاع سياسات صحيحة في إدارة الصراع لا تصل بالانتكاسة إلى ما وصلت إليه من عدائية وانقسام ودماء، وإنما كان بإمكانها أن تنتقل إلى وضع شبيه بما حدث في تونس، وهو يُعتبر تحقيقًا لتغيير نوعي أحدثته الإطاحة بنظام زين العابدين، وإن لم يذهب إلى ما ذهبت إليها أهداف الثورة أو أماني بعض الذين شاركوا فيها.
طبعًا إن الإشكال النظري والعملي يكمن في العلاقة بين الإرادة والخط السياسي من جهة، وميزان القوى غير المؤاتي الداخلي والخارجي من جهة أخرى، إنها علاقة معقدة ومركبة، وهو ما يعطي أهمية قصوى لصحة أو عدم صحة الخط السياسي والفكري في تقرير مصائر الصراع، ليس على مستوى الانتصار وتثبيته فحسب، إنما على مستوى الانكسار وإلى أي حد يمكن أن يصل، أو بعبارة أخرى إلى أي حد تكون الخسارة، أو إلى أي حد تنشأ معادلة جديدة مقبولة نسبيًا.
فبقدر ما يجب أن تُقرأ بصورة صحيحة ودقيقة موازين القوى، وبقدر ما يمكن أن يُعطى من أهمية حاسمة للخط السياسي والفكري الصحيح في إدارة الصراع؛ فإن السياسة كلها في الصراع تتوقف على حُسْن تقدير الموقف أو الخطأ فيه، ولعل أول ما يجب أن يُؤخذ في الاعتبار هو عدم الخطأ في البدهيات وفي الأساسيات التي تحكم كل صراع، مثلًا كالخطأ في عدم توقع الانتكاسة أو الانقسام عندما تنتصر الثورة في أولى مراحلها، وهنا يجب أن يُشار إلى النقيصة البشرية التي تلاحق المنتصرين حين يعجبون بكثرتهم ويصابون بغرور القوة ولا يدركون أن انتصاراتهم في الثورات، التي هي دائمًا نتاج اختلال في ميزان القوى السائد، مازالت تقف على رمال متحركة، فتراهم يجنحون إلى الاستئثار بأقصى ما يستطيعون الوصول إليه ويذهبون إلى إقصاء الآخرين ولا يحسنون إقامة التحالفات المتوازنة المتشاركة، والمساومات الضرورية، وإشراك المكونات الاجتماعية وإنصافها، حتى لو كانت لحظة القوة في مصلحتهم وتسمح لهم بالتهام كل شيء.
على أن الجانب الآخر من الصورة وهو الانتقال إلى النقيض بمستوى 180 درجة، حين تنتكس الثورة بعد نجاحها أو حين تدخل الأوضاع في الحرب الأهلية، فيميل التفاؤل المفرط بانتصار الثورة في مصر مثلًا إلى التشاؤم المفرط بإمكان الثورة أو بعدم إمكان الإطاحة بنظام وُصِف بالاستبداد والفساد والتبعية (التبعية هنا مركزية في نضوج الحالة الثورية والإقدام على الثورة).
إذا كان التفاؤل المفرط الذي لم يستطع أن يرى إمكان الانتكاسة أخطأ في البدهيات والأساسيات، مما شكل الأساس لما طُرِحَ من خط سياسي وفكري خاطئ في إدارة الصراع، فإن التشاؤم المفرط في عدم إمكان الثورة، وعدم إمكان الإطاحة بنظام الاستبداد والفساد والتبعية يخطئ أيضًا في البدهيات والأساسيات مما سيشكل أيضًا الأساس لطرح خاطئ سياسي وفكري، يذهب إلى الاستسلام والافتقار لروح المقاومة والممانعة.
إن الثورة وانتصارها كما انتكاستها أو الانقلاب عليها من البدهيات والأساسيات في سنن المجتمعات والتاريخ، فالتدافع بين هذين البعدين لن تجد له تبديلًا، فما من نظام مهما استبد وبدا قويًا وقاهرًا، يظل معرضًا لدخول مرحلة الهرم والشيخوخة ويحين أوان سقوطه، وما من ميزان قوى مهما بدا سائدًا وغير مؤاتِ إلا آيل إلى الاختلال والتغير العميق، فهذا وذاك حين يجتمعان سيظل الوصول إلى الثورة الشعبية التي تندلع في لحظة شيخوخة النظام واختلال ميزان القوى داخله، ومن حوله، أمرًا حتميًا وسنة لن تجد لها تبديلًا.
فالتدافع المُشار إليه ينعكس على الأفراد والأجيال، فهنالك من تذهب بهم انتكاسة الثورة إلى التشاؤم المفرط أو الاستسلام، ولكن هنالك الشعب الذي يشبه النبع الدفاق وهو يتدفق يومًا بعد يوم بأجيال من الشباب، لا يسمح لتشائم أن يسود، ولا يسمح لنظام استبداد وفساد وتبعية أن ينام الليل، من دون مقاومة وممانعة ومعارضة وصولًا إلى لحظة الثورة من جديد.
وهذا ما ينطبق أيضًا حتى حين تدخل البلاد في الفتنة والحروب الأهلية ويستسلم الكثيرون لهما، أو يذهبون إلى صب الزيت على نيران الصراعات المشتعلة، فسيخرج من قلب الفتنة والحروب الأهلية تيار الوحدة وإصلاح ذات البين ووقف التدهور ونزف الدماء، فتعلو الأصوات: “وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ” سورة الأنفال (46).
“وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا” سورة آل عمران (103)، بل ليعلو صوت الشعب أيضًا بنداء وحدة الشعب والوطن والأمة، بعيدًا عن تقسيم الشعب والأمة إلى مذاهب أو مكونات متعادية دينية أو إثنية أو قبلية أو جهوية، وبعيدًا عن سياسة الغلب والإقصاء كذلك.
نُشر هذا المقال لأول مرة في موقع عربي 21