النظام السوداني: إما أنا أو الفوضى

277

أعلن الجيش السوداني منذ عدة أيام أنه كبّد متمردي حركة “العدل والمساواة” خسائر في الأرواح والعتاد، ضمن اشتباكات وقعت بين قوات من الجيش وعناصر من الحركة المتمردة في دارفور، حيث أعلن العميد عادل عمران قائد اللواء 22 بالجيش السوداني الذي اشتبك مع مسلحي الحركة، أن قواته اشتبكت مع مجموعات مسلحة تابعة لحركة العدل والمساواة كانت متجهه صوب العاصمة الخرطوم، وتمكّنت قوات الجيش السوداني من صد هذا الهجوم، وأوقعت خسائر في الأرواح والعتاد في قوات المهاجمين بالقرب من منطقة جبل سي.

هذه ليست المرة الأولى التي تتحدث بها الحكومة عن صد هجوم للمتمردين، لكنها تأتي في وقت مريب بعد إعلان نتائج الانتخابات باكستاح حزب المؤتمر الوطني لها كما كان متوقعًا، فالجيش السوداني قد أعلن يوم 26 من الشهر الماضي عن التصدي لتسلل من قوات حركة العدل والمساواة المتمردة إلى جنوب دارفور قادمة من دولة جنوب السودان، بمنطقة النخارة، وتكبيدها خسائر فادحة، متهمين دولة الجنوب بالضلوع في دعم الحركة.

من جانب حركة العدل والمساواة فقد أصدرت بيانًا اعترفت فيه بهزيمتها في هذه الواقعة أمام القوات الحكومية، وتوعدت بالرد في وقت قريب، حيث أوردت في بيانها: “تعترف الحركة بأنها لم تكسب معركة النخارة بمقاييس الكسب عندها أو بالصورة التي عهد الشعب السوداني كسبها للمعارك طوال سنين الثورة، كما تعترف بأن بعضًا من رجالها وقعوا في الأسر، وأن فريقًا منهم نال الشهادة، وأنها خسرت بعض الآليات والعتاد التي غنمتها في الأصل من النظام، ولكن خسائرها لا تتجاوز ربع ما يتشدَق به رأس النظام وزبانيته من المرتزقة المأجورين، وأنهم وإن رقصوا اليوم فرحًا بنتائج المعركة فسيبكون قريبًا في معارك فاصلة قادمة”.

المعارك بين الحكومة السودانية المركزية في الخرطوم وقوات المعارضة المسلحة المتمردة لم تنته منذ زمن طويل، وإن هدأت جذوتها في بعض الفترات، فقد نشأت حركة العدل والمساواة على يد أبناء قبيلة “الزغاوة”، بعد الانشقاق عن حركة تحرير السودان عام 2001، وبعدها بدأت نشاطها العسكري في فبراير 2003، ومنذ ذلك الوقت والمواجهات المسلحة لم تنقطع، رغم محاولات إبرام اتفاقيات تنهي أزمة الصراع في دارفور المصدر الأساسي لحركات التمرد بعد انفصال الجنوب.

لكن النظام السوداني دائمًا ما يركز على قضية مواجهة هذه الحركات المتمردة، الذي عادة ما يصفها بممارسة الإرهاب المسلح على الشعب، وفي هذا يُتهم النظام باستخدامهم كفزاعة سياسية وأمنية لمواجهة الضغط الاقتصادي والسياسي، وإظهار حادث مثل هذا عقب الانتخابات مباشرة لا يراه البعض من قبيل الصدفة، وإنما يروج النظام لرواية تصديه لتوجه قوات تابعة لحركة العدل والمساواة إلى العاصمة الخرطوم مع الحديث عن العواقب الوخيمة لمثل هذا الأمر إذا نجحوا فيه، بينما تشير مصادر إلى أن هذه القوات كانت تنقل مؤن للحركة ليس إلا، وأمر مرورهم إلى العاصمة الخرطوم أو الاقتراب منها شبه مستحيل، حيث إن المسافة إلى العاصمة تبلغ أكثر من 12 ساعة، وبه من الاستحالة أن تمر هذه الأرتال العسكرية دونما تلاحظها قوات الجيش المنتشرة طوال الطريق.

كل هذا الأمر إنما هو من  قبيل الحديث عن ارتباط الأمن بوجود النظام الحالي، وأنه بدون هذا النظام الذي اكتسح الانتخابات الأخيرة بصورة فجة، سوف تعاني السودان من فوضى حركات التمرد المسلحة، وهذا يعيد إلى الأذهان عملية دخول عناصر مسلحة من حركة العدل والمساواة إلى مدينة أم درمان في مايو من عام 2008، هذه العملية التي عرفت باسم “الذراع الطويل”، حيث تحركت 220 عربة عسكرية، محملة بأكثر من 2500 مسلح تابع للحركة لمدة خمس أيام، حتى تمكنوا من الوصول إلى مدينة أمدرمان التي تمثل إحدى المدن الثلاث التى تتشكل منها العاصمة القومية المثلثة “الخرطوم”.

هذا الهجوم قالت عنه الحكومة على لسان وزير الدفاع آنذاك الفريق عبد الرحيم محمد حسين، أمام البرلمان السوداني بعيد صد الهجوم، إن قوات العدل والمساواة جاءت فى 3 مجموعات رئيسية، كانت إحداها تستهدف الوصول إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون بأم درمان والثانية والثالثة كانتا تقصدان القصر الجمهورى والقيادة العامة للجيش بالخرطوم وأوضح أنه قد تم التصدى للمجموعة الأولى التي جاءت عن طريق شارع العرضة بأم درمان، وحسمت في زمن وجيز، وأن القوات المسلحة تصدت للمجموعتين الثانية والثالثة عند جسر الإنقاذ الذي يصل بين مدينة أم درمان ومدينة الخرطوم، حيث يوجد القصر والقيادة العامة للقوات المسلحة وحسمتها أيضًا في أقل من ساعة.

لكن التساؤل هو كيف قطعت هذه القوات الكبيرة حسب تصريحات النظام السوداني كل هذا الطريق من دارفور إلى العاصمة دونما ملاحظة جوية أو استخباراتية، وجاء الرد الحكومي على هذا التساؤل مثيرًا للسخرية، حيث أكدت الحكومة أنه قبل أن تصل هذه القوات إلى العاصمة بيومين، كان قد تم رصدها بواسطة سلطات ولايتى الشمالية وشمال كردفان، حيث رصدت منطقة “سودرى” بولاية شمال كردفان، إذن كان هناك وقت كافٍ لمواجهة هذه القوات المتمردة خارج العاصمة لعدم إحداث هذه التلفيات والذعر في المدينة والخسائر في الأرواح بين المدنيين، ولكن لماذا انتظرت الحكومة حتى تمكنوا من الدخول إلى مدينة أمدرمان، ثم بدأت في مهاجمتهم والقضاء عليهم في غضون ساعات كما أشارت التصريحات الحكومية حينها؟

الحكومة السودانية بررت ذلك بقولها إن القوات المهاجمة تم تعقبها بسلاح الطيران إلا أنها كانت تسير ليلاً وتتوقف نهارًا، وأنها لجأت إلى مناطق يوجد بها مدنيون، الأمر الذى حال دون قدرة الطيران السوداني على ملاحقتها بشكل كبير، بالإضافة إلى إذاعة تبرير بخصوص الطائرات السودانية المستخدمة في تتبعهم، بوصفها طائرات سوفيتية قديمة الصنع، تستخدم في قصف أهداف عريضة وثابتة فقط، وليس في متابعة أهداف صغيرة متحركة بسرعات عالية، وكل هذه تبريرات لا تغني ولا تثمن من جوع في الحقيقة.

وخلاصة القول إن الحكومة أرادت بالفعل لهذه القوات أن تدخل إلى مشارف العاصمة، وتركتهم بضع ساعات بين المدنيين، لتري المدنيين أنه بدون هذا النظام سوف تكون هذه الحالة السودانية، حيث السرقة والنهب والقتل والفوضى بسبب الحركات المتمردة المسلحة، حيث أكد متابعون أنه بمجرد وصول رسالة النظام إلى الناس، خرجت قوات الجيش السوداني للقضاء على المجموعات المسلحة التابعة لحركة العدل والمساواة في غضون ساعات قليلة معلنة السيطرة الكاملة على مدينة أم درمان، ليظهر النظام وأمنه بصورة المنقذ للشعب السوداني من هذه الفوضى المحتملة، وبالفعل فقد رُسخت هذه القناعة عند قطاع كبير من الشعب السوداني الذي يرى أن أمنه في بقاء هذا السودان، مع ضرورة إغفال دعوات إصلاحه أو إسقاطه لأن البديل الذي يروج له النظام هو الفوضى المسلحة.

فالحكومة السودانية دائمًا ما تروج أنها صبرت على ممارسات وانتهاكات المتمردين وسعت للحوار والتفاوض معهم دون جدوى، كما يؤكد النظام دومًا أن هذه الحركات ظلت تمارس الإرهاب والقتل والترويع وتخريب الاقتصاد، ولا مانع من ظهور حادثة يخرج فيها أمن النظام بطلاً وحاميًا أمام العامة كل حين، وهو ما يراه البعض قد حدث في الإعلان الأخير عن التصدي لقوات من العدل والمساواة، حيث يستخدم النظام السوداني متلازمة الأمن مقابل الحرية.