“إحنا اتفقنا على كِده!”
عبارة أطل بها إعلامي مصري على جمهور شاشته، محاولا أن يؤكد على ديمقراطية “رأس النظام”، ورحابة صدره في تقبل النقد، في وقت علتْ فيه أصوات الجوقة، وتراجع فيه هامش الحرية، فقد أعلن صراحة أن “رأس النظام” طلب من الإعلاميين في لقائه بهم أن ينتقدوه، وجرى الاتفاق على ذلك، وكأن حرية الانتقاد والمعارضة منحة تُنعِم بها السلطة على أشباه المعارضين ليمارسوها على استحياء، وليست حقًا مكتسبًا، لا ينبغي لأحدٍ أن يتدخل فيه، ومعنى سماحه لهم بالانتقاد، أن الجو القائم لا يسمح بالانتقاد إلا بتصريح!
ومن يتابع الإعلام المصري بمختلف صوره وأشكاله، ير عجبًا؛ ويصل إلى درجة تقارب اليقين بأن من يدفع للزمار، يسمع اللحن الذي يريد، وأن رؤوس الأموال هي التي تتحكم في معظم وسائل الإعلام وتوجهاتها، وأنها تسعى لتشكيل الرأي العام بما يدعم مصالحها التي لا تتوافق غالبًا إلا مع مصالح فئة ضئيلة من المستفيدين من الأنظمة الحاكمة وسياساتها، وإذا كان المواطن البسيط الفقير قادرًا على شراء الصحيفة لقراءتها، فهناك غيره من أرباب الأموال قادرون على شراء رئيس التحرير!
إن الطريق لإعلان الكلمة الصادقة والدفاع عنها، أو المعارضة الصادقة والثبات عليها، ليس محفوفًا بالورود، بل هو طريق محفوف بالمخاطر، قد يفقد المرء في سبيلها حريته، وقد يُضيق عليه في رزقه وفي عمله، بسببها. لكن، من يملكون إيمانًا بعدالة قضيتهم وصدق مواقفهم، لا يتزحزحون عنها، ويصمدون في مواجهة الأعاصير صمودًا شامخًا لا يتزعزع.
وكما يشيع أن معظم الداعمين للأنظمة الحاكمة هم من الممالئين لها، فليس معظم المعارضين من هذه الممالأة والمداهنة ببعيد، فليست كل معارضة تتمتع بالصدق، فأكثر الأنظمة السياسية تصنع معارضيها على عيْنِها، وتقدم لهم الحوافز والامتيازات الخافية والمعلنة أحيانًا، كما هو شأنها مع داعميها، وليست قصة “الأذرع الإعلامية” منا ببعيدة.
وقد تنطلي على بعض الناس حِيل أكثر المعارضين، فيظنون بهم الصدق والوطنية والانحياز للشعب، لكن هذا الخداع سرعان ما يتكشف في مواقف عديدة، قصدوها أو لم يقصدوها، فتكشف المواقف توقيتات معارضتهم ودوافعها، كما تكشف أيضًا عن “الخرس السياسي” الذي حاق بهم في مواقف أخرى كانت تستدعي انتفاضة وصراخًا في وجه الأنظمة، فما صدرت عنهم بادرة حياة! وليستْ “جبهة الإنقاذ”، وحركة “تمرُد” بعيدة عن واقع سيء نعيشه، بل أسوأ بكثيرٍ من الواقع الذي ادعت أنها تسعى لتغييره للأفضل، فتغيرت هي من شراسة المعارضة، غير المُررة غالبًا، إلى الكمون القميء المُدجن!
وكما أن من بين الداعمين للأنظمة من يكونون وبالًا عليها، بما يصدرونه من دعم مطلقٍ، يفتقد لأدنى بدهيات المنطق، فيقدمون أعظم خدمة يستثمرها المناوئون ضدها؛ هناك أيضًا من المعارضين الذين لا يرون في الأنظمة سوى وجهها الأسود، فيضخمون أخطاءها، أو يقعون في فخاخ كاذبة تنصبها الأنظمة لهم، فتفقد المعارضة الحقيقية زخمها وتأثيرها، نتيجة تلكم الحماقات والعجلة في إصدار الأحكام أحيانًا.
الأمم الناهضة تحتاج لداعمين يملكون من الوعي والإخلاص للحقيقة قدرًا وافرًا، كما تحتاج أيضًا لمعارضين يستضيئون بهذا الوعي، فأعظم إنجاز تقدمه المعارضة الحرة هو “تثوير الوعي” وإيقاظ الكتل الصلبة في الشعوب لتتحرك، وتكون مؤثرة في أوطانها، أما المعارضات الكرتونية التي تعمل وفق خطوط ملونة تضعها لها الأنظمة فلا تتجاوزها، فهي معارضة تعمل على تزييف الوعي وخلط المفاهيم.